مرة أخرى عن العلاقة بين الفلم والأدب عدنان المبارك |
صفحات خاصة
|
في عام 1962 بدأت ُ الدراسة في المدرسة العليا للسينما والمسرح والتلفزيون في مدينة ووج البولندية. إخترت فرع الإخراج السينمائي. ما أتذكره أن رومان بولانسكي قبل مباشرة كطالب في السنة الثالثة. كان هناك يجي سكوليموفسكي أيضا. والكل كان يستمع الى محاضرات أندجي فايدا عن تجاربه الفلمية. رئيس قسم الإخراج كان البروفسور بوليسواف ليفيتسكي الذي ٌعدَّ من منظري الفلم أيضا. قبل أيام عثرت على وريقات كنت قد دوّنت فيها ملاحظات من محاضرات أستاذي هذا. جاء في ملاحظاتي ما ذكره البروفسور ليفتسكي عن ميزات الفلم التسجيلي الكشفية التي لايمكن العثورعليها كاملة في الفلم الآخر - الروائي. فهذا الفلم ينوء بثقل أساسي يرجع الى تلك المباديء الصارمة للتكوين الأدبي ( مضى على هذا الحكم أكثر من أربعة عقود ، وأثناءها حدثت أكثر من ثورة في الفنين : الفلم والأدب ) هناك الكثيرون من المنظرين وخالقي الفلم أيضا يجدون أن هناك ضرورة قصوى لفصم هذه الصلة بين الفنين. لغاية اليوم هناك عدد كبير من الأفلام الروائية المنحدرة رسّاً من الهياكل الأدبية والمعتمدة عليها من الناحية التقنية. واضح أن أعداء الفلم الأدبي يملكون الكثير من الحق خاصة إذا أخذنا بعين الإعتبار الآراء الشائعة عن أن الفلم هو تكرار للكتاب لكنه بحكم طبيعة الأشياء هو أسوأ ، ومن ناحيتين : أستيتيكية و تأريخية. ويضرب ليفتسكي مثلا على ذلك بفلم ( الرماد ) الذي أخرجه أندجي فايدا ، والمعتمد على رواية معروفة للكاتب البولندي ستيفان جيرومسكي. وهكذا ففلمنة ( الرماد ) كانت عملا تحت مستوى الكتاب الذي يبقى الفلم محض بديل له لدى هذا الجمهور وذاك. بالطبع يخص هذا الحكم جميع الأعمال الأدبية الكلاسية المنقولة الى السينما. بعبارة أخرى : أن تقرأ الكتاب هو شاغل نبيل ، بل يكاد يكون قدسيا ، أما الذهاب الى السينما فهو مجرد تسلية عادية. وهكذا : أن تشاهد ( عرش في الدم ) لكوروساوا عمل لا بأس به لكن بعدها عليك أن تقرأ ( مكبث ) شكسبير ! وهنا يبدو الأمر كأنه أخذ ٌ بوصفة طبية كلاسية : هناك حالة تسمم ولابد من إعطاء دواء مضاد ... أنا لا أعرف هل هذا شيء عملي أم أنه ينضح فكاهة ، وعموما هل هناك ضرورة له - يقول إستاذي القديم. أكيد أنه ضروري من أجل تلبية تلك الحاجة الشائعة لدى الإنسان المتوسط average man . في الحقيقة تكون هذه المشكلة أعمق بكثير : طالما أن الحياة السيئة تطعم الشباب بالفلم أي بديل الفن الحقيقي ، فلتقم المدرسة بإعطائهم المعرفة الإنسية الحقيقية والنبيلة وحدها : الكتب. في المدرسة البولندية لم تشمل المناهج التعليمية الفلم الفني آنذاك. كما أن هناك ظاهرة ( لا إنسية ) تماما وهي أن نسبة كبيرة من مشاهدي الفلم تكتفي به ولا تقرأ أصله الأدبي ( يضرب ليفتسكي على ذلك بالأحصائيات الخاصة بمشاهدي أفلام مثل " الأحمر والأسود " و " الدون الهاديء " و " الحرب والسلام " و " أحدب نوتردام " ). ليفتسكي يستدرك هنا مذكرا من جديد بأن هذين الفنين صارا مستقلين أحدهما عن الآخر. وهنا يتساءل : أحقا أن ( هاملت ) و ( ألكترا ) الفلميين هما مجرد بديلين للأدب الحقيقي ؟ في معرض الجواب ينتقل الى مفهوم التناول الحديث لتاريخ الثقافة الأدبية الوطنية والعالمية على السواء حيث في أطره يتواجد ، وكل في مكانه الطبيعي ، الأدبُ وتحولاته الفلمية. أكيد أني أتفق مع أستاذي القديم حين يقول إن القرن العشرين قد حسم نهائيا كل إشكال أوعدم وضوح في هذه القضية بل أن هناك كتابا يمسكون بوسائط التعبير الفلمية لمضامينهم الأدبية وبينهم من يكتبون ويفلمنون أمثال كوكتو وروب – غرييه وسكوليموفسكي. و ليفتسكي محق أيضا حين يقول إن مفهوم الأدب التقليدي والمغلق في حيز الكتاب والمطالعة الفردية قد كف عن أن يكون ملزما. فقد