شعار الموقع (Our Logo)

 

 

لم تأت محلية فيلم "نجوم النهار" من جنسية المخرج فحسب, بل من المناخ العام الذي صورت فيه وبه الأحداث ايضاً: في المكان والزمان عبر مجموعة من الوحدات البشرية والطبيعية صُبّ جزء كبير منها في مجرى الصوت امتطت كلها متن منحنية هندسية تبتدئ من الصمت المطلق مروراً بالهمس, فالكلام العادي, فالصراخ, الزعيق, البكاء, الشهيق, التنهيدات, النداء, المواويل, حفيف القبلات, الشخير.

ومن الوحدات الطبيعية: خرير المياه, حفيف الشجر, هديل الحمام, نقيق الدجاج, تغريد الطيور, هسيس حشرات الليل, فالآلية, كرنين الهاتف, منبه الساعة, صرير الباب, طلقات الرصاص, ابواق السيارات, ازيز الطائرات. اما الموسيقى فكلها عربية سورية خالصة عزفاً, غناء ومواويل.

حتى الصمت والهمس بدوَا محليين بدور وظيفي أسهم في تبئير الهوية المبتغاة, فـ"نجوم النهار" يبتدئ بمشهد صامت, او بالأحرى خال من الحوار دام نحو 15 دقيقة اثناء التحضير للعرس, تشرع بعده الكاميرا في نقل وحدات طبيعية للبادية السورية مغازلة اياها بلقطة بانورامية طويلة وذات ايقاع بطيء من اليسار الى اليمين تبدأ من الهضاب والسهول الخضر لتستقر عند شجرة طاعنة في السن يتفيأ ظلها الجد المسن. والفيلم كله لم يخل من اللقطات ذات المنحى الوثائقي من دون اخلال بالميسم الروائي بحكم ان محمد اسامة هو اصلاً مخرج وثائقي, وبالتالي لم تعمل هذه الوثائقية الشفافة إلا على تأكيد محلية الموضوع والذات المؤفلمين.

هذه الوحدات الآنفة الذكر حتى وإن وردت في فيلم سوري, فهي ليست حكراً عليه, بل تكاد تسري على مجمل العائلات العربية المتوسطة التي تكون السواد الأعظم من المجتمع وتعيش في حال وهم دائم على مستويات عدة, وظفها المخرج كما فعل سليمان سيسي مع بعض العناصر والوحدات الطبيعية والبشرية في فيلم "النور", والشيء نفسه نهجه المخرج الياباني الكبير أكيرا كوروزاوا بتوظيفه وحدات يابانية صرفة في فيلم "ران" على رغم غربية المصدر الأدبي: مسرحية "الملك لير" لشكسبير. هذا الإخلاص المتفتح - وليس الانغماس المغلق - في وللمحلية وذاتية المخرج المشرعة على الغير هو الذي يمنحه تأشيرة العبور الى "الدولية" ما يؤكد المقولة الشهيرة بأن: اضمن سبيل لبلوغ العالمية هو الإخلاص للمحلية.

ادب السينما

المنحى المحلي نفسه, الذاتي والأدبي يجسده فيلم "الليل" لمحمد ملص انطلاقاً من مسقط رأسه مدينة القنيطرة الحالمة في فيلمه الأول "احلام المدينة" والتي سعى العدو الإسرائيلي الى اجتثاثها من الخريطة الجغرافية من دون ان يتمكن من محوها من ذاكرة المخرج ووجدانه. هذه الذاكرة التي جسدها في الفيلم المذكور خلال خمسينات القرن الفائت وما كانت تعتلج به من قضايا وطنية وقومية من اهمها الوحدة بين سورية ومصر, ثم تراجعت الى الأربعينات في فيلم "الليل" الذي تزامنت وقائعه مع طفولة ملص المبكرة حينما فتح عينيه على نكبة 1948 لتستمر بتوسع اسرائيل في مقابل الضياع التدريجي لفلسطين الى ان تلاشى وهم الوحدة العربية, الشيء الذي ترك بذاكرته اخاديد عميقة من الحزن والأسى طفح بها "الليل", فأهداه الى "كل الذين جاهدوا من اجل فلسطين وماتوا من الصمت".

