مجدداً، ولمرة إضافية، تقفز معضلة الإقتباس الأدبي (الروائي هنا) للشاشة، فها روبرت بنتون السينمائي الهوليوودي الكلاسيكي ("كرامر ضد كرامر"، "حقول القتل")، الذي عمل مع مانكيفيتس ودعمه ألتمان في بداياته، يجرؤ على تبني سيناريو لنيكولاس ميير مقتبس من رواية فيليب روث "الوصمة البشرية"(*) (أو لعل "الصباغ البشري" أصحّ لتعلّق الموضوع بالعنصرية والعرق واللون)، علماً ان ع الم الروائي الاميركي المعاصر روث، وهو الأشهر في جيله اليوم داخل اميركا وخارجها ويرصد عالم الكتب والنشر إصداراته تباعاً، هو عالم شديد التعقيد والرهافة والعمق والقسوة والهجاء، امتداداً لعوالم فيتزجيرالد وشتاينبك وفوكنر. لذا من غير السهل اقتباس رواية حديثة (في المعنيين، الحداثة والجدّة) مفخخة بالتفاصيل والاشارات والدلالات، بالنفس الروائي المسترسل والحالات النفسية التي يستحيل تجسيدها فعلاً وحدثاً على الشاشة لأنها ملك هذا الصنف الأدبي وحده. فهل نخال نقل عالم بروست الى الشاشة، رغم محاولات عديدة لأمثال شلوندورف ورويز، أمراً سهلاً؟ وهل من السهل تجسيد "بوفاري" فلوبير او "أوليس" جويس، أو...؟ ما هو للكتاب يبقى للكتاب، وما هو للشاشة يظلّ للشاشة، وإن تناضح العالمان وتبادلا حقلي الاختبار. اختيار روبرت بنتون للإخراج تقليديّ. فهذا سينمائي هوليوودي كلاسيكي وحرفيّ قدير، بيد أنه غير ملائم للتعامل مع النَفَس الروائي الحديث على الطريقة الهوليوودية القديمة، كأن الغاية استرجاع زمن دوغلاس سورك ("تقليد الحياة") للقربى في الموضوع (العنصرية) وإحياء شكل سينمائي ينتمي الى مرحلته التاريخية. إلا إذا كان القصد فصل الفيلم عن أصله الروائي وصنع شيء آخر مختلف. في هذه الحال تقع المسؤولية على فيليب روث الذي وافق على الاقتباس القاصر عن روايته والمخالف لأجوائها وشخصياتها، بل حتى لبنائها، ويسعنا هنا الشك واشتمام رائحة استفادة مادية لقاء التصرفّ الحرّ بروايته، في حين ان تجارب سابقة مماثلة، مع روائيين آخرين، كانت تواجَه غالباً بالرفض المبدئي خشية الاساءة والتشويه. لكن المال مغوٍ ومفسد. فكيف يرضى روث بأن تنتهي شخصياته المعقدة والمركّبة والرهيفة البناء في روايته الأصل الى شخصيات واضحة مسطحة بلا تدرجات او لغز، وخاصة شخصية المرأة الأساسية فونيا فارلي وهي شخصية غامضة جداً وعلى قدر من الجنون المفضي الى القتل (قتل ولديها) ومن الانحراف والهوس الجنسيين، وغير جميلة بالضرورة (على عكس مؤديتها في الفيلم نيكول كيدمان). او حتى شخصية كولمان سيلك استاذ الآداب اليونانية القديمة، ولا تقلّ شخصيته التباساً وغموضاً ورهافة عن شخصية فونيا التي يُشغف بها على نحو غريزيّ شبقي غير محسوب العواقب، رغم فارق العمر الهائل بينهما والذي تقوم عليه الرواية ركيزة من الركائز الأساسية لشحنها بالفرادة والصدمة والتشويق والغرابة، الى ما هنالك من فوارق بين الشريط والرواية الأصل تحسم القطيعة التامة بينهما. إنما لو غضضنا عن الاقتباس (مع مشقّة هذا الأمر) وأغفلنا ان الأصل هو لفيليب روث ونظرنا الى "الوصمة البشرية" كسيناريو أصلي للسينما لا علاقة له بالرواية، لألفينا انه شريط مقبول اخراجاً ومناخاً واداء، "عظيم من دون مفاجآت" على ما قالت فونيا (نيكول كيدمان) لعشيقها العجوز كولمان سيلك (انطوني هوبكنز) إثر مضاجعتهما الأولى وجواباً عن سؤاله القلق لها. قد نؤخذ مثل المشاهدين العاديين المتابعين قصةً واحداثاً وشخصيات بهذه الدراما التي أضحت عادية، كالعديد من الأفلام الاميركية، بعدما تنكرت لأصلها الروائي وخانته خيانةً عظمى. علماً ان التيمات الجوهرية في الرواية لا تزال ماثلة (من بعيد!) في الاقتباس المشوّه، من العنصرية المستمرّة في اميركا طوال أزمنة وقرون وعقود، الى الحب فالعزلة فالحرمان فالعيش في الماضي تحت ثقله ووطأته. شخوص "الوصمة البشرية" يحيون في ماضيهم لا في حاضرهم، يحملونه معهم أنّى مضوا وحلّوا وعند كل مفترق في حياتهم. لذا بدا لنا ان بنية الفلاش باك ملائمة، وهي سلسلة استعادات زمنية داخل الاستعادات، في بنية مركّبة، معقدة قليلاً ومضلِّلة للمشاهد العادي، وان مبرّرة وقديمة الاستعمال. الفيلم من عدة طبقات زمنية مفتوحة بعضها على بعضها الآخر، نخرج من فلاش باك لندخل في آخر على نحو دائم ومتكرر وفي صلب بنية الشريط واسلوبه ، بغية خلط الأزمنة وعقد التوازي بينهما وإظهار ثبات الأحوال، إنما خاصة للدلالة على الماضي الذي يرخي بثقله على سائر الشخصيات التي تعيش تحت وطأته وفي قبضته. فلا كولمان استاذ الآداب اليوناني (أشيل المعاصر!)