سينماتك

 

أزمتا النص والإنتاج في صناعة السينما العربية

بقلم : أسامة عكنان

 

 

 

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

 

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

 

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

 

أرشيف

إبحث في سينماتك

 

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

 

سينماتك

 

بدأت صناعة السينما العربية في مهدها (مصر) تعاني من الانهيار منذ حوالي ثلاثة عقود، وإذا كانت أسبابٌ سياسية في الجوهر تقف وراء هذا الانهيار الذي بدأت معالمه تظهر مع انطلاقةِ سياسة الانفتاح وما تطلبته وما اقتضته، بل وما أدت إليه من تغييرات في أنماط التفكير وفي طرائق الإبداع وفي مفاهيم الفن ورسالته، فإن الأسباب الظاهرة والمرئية والملموسة لهذا الانهيار والتي تَجَلَّى السبب السياسي من خلالها، يمكننا تعيينها في كل من أزمة النص وأزمة الإنتاج، فما هي الأبعاد الحقيقية لكل من الأزمتين؟

أزمة النَّص

ونعني بها، ظهورَ معالم مرحلة سينمائية تفتقر إلى نصٍّ سينمائي تتوافر فيه عناصر ومقومات العملية الإبداعية السينمائية في بيئتها العربية عموما، والمصرية منها خصوصا، وتَحَوُّلَ النص السينمائي بالتالي إلى كلمات وصور متحركة جوفاء غير ذات مضمون فكري أو إبداعي، ما أدخل صناعة السينما في دائرة الإفلاس. أي أن السينما لم تعد لها رسالة تؤديها، أو أفكار تقولها بلغة الصورة وبأدوات الحركة، بل لم تعد تمتلك معاني أو قيماً توصلها للناس وتشكل من خلالها وعيهم وثقافتهم، خارج نطاق التسلية الصرف والتهريج لذات التهريج. فانعكس هذا الإفلاس من ثم على العنصر الإبداعي في هذه الصناعة، فلم يعد يُعْتَنى به، ليغدوَ الفيلم السينمائي مجرد صورٍ متحركة تفتقر قي الغالب إلى اللُّحْمَة والتماسك والدلالة السردية الواضحة التي تستحق ساعتين من المادة الخام والأداء التمثيلي، راح يؤدي فيه أدوارهم - مع الأسف - عدد من المهرجين، وتستعرض خلالها أجسادهن راقصات الكازينوهات، أو بائعات الإغراء الرخيص الذي يفتقر إلى أي توظيف ذي مضمون في السياق السردي للأحداث، مع الاعتراف بوجود استثناءات قليلة حاولت الإفلات من طوق هذا الإفلاس، دون أن تنجح في الارتقاء بنفسها وبالمشاهد المحترم إلى المستوى المطلوب، علما أن الإستثناء يؤكد القاعدة ولا يلغيها.

أزمة الإنتاج

أتاحت هذه المرحلة بكل تداعياتها وفلسفات السوق والإستهلاك التي هيمنت عليها، الفرصةَ كي يدخل إلى هذه الصناعة من أوسع أبوابها صنف من المنتجين، غدا هو السِّمة الغالبة في عالم الإنتاج السينمائي مع الأسف، ممن لا علاقة لهم بهذا الفن العظيم لا من قريب ولا من بعيد، لا من الناحية الفكرية ولا من الناحية الإبداعية ولا حتى من الناحية التقنية.
لا بل إن أغلب أفراد هذا الصنف الدخيل من المنتجين كان قبل أن يتصدى للإنتاج السينمائي يعمل في مجالاتٍ أخرى أبعد ما تكون عن السينما وعن متطلباتها، بل وعن الفن ومتطلباته، فتشكلت أذهانهم التجارية في ضوء ما تتيحه تلك المجالات من تربيةِ سوقٍ، فجاءوا إلى صناعة السينما بتلك الذهنيات الفجة العقيمة التي لا تفهم إلا لغة الحسابات بأبشع صورها وأشدها امتهانا للجانب الفني والإبداعي، ما انعكس على هذه الصناعة وعلى جوهرها وعلى روحها وعلى شكلها وعلى مضمونها.

