شعار الموقع (Our Logo)

 

 

نادرا ما شهدت الأفلام تمثيلات للمثليين الجنسيين خلال مئة عام من عمر السينما. وعندما كانوا يظهرون في بضعة مشاهد قليلة، كان ذلك إما بهدف إضحاك المشاهد على حساب المثليين والسخرية منهم، أو الإشفاق عليهم، أو الرهبة منهم. كانت تلك المشاهد الشحيحة عابرة في الأفلام، لكن الانطباع الذي خلفته على المثليين كان مستديما ولا ينسى.. ولم يفلت أحد من تأثير هوليود، فقد ساهمت في توجيه نظرة المشتهين للجنس الآخر وقولبة رؤيتهم بالمثلية الجنسية، وتركت اثرها على المثليين أنفسهم إن بكيفية التطلع إلى أنفسهم، أو إدراك رأي المجتمع نفسه فيهم. هذا ما تسرده لنا الممثلة ليلي توملين في الفيلم السينمائي الوثائقي <<خزانة السليوليد>> The Celluloid Closet (1996)، المقتبس عن كتاب <<خزانة السّليوليد: المثلية الجنسية في الأفلام>> لفيتو روسو Vito Russo (1946 1990)، إنتاج وإخراج روب ابستاين Rob Epstein وجفري فريدمان Jeffrey Friedman. يطلق الأميركيون تعبير <>، وتعني في الخزانة، على المثليين الذين يخجلون من هويتهم الجنسية ويتخفون عليها، أما السّليوليد فهي المادة التي يصنع منها الشريط السينمائي. يسلط الفيلم الضوء على جانب معتم ومهمل من تاريخ السينما، وفيه لقطات مقتطفة من 120 فيلماً، منتقاة من مئوية السينما الأميركية الأولى حصرا، تتضمن تمثيلات للمثليين، على نحو مباشر أو ضمني. ويؤرخ الفيلم لأول مشهد يصور علاقة مثلية، وأول شخصية مثلية سينمائية، وأول قبلة، وأول نظرة على أمكنة لقاءاتهم... تبنى المخرجان في فيلمهما أسلوب <<روسو>> نفسه، فقد كان الأخير قد عرض دراسته ومقتطفات الأفلام التي في حوزته في مهرجانات السينما الدولية حول العالم، واعتمد الكاتب على اقتطاف المشاهد العابرة في الأفلام، ومن ثم إظهارها بانفراد وباستقلالية عن سياق الفيلم العام، كي ينجلي واضحاً ما كان متخفياً من إيحاءات مثلية في المشهد. فعلى حد قوله، <<بمجرد اقتطاع المشهد العابر، تضخم قيمته وتشدد عليه وتجتذب كامل انتباه المشاهد ليلاحظ جيداً ما فاته خلال عرض الفيلم كاملاً>>.  

تمثيلات سلبية

يستضيف الفيلم عددا من العاملين في السينما، مثليين وخلافه، يتحدثون عن تجربتهم في السينما وعلاقتهم بها. أبرز السجالات المطروحة في الفيلم على لسان ضيوفه، ننقلها بتصرف، هي الآتية: إن الأفكار حول من تكون لا تنبع من دواخلك وحسب، بل من الثقافة. وفي هذه الثقافة (الأميركية) تجيئك الأفكار عن الذات من الأفلام على نحو خاص. تلقننا السينما ماذا يعني أن تكون رجلاً أو امرأة، حتى إننا نتعرف على الجنس من خلالها قبل اختباره في الواقع. وقد تمكنت السينما من إبلاغنا كيف ينظر المجتمع إلى المثلية الجنسية. وعندما يكون المرء مثلياً، ولا يجد أي معالجة سينمائية لمشاعره وأحاسيسه أو انعكاسا له على الشاشة الفضية، يشعر بأنه خفي أو شبح، قلة هي التي تصدق بوجود الأشباح، فيخامر المثلي إحساس بالعزلة واللاوجود. هناك حاجة كبيرة للفن، خاصة للفن الأكثر تشبهاً بالمرآة وهو الفن السينمائي، كي نشاهد حيواتنا ووجودنا فيه ومن خلاله. ويحس المرء، خاصة في الصغر، بجوع هائل لصور سينمائية تطلعه على هويته الجنسية المختلفة كي لا تنتابه الوحدة.