، ولا فونيا العاملة البسيطة في مزرعة وبريد، ولا ناثان الكاتب ("ألتر إيغو" روث ربما؟!) المنعزل في كوخه (غاري سينيز، ممتاز)، ولا ليستر زوج فونيا والعائد شديد الاضطرابات النفسية من فيتنام (إد هاريس، آسر الحضور القليل)... لا أحد منهم نشعر بأنه ينتمي الى زمنه الراهن، بل هم مسكونون جميعاً، على هذا النحو او ذاك، بماضيهم الرازح كالصخرة غير المتزحزحة فوق صدورهم. كولمان سيلك (هوبكنز عجوزاً، ووينتوورث ميلر شاباً) يجرجر وراءه ماضيه كـ"زنجيّ أبيض" (صدفة جينية نادرة) ينتمي الى عائلة سوداء البشرة ويهودية، يفشل مرارا في الاقتران بنساء بيضاوات البشرة أحبّهن وأحببنه ثم تخلّين عنه لدى تعرفهن الى عائلته السوداء (والزمن زمن عنصرية مستفحلة في أربعينات القرن الفائت)، مما أرغمه في النهاية على التنكر لأمه واخوته مدعياً انهم ماتوا ليتمكن من الزواج من امرأة بيضاء أنجب منها أولاداً (لا نراهم في الفيلم بينما هناك عشرات الصفحات عنهم في الرواية!)، وشاءت المفارقة العبثية ان يطرد في الزمن الراهن - والعنصرية كامنة دوماً تحت الرماد في الولايات المتحدة - من مركزه الجامعي لتلفظه بإشارات عنصرية ضد طلاب سود غير حاضرين في صفّه! وهو الأسود الجذور، وإن ابيض البشرة، فكيف يكون عنصرياً ضد السود؟! فونيا فارلي (نيكول كيدمان، جيدة على مألوفها، انما مخالفة لملامح الشخصية في الرواية) تتخبّط أيضاً في ماضيها إذ صُدمت فتيّةً بهجر والدها لأمها التي تزوجت رجلاً آخر راح يتحرّش بها جنسياً طفلةً ولم يكن أحد يصدّقها ففرّت من المنزل وهامت على وجهها مستسلمة لحياة التيه والمعاشرات العابرة للرجال والمهن الوضيعة. ثم اقترنت لاحقاً بالمحارب القديم في فيتنام وانجبت منه ولدين قضيا اختناقاً في حريق المنزل (تُلمع رواية روث الى انها قتلتهما عمداً للتخلص منهما كرهاً بزوجها المضطرب والشرس الذي لا ينفك يضربها ضرباً مبرحاً، وليصفو لها الجوّ مع عشيقها الجديد الذي كانت تعاشرة ساعة الحريق... بينما لا اشارة الى ذلك في الفيلم الذي يظهرها كأنها "سانت نوتوش" المظلومة!). كذلك شخصية الكاتب المنعزل في كوخه هرباً من ماضيه، وشخصية ليستر فارلي زوج فونيا وأسير أهوال حرب فيتنام، ما فتئ أيضاً يعيش في الماضي (يرد في الرواية الأصل وصف لعراك عنيف بينه وبين كولمان، فيما "يأتي" الفيلم بالشرطة لمنع حصول هذا العراك!). كأن شريط روبرت بنتون أعدّ خصيصاً لمرحلة "النقمة الفاضلة" في أميركا إثر فضيحة كلينتون ومونيكا لوينسكي، كنوع من التطهّر من آثام مجتمع مستمرّ الفضائح والانحرافات والعنصرية. فيلم "مستقيم سياسياً" على عكس الرواية التي تهزأ بـ"السياسيّ المستقيم". والاقتباس الخائن خفّف الشخصيات الموسومة عمداً بالافراط والمغالاة مما أفقد رواية فيليب روث حيويتها وعمقها ورهافتها، فأضحى الفيلم "مستقيماً سياسياً" مثل المؤسسات التي ينتقدها. اختزلت الشخصيات والأحداث والمواقف فلم يبق من رواية روث سوى هيكلها الخارجي، ان كانت ثمة علاقة من بعد بين الرواية والفيلم ولم يفترقا على نحو نهائي وحاسم. روبرت بنتون انجز اخراجاً أنيقاً، نظيفاً، قديراً ومهنياً، إنما على فراغ مضمون وهشاشة بناء. مشهد جميل من هنا وهناك، لكن الغاية الميلودرامية تطغى وتفرغ الشخوص من تعقيدها غموضها وفداحتها، ولا مفرّ من المقارنة. (*) الوصمة البشرية" The Human Stain - (إسباس، سوديكو سكوير، لي دون، سان ايلي، فريواي، مكلس ،2001 لاس ساليناس، غالاكسي). حريدة النهار في 12 يناير 2004 |
فيلم روبرت بينتون الجديد: الوصمة البشرية فداحة الاقتباس المفترق عن أصله الروائيّ! بقلم: جورج كعدي |
|