في قاعة استقبال الفندق المؤثثة على الطراز القديم والتي لا تشبه في شيء تلك الموجودة في كل مكان والمتشابهة في كل البلدان, كان يقلب صفحات مفكرته المكتوبة بخط أسود عريض وبحروف كبيـرة مائلة, بدت وكأنها لوحة فنيـة بالخـط الفـارسي. كانت ملاحظاته على المهرجان وناسه وجوائزه التي وزعت في الليلة الماضية. وتذكرت من خلال ما شاهدناه في فيلمه الذي عرض في مهرجان نانت, "أبجد" وهو سيرته الذاتية, أن أبو الفضل جليلي كان يعمل خطاطاً, لن نقول في شبابه فهو ما زال شاباً, بل في بداياته. روى في فيلمه إيران السبعينات, من خلال نشأة شاب في عائلة محافظة تقف أمام طموحاته في الموسيقى والحب والعمل الاجتماعي والسينما وهو الذي أراد جمع كل ذلك إلى دراسته وإلى عمله كمؤذن وكمقرئ في المسجد. كان معارضاً بطبيعته, لكن من دون أن تبدو تلك المعارضة كتحدٍ, وإنما كنتيجة منطقية لما ينتابه من أفكار وما يشعر به من أحاسيس. تعلم التصوير بمفرده, وقرر التوجه للعمل في التلفزيون كمصور وهو لم يمسك من قبل كاميرا فيديو. كانت جرأته ومشاغباته الطفولية هي التي أوقعته في مطبات كثيرة كان السجن أحدها. أبو الفضل جليلي المخرج الإيراني, صور لتلفزيون بلاده ما لا يقل عن خمسة عشر فيلماً وثائقياً. موضوعه المفضل كان الأطفال وأوضاعهم في إيران. كان يحمل كاميرا 16ملم, ويقوم بالتحقيقات المصورة "كنت أذهب لمقابلة المسؤولين لتسجيـل لقاءات معهم. وعندما كان المسؤول يدلي بتصريحات غير حقيقية, كنت أدير الكاميرا نحو اتجاه آخر, السقف, الشارع... في إحدى المرات, كان اللقاء مع وزير لشؤون الطفولة وكان جالساً وهو يردد بثقة كل ما يفعله لتحسين أوضاعهم, وكنت أعلم أن ما يقوله غير حقيقي, أبعدت الكاميرا ورحت أجول بها في الشارع, نحو الأطفال, فيما كلامه يرافق تلك الصور... سبّب تحقـيـقي هذا مشكـلة. وعلى أي حال, فـإن أفلامـي الوثائقـية والسينمائية لا تعرض في إيران, ولكل فيلم منها مشـكلة ما". تحدث عن فيلمه الأول "الجرب" الذي كان عنوانه تمويهاً لما أراد قوله عن انتشار المرض في جسد البلد ربما. وعندما عرض هذا الفيلم في التلفزيون عام 1982 (ذكر الرقم بالفارسية ثم حوله إلى الميلادية), اعترض البعض عليه وقيل "جليلي لا يمكن العرض له". منع من إنجاز الأفلام لمدة خمسة أعوام. وألقي الفيلم في الأرشيف, إلى أن عرض بالخطأ أمام موفد من مهرجان كان جاء عام 1988 لمشاهدة ما يوجد من أفلام إيرانية. عندما أرادوا إيقاف العرض للخطأ الواقع, صاح بهم الموفد "لا, لا أريد هذا". كان جليلي أثناء ذلك في بيته "جاءت سيارة كبيرة لاصطحابي, وشعرت بالخوف والقلق وأنا لا أعرف أسباب مجيئهم وتوقعت الأسوأ: السجن! إلى أن عرفت السبب وهو مقابلة المسؤولين الآتين من كان. وقد فوجئ هؤلاء بصغر سني ولم تكن السينما الإيرانية مشهورة آنذاك" وعندما عرض الفيلم في إحدى تظاهرات كان, كتبت صحيفة "نيس ماتان": سينما آية الله تقوم بثورة في العالم" مرفقاً بصورته. يبتسم وهو يتذكر"كان ذلك مضحكاً, كنت فقيراً جداً". نال أبو الفضل جليلي الجائزة الذهبية في مهرجان نانت عـام 1996 وذلك عـن فيلمه "قصة حقيقية" وكذلك عام 2001 عن "دلبران", اضافة الى جوائز عدة نالها في مهرجانات دولية أخرى. بيد أن فيلمه المفضل يبقى هذا الذي لم يعرض قط "دورنا" وهو طائر عندما يشعر باقتراب الموت, يحلق عالياً جداً كي يموت في السماء. وكأن جليلي والد فقد أحد أبنائه فبقي هذا المفضل عنده "كان فيلماً جميلاً جداً, أفضل أفلامي, تراكضت عليه المهرجانات قبل أن ينتهي, بيد أن الحكومة أحرقت النسخة ولم يكن باقياً على نهاية الفيلم إلا دقائق". في محاضراته عن فن السينما أمام شباب بلده كان يتطرق إلى مواضيع عدة بعضها شائك وكان يلمس الأوتار الحساسة, الدين مثلاً... وكان ثمة اختلاف بين الخطابين: خطابه والخطاب الرسمي وكانت أوامر المسؤولين "لست عالماً دينياً لتتحدث عن الدين". منذ طفولته, وكما بين في فيلمه "أبجد", كانت تجاربه وخبراته في الحياة هي الجامعة التي درس فيها, ومن خلال عمله في التخطيط, ومقابلة المسؤولين, ومجابهته للجميع, وانخراطه في الحياة العملية في سن مبكرة تعلم الكثير كما يقول: "إلى الآن لا أشاهد أفلاماً سينمائية, ربما فقط فيلماً في العام, أرى أن أفضل سينما موجودة في ما يحيط بي, في الحياة, في الناس, في الفندق, في المحلات...". لا تزال أفلامه ممنوعة من العرض في إيران وفيلمه "أبجد" سيسبب له مشكلات "قيل لي من الأفضل نسيان هذه السينما!". ثم كولد مشاغب ابتسم وهو يختم حديثه قائلاً: "أحب بلدي والنظام فيه! الحكومة هي كوالدي, وعلاقتي بها كالعلاقة بين أب وابن, لديهم مشكلات دائمة معي. "وكأنه رمز لها في الفيلم بشخصية والده التي لا تنقطع عن تأنيبه وضربه بل وحرق كتبه. إنه الخلاف الأبدي بين جيلين وصراع عقليتين". حريدة الحياة في 12 ديسمبر 2003 |
|
أبو الفضل جليلي خطأ أوصله إلى كان وأبجد أعطانا سيرته الحياة: ندى الأزهري |