تنطبق صفة الكليشيه على معظم الشخصيات السينمائية المثلية في الربع الأول من تاريخ السينما. ويشير كاتب السيناريو أرثر لورنتس إلى أن هذه التمثيلات كانت مثيرة للاشمئزاز، وغير مضحكة، وما من مبرر لوجودها. لكن يخالفه في الرأي الممثل وكاتب السيناريو هارفي فيرستاين بقوله، <<هل هي تمثيلات سلبية؟ أجل، لكنني شخصياً أفضل السلبية على لا شيء، والمرئية بأي ثمن كان>>.

منذ بدايات السينما، استغلت هوليود المثليين، المخنثين على نحو خاص، كمصدر موثوق ومؤكد لتفجير الضحك في الصالات. وبينما كان المشاهدون يقهقهون لرؤية امرأة في زي ذكوري، لم يضحك أحد لمشهد رجل في ثياب أنثوية. واستمر ظهورهم السينمائي، المتزايد أبدا، لا يتعدى ان يكون أكثر من إيحاء بهويتهم الجنسية على أن تذكر مباشرة. إلا أن انفتاح الصناعة الهوليودية على المواضيع الجريئة وارتفاع حدة المشاهد الجنسية والعري أثارا حفيظة المتزمتين في المجتمع الأميركي وبدأت أصواتهم تصدح عالياً مطالبة بسينما متحفظة ومروّجة <<للأخلاق الحسنة>>.

كعادة الأديان ومساندتها، قامت الكنيسة الكاثوليكية والأصوليون البروتستانت بهجمة عنيفة على الأفلام في العشرينيات والثلاثينيات من القرن المنصرم، تزامنت مع صدور قرار <<ويل هايز>> وفرض رقابة ذاتية على الأفلام في الفترة نفسها. كان حظر مشاهد المثليين من أولويات لائحة الممنوعات الأخلاقية، والتي تضمنت منع مشاهد القبلات الشبقة والإغراء والاغتصاب والإجهاض والبغاء والعري. نادرا ما أخذ قرار <<هايز>> على محمل الجد حينها، إلى أن قررت الكنيسة الكاثوليكية في العام 1934 أخذ الأمور على عاتقها بشكل حاسم، وابتكرت ما أطلق عليه <<فيلق الحشمة>> The Legion of Decency. لم تكتف الكنيسة بتصنيف سن المشاهدين بحسب مضمون الأفلام الأخلاقي وحسب، بل هددت بمقاطعة واسعة للأفلام غير الراضخة لمعاييرها. تحت الإشراف الشخصي والمباشر للمدعو <<جو برين>>، تم تحويل رواية عن أديب كحولي مرتبك الهوية الجنسية إلى كاتب يواجه مشكلة في الكتابة كما في فيلم The Lost Weekend (1945). وفي اقتباس روائي ثان، تم تحويل العنف وجريمة قتل أحد المثليين إلى جريمة نابعة من المعاداة للسامية في فيلم Crossfire (1947). مع هذا، تمكن المخرجون من التحايل على قوانين الرقابة الصارمة، واستمروا على وضع نماذج مثلية على نحو غير مباشر وصعوبة أكبر لتبينهم. لكن تحولاً آخر طرأ مع إخفاء صورة المثليين، فقد أصبحوا أشراراً وباردي القلب كما في كل من Draculas Daughter (1936)، وRebecca (1940)، وRope (1948)، وCaged (1950).