وبذا يمكن اعتبار "احلام المدينة" و"الليل" جزأين لفيلم واحد بعنوانين مختلفين لما تضمناه من قواسم مشتركة على رأسها الذاكرة الشخصية - مرحلة الطفولة, إذ ينهل المخرج من وقائع ذاتية لينحو بها نحو ذاكرة جماعية منطلقها القطر العربي السوري, مع ما يتميز به كلا الفيلمين من شعرية الحوار وشاعرية الصورة. هذا المنحى الأدبي هو الذي عبّر عنه محمد ملص نفسه في حوار سابق كاختيار واع ومسؤول من حين صرح: "اعتقد انني انتمي بأسلوب السرد الى جانب مهم كجزء لا يتجزأ من شخصيتي ألا وهو الأدب... فأنا احاول استخراج لغة سينمائية تجعل من الأدب تفتحاً لها وليس ثقلاً عليها. كما احاول ان امهر الأدب بعنـصر البصر كعـامل جـديـد عـلى مستوى الكتابة الأدبية, فببساطة, كما اريد ان ادعم النص الأدبي بمعالجة بصرية, اود تعزيز المعالجة السينمائية بمذاق ادبي".

وزيادة في التأكيد على سينما الأدب او ادب السينما لدى محمد ملص, خصوصاً في "الليل" فسيناريوه يفتتح بهذه العبارة في المشهد الأول:

"ستردد عبر مجرى الصوت الخارجي على خلفية سوداء في ليلة مقمرة, حيث يرنو صمت شامل لا تخدشه وبهدوء ناعم إلا بعض اصوات صراصير الليل", فجاءت هذه العبارة بمثابة توطئة غزلية تترنم بجلال الليل او مقدمة لقصيدة من الشعر الحر تفتح الشهية لمشاهدة الفيلم - القصيدة برمتها, كانت تردد بصوت جهوري هادئ (في البدء كان السكون... وكان الليل قد شجا... وكان القمر)".

ثم يحل المشهد الرابع مزكياً الطرح ذاته:

"لقد حل الليل الأزرق, ذهب الخيط الشاحب وبدأ خيط العتمة الأول بالحلول في الفسحة حيث يقع بيت الجد, متاع الأسرة بكامله وقد انتقل وتكوم عند باب البيت واختفت في العتمة الصور والأعلام والأصوات, وبقيت اغاني الجلاء تسمع من احد الراديوات البعيدة, الأم بملاءتها السوداء تتحرك هنا وهناك...".

فهذه العبارة من حيث الجانب الأدبي, ومن بدايتها تخلق لديك احساساً وتصوراً خاصاً لنوعية ذلك "الليل" المقصود - فوصفه بـ"الأزرق" اكثر شاعرية وأشد جمالية من وصفه مثلاً بالأسود - او البهيم - او الكالح... هذا السواد او القتامة التي تحل تدريجاً كما وصفها ملص بحلول "خيط العتمة الأول" في الفسحة, فهنا يبدو الإحساس الدقيق بالزمن لدى الكاتب السيناريست وتأثيره لدى المتلقي سواء أكان قارئاً ام مشاهداً للقطة عبر الشاشة او الطبيعة ذاتها.

اما من حيث الجانب السينمائي فالوصف هذا يمنحكك تصوراً شاملاً للمشهد على سائر المستويات التقنية والفنية المذكورة, فهو اولاً يساعد مهندس الإنارة على ضبط مصابيحه ودرجاتها الكهربائية, او يشير عليه بتغليفها بمرشحات رزق بنسب معينة بحسب ما يرغب فيه المخرج ثم مصحح الألوان في ما بعد. اما الأكسسوارات فهي واضحة - وإن بغير تفصيل سيرد حتماً في مرحلة التقطيع التقني عند بداية التصوير - فهناك متاع الأسرة بكامله وهناك الصور والأعلام, وعلى مستوى الصوت اغاني الجلاء ثم اصوات... اما من حيث الشخوص فتوجد الأم بملاءتها السوداء.