تعرض للتصدع وليس على يد الفلم فقط بل الوسائل التقنية الأخرى. بالطبع كانت هناك بعض المساعي لحشر الفلم ، عبر السيناريو ، في الهياكل الأدبية الى جانب الرواية و القصة ، والنقد والمقال ، والشعر ، والدراما سواء أكانت مسرحية أو تلفزيونية أو إذاعية - بالطبع المقصود هنا الفلم الروائي وصياغاته التلفزيونية. في كل الأحوال بات أمرا واضحا اليوم أن الفلم ليس جزءا ً من الأدب وفق المفهوم التقليدي. أكيد أن في كل هذا مفارقة و سوء فهم : الأدب فن الكلمة ، والفلم فن الصورة المتحركة قبل كل شيء. بالطبع المقصود هنا الصورة التي ( تستنسخ ) الحياة ، بعبارة اخرى يكون الفلم مملكة الحركةالفعلية بينما فن الكلمة مملكة الحركة الموصوفة ، وكما يكون المنظر الطبيعي ، مثلا ، مرتبة للمكان تكون السينما مرتبة للزمان. فالفلم يكشف عن فكرة الحركة بأنقى أشكالها. بالطبع لا يمكننا تحديد ( الحركة في ذاتها ) و لأنها غير كائنة بمعزل عن الظواهر الأخرى ، إنها مرتبطة بفعل ما يسميه فنانو التشكيل ( أدبا ً ). لاحاجة الى القول بأن ليس هناك من فن لا يحوي عناصرا من فنون أخرى ، وهي لم تأت مصادفة ً بل كشروط ضرورية لنشوء تأثيرات في هذا الفن بالذات. السينما تحاذي من جهة فن الدراماتورغيا ومن أخرى فن التصوير. ومرة تطغى عناصر من الأول و في أخرى من الثاني. إلا أنه وكما في التصوير ليست النواة الرئيسية هي الحدث القائم في اللوحة بل كشف أسرار الضوء والظل أو ألعاب الألوان، يكون الغرض الرئيسي من فن الفلم كشف أسرار الحركة. وهذه ليس من الضروري أن تكون سريعة أو بطيئة أو مثيرة أو عنيفة ، فهذه كلها تتعلق بشدة الحركة لا غير. واضح أن القيم الأستيتيكية للحركة غالبما تظهر بصورة فجائية. فما يسمى مفهوم الحركة هو أوسع بكثير ولاينبغي إبداله بالفهم الشائع عن الحركة ك( تبدل مكاني في الزمن ). كانت هناك ملاحظات اخرى في تلك الأوراق القديمة أظنني كنت قد كتبتها ومن دون أي علاقة لها بمحاضرات ليفتسكي. مثلا عن برغسون الذي كان قد قارن ، بدافع الإحتقار ، العقل بالشريط السينمائي معلنا عن عدم قدرته على أن يعرفنا ، بأمانة ، على عملية النشوء ، فهو محض جزيئات من كامل الواقع تعرضت للصق الآلي. إلا أن كارول إجيكوفسكي ، وهو كاتب بولندي عاش في النصف الأول من القرن العشرين وكان منظرا سينمائيا أصيلا ، يجد أن العلاقة بين العقل الذي أسماه بظاهرة عرض ٍأو إسقاط projection وفن الحركة هذا تتمثل في أن الفلم سريع مثل التفكير. وهذا هو الفارق الكبير بين الفلم والمسرح. بعبارة أخرى يكون الفلم أكثر تكيّفا لقفزات المخيلة بل يكون لباسها الشفاف وأداتها التي هي الأكثر مرونة من أداة المسرح. وبرأي إجيكوفسكي تكون مملكة الحركة هذه هي المعادل لفنون أخرى متبدلة ودينامية الحركة كالموسيقى والشعر. ولاينسى هذا المنظر أن يحذر من الخطر الأكبر الذي يحيق بالفلم : التبعية لفن الكلمة ... في كتابه التنظيري ( الفن العاشر ) من عام 1924 يوّجه إجيكوفسكي مثل هذه الأسئلة : هل ستخضع السينما لهيمنة الكلمة ؟ أم ستسيطر هي عليها ؟ هل ستخلق هذه الظاهرة التقنية التي تقرن الصورة بالحركة فنا مستقلا عن سينما اليوم ؟ هذه أسئلة ، يقول إجيكوفسكي ، سيجيب عليها المستقبل القريب . لكن هل سيحسم الأمر ؟ العوامل التقنية والتجارية ستعرض بالتأكيد خط التجربة الأستيتيكية المستقيم الى الإنحراف... وما يزيد الأمر تعقيدا أن الشعراء ( يقصد إجيكوفسكي هنا كل من يملك مخيلة شعرية وليس خالقي الشعر وحدهم ) تدخلوا فيه. وهنا يطرح هذا المنظر البولندي سؤالا آخر نعرف اليوم جوابه : هل سينقذ الشعراء الفلم أم سيجهزون عليه ؟ نحن نعرف اليوم الجواب على هذا السؤال : لم ينقذوا الفلم كما لم يجهزوا عليه. كل في الأمر أن فن الفلم إستعار الكثير من مملتكهم... القصة العراقية في 14 أبريل 2007
|