نحو الخمسينيات، بدأ التطرق إلى المثلية الجنسية على نحو أعمق، لكن كمرض نفسي محط ومذل، واختير الجانب البائس من المثلية، وكان اشتراط مشاهدة المثليين في الصالات المعتمة نقلهم كتعساء ويائسين وانتحاريين، وأن تجيء نهايتهم مع نهاية الفيلم، إما قتلاً أو انتحاراً. فجاءت نماذجهم على النحو الآتي: إما اعتبر المثلي وحشاً بشرياً وعليه أن يموت كواحد منهم كما في فيلم Suddenly Last Summer والذي ينتهي مطارداً من الحشود وتبتلعه على نسق نهاية فيلم فرنكشتاين في نسخة Bride of Frankenstein (1935)، أو سحاقية تشمئز من أحاسيسها العاطفية نحو صديقتها وتنتحر The Children's Hour (1962)، وإما سيناتور متزوج ويعيش حياة مزدوجة ويشعر بالعار من حياته الثانية <<القذرة>> وينتهي منتحراً من جديد Advise and Consent (1962)، أو سحاقية تسعى إلى الخروج من جنسانيتها المخالفة من خلال الزواج لكنها تنتهي مقتولة خطأ Walk on the Wild Side (1962)، وإما شاذ جنسي يتعاطى مع ميوله كأنها عادة سيئة مقرفة يعود إليها مهما حاول التخلص منها، وارتفاع حدة إحساسه بالغثيان من مشاعره وبلوغه حد القتل دفاعاً عن سرية حياته The Detective (1968).

لكن مع حضور السبعينيات يأتي التبدل الأول مع فيلم The Boys in the Band (1970) ومعه نظرة مخالفة نابعة من وجهة نظر بحت مثلية، وتبقى جميع شخصيات الفيلم على قيد الحياة إزاء نهايته. كما ينقل الفيلم تضامن المثليين بعضهم مع بعض ويصوّر تفاصيل حياتهم والعيش ضمن مجموعة لا كشخصيات وحيدة ومنعزلة. <<ممارسة الحب>> Making Love (1982) الفيلم التجاري الأول الذي يشكل موضوعه الرئيسي علاقة مثلية ذكورية، ويحاول نسبياً كسر النمطية، فبطلا الفيلم يتماثلان مع صورة الذكورة التقليدية، إلا ان الفيلم مغرق بتمثيل العلاقة المثلية على نسق العلاقات المشتهية للجنس الآخر. ولا ينقل العلاقة العاطفية المثلية بتبايناتها أو أبعادها، وهذا من دون ذكر رداءة التمثيل. مع هذا، صعقت المشاهد الجنسية، الملطفة الحدة، بين ذكرين، المشاهدين، حتى إن شركة <<فوكس>> بدأت الفيلم بالتحذير التالي: <<ممارسة الحب يتعاطى على نحو منفتح وصريح مع موضوع حساس. ما من مشاهد جنسية فاضحة. لكن قد يكون الفيلم حاداً بالنسبة لبعض الناس. <<ممارسة الحب>> جريء لكن لطيف. نحن فخورون بصراحته ونصفق لشجاعته>>. بحسب الممثلة الأميركية سوزان ساراندون: <<لا أظن، إن كان إيجابيا أو سلبيا، أن النساء يؤخذن على كثير من الجد ضمن هذا المضمار. أعتقد ان الانطباع الذي يترك نفسه على الرجال، حيال مشاهدتهم امرأتين تمارسان الجنس معاً، هو تفسير المشهد على ان المرأتين تختبران تجربة جنسية عابرة أو تمران في طور ما يتغير بمجرد مجيء الرجل المناسب. لذا يشاهد الرجل المشتهي للجنس الآخر هذه المشاهد من دون الإحساس بالتهديد. أما عندما تذهب إلى السينما وتشاهد رجلين في وضعية حميمة، عدا عن الجنس نفسه، فالحميمية بحد ذاتها كثيرة على المشاهد ولا قدرة له على تحملها. لأنه يفترض بالرجال أن يكونوا أقوياء ولا يعبرون عن المشاعر>>.

جريدة السفير في  23 يناير 2004

كتبوا في السينما

 

 

مقالات مختارة

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

بسام الذوادي ـ لقاء

      مهرجان البندقية.. يكرم عمر الشريف

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

آسيا جبّار عبّرت عن الهواجس الدفينة للمرأة

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

المثلية في التاريخ الهوليوودي

منير عبد الله

لقطة من فيلم "خزانة السليوليد"