مؤلف رغماً عنه

يتبين مما سبق ان السينما السورية "سينما المؤلف رغماً عنه" على حد تعبير الناقدة السورية الزميلة دينا جبور. ولهذا الحكم السديد نتائج بليغة تثمن الطرح الفكري موضوع هذه الدراسة "رهانات المحلية في السينما السورية" والتي ترتبط كما مر معنا بعناصر عدة, اولها العنصر البشري الموقع للفيلم, المسؤول الأول عنه "المخرج" والمؤثث في الوقت نفسه لبقية العناصر البشرية ايضاً من ممثلين وتقنيين وفنيين, ولعنصري المكان والزمان وما بينهما من احداث وديكورات ووحدات محلية على مستويات: الأكسسوارات والملابس والموسيقى والمعمار السوري, وكذلك اللهجة مع مختلف التمظهرات الاجتماعية الاقتصادية والسياسية والثقافية المحلية, من دون إغفال عنصر قيّم يكاد يتوج السينما السورية الجادة بنسب مختلفة, ألا وهو العنصر "الأدبي" سواء بالاقتباس الكامل والمباشر, او النسبي, مروراً بالعناوين المنتقاة ذات النكهة الأدبية والفلسفية, الى لغة الحوار - حتى وإن وردت باللهجة السورية - وإنما مشفعة دائماً بعمق معنوي وثراء فكري, أوَلا يعتبر قول الأستاذ صباح لكريمته في "صعود القمر" ادباً حين يهمس في اذنها: "يا ابنتي, حين تهوي القيم ارضاً يصعد المطر"؟؟

وطبعاً قلما سلم إنتاج سينمائي من بعض الشوائب الممكن تداركها, نوردها في شكل ملحوظات ينسحب بعضها في الإغراق في المحلية الجد ضيقة من حيث لغة الحوار او بالأحرى اللهجة المحلية التي يصعب احياناً فهمها والتواصل مع شخوصها وأحداثها. كما ان قضية "القومية العربية" التي تدعو إليها السينما السورية نحت بكثير من المخرجين الى اتخاذ قضية "فلسطين" موضوعاً شبه دائم انطلاقاً من "المخدوعون" مروراً بـ"كفر قاسم" الى "احلام المدينة" و"ما يطلبه المستمعون". هناك مخرجون كادوا يصبحون نمطيين في اختياراتهم ولم يتمكنوا - بوعي او من دونه - من تجاوز ذواتهم. فمثلاً عبداللطيف عبدالحميد لم يستطع التخلص من التصور الفانتازي في جل افلامه على رغم جماليتها الفنية والشاعرية... ومحمد ملص لم يخلص بدوره من شرنقة الذات والمذكرات الشخصية لا سيما في مرحلة الطفولة, ولربما هذا ما حدا به الى التوقف عن إنجاز افلام مغايرة منذ ما يزيد على عشر سنوات ومثله محمد اسامة الذي توقف ايضاً المدة نفسها قبل ان ينجز فيلمه الثاني "صندوق الفرجة" بعد "نجوم النهار".

كما ان السينما السورية عانت وإلى حد التخمة من نوع من الدلال النقدي المحلي من فرط ما صفق لأفلامها جل النقاد السينمائيين وبحرارة الشيء الذي اصاب عدداً من مخرجيها بنوع من التواكل وتكرار الذات. هذا النقد المنبهر في البداية ثم "الملاطف" في ما بعد الذي غض الطرف عن كثير من السلبيات نطالعه في عدد وفير من المنابر الإعلامية العربية المتخصصة وغير المتخصصة, قد لا يتفق ونظرة الجمهور السوري العام الى سينماه, والتي لا يكاد يشاهد إلا نزراً يسيراً من افلامها في وطنه وفي بعض المناسبات (مهرجان دمشق السينمائي...), وذلك لندرة القاعات السينمائية في سورية وتدني مستويات غالبيتها التقنية والفرجوية, ما لا يشجع المواطن السوري على تكبّد مشقة الخروج من البيت لدفع ثمن تذكرة دخول الى قاعة سينمائية تجارية بهذه المواصفات, وتفتقر الى ادنى شروط النظافة لمشاهدة فيلم سوري, مفضلاً المكوث في البيت لمتابعة القنوات الفضائية التلفزيونية التي قد تجود بين الفينة والأخرى بفيلم سوري, الشيء الذي يحدو في النهاية الى طرح سؤال مركب:

- ما هو موقع السينما السورية في سورية؟ ثم الى اي مدى تخدم السينما السورية مسألة "المحلية" في وطنها...؟؟؟

جريدة الحياة في  30 يناير 2004

كتبوا في السينما

 

 

مقالات مختارة

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

بسام الذوادي ـ لقاء

      مهرجان البندقية.. يكرم عمر الشريف

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

آسيا جبّار عبّرت عن الهواجس الدفينة للمرأة

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

رهانات السينما المحلية (2)

من المحلية إلى آفاق السينما العالمية

المغرب/ خالد الخضري

 

 

 

 

 

 

 

مشهد من فيلم قمران وزيتونة