ولنا أن نتخيل ما الذي يمكنه أن يحدث لهذه الصناعة إذا تولى أمرها - وهذا ما حدث فعلا - حشدٌ من المنتجين الذين يتعامل الواحد منهم مع الفيلم السينمائي كما يتعامل مع شحنةِ قطعِ غيارِ سيارات، أو مع صفقةٍ لتوريد مواسير التصريف لأغراص إنشاءات الصرف الصحي.

إن صناعة السينما في هذه المرحلة لم تكن تعاني فقط من سيطرة المقاولين والسماسرة ووسطاء البورصة والعقارات وتجار الخضروات والخردوات عليها وعلى مختلف عناصرها. بل إن عملية الإنتاج نفسها عانت من مجموعة من السلبيات القاتلة، فرضتها لا طبيعة المنتجين الذين أفرزتهم المرحلة فقط، بل طبيعة فكر الإنتاج الإستهلاكي الذي رافق تداعيات الإنفتاح الإقتصادي في مصر. فلم تعد عملية الإنتاج تأخذ حقها الكامل الذي يتطلبه تنفيذ فيلم سينمائي عالي الجودة بمقاييس الفكر والإبداع والتقنية.

وظهرت على السطح مرحلة أفلام المقاولات، وهو المصطلح الغريب عن الفن عموما. وهي المرحلة التي كرَّسَت مفهوما خطيرا يهدف إلى إنتاج أفلامٍ بأقل تكلفةٍ ممكنة، على أن يتم تعويض الجودة والرسالِيَّة والإبداع المفقودة بسبب هذا الاتجاه، بالتركيز على عنصر تدني مستوى الشرائح المُسْتَهدَفَة ، وهي الشرائح التي تهتم برؤية ممثلة جميلة أو راقصة شبه عارية أو مَشاَهِد عنف عديمة المعنى، أو مطربِ أعراسٍ وموالد يغني على الشاشة، غير مبالية بما يمكن لساعتين من عرض الصور المتحركة على الشاشة أن يضيفه إليها من أفكار ورؤى ومفاهيم.

خُلِقَ بسبب ذلك ذوقٌ سينمائي متدنٍّ جدا، مُشَكِّلاً شريحة مشاهدين - هي عماد الإيرادات - ممن يفتقرون إلى أي إحساس فني أو ذوق جمالي، وحُرِمَت الأُسَر والفئات الراقية من حقها في أن تشاهد ما ترغب في مشاهدته من فن سينمائي نظيف وراقٍ ومحترم. وظهرت جراء ذلك أكذوبة الأكاذيب في سوق الفيلم، وهي أن الجمهور عايز كده ، وهي الأكذوبة التي لا يمكن أن ينطق بها أو يتعامل بمعطياتها في عالم الفن إلا تاجر يرى مهمَّته منحصرةً فقط في تلبية الرغبات الإستهلاكية لزبائنه. فالسينما إذا كانت في جانب منها استجابةً لبعض رغبات الجمهور الذي يشاهدها، في تحقيق عنصر اللعب والتمتع والتسلية والإثارة والتشويق لديه، فهي في الجانب الأهم، صانعةٌ لتلك الرغبات ومُشَكِّلَةٌ للأذواق وخالقةٌ للآراء، وهي الأمور التي لا يمكن أن يفهمها إلا سينمائي يحمل فكرا سينمائيا يشغله ويهتم به، ولا يمكن لمقاول أن يحس به بأي شكل من الأشكال بما هو مجرد مقاول. والخلاصة أن جودة الفيلم السينمائي فكريا وفنيا وتقنيا تدنت بسبب ذلك، لتصبح في الحضيض.

عندما أصبح صُنّاع السينما هم من كانوا قبل ذلك سماسرة الأراضي ومقاولي البناء وبائعي الخردوات، فقد كان من الطبيعي أن يَخْفُتَ الإهتمام بهذه الصناعة، إلاَّ من باب ما تسمح به من إيرادات مباشرة وفورية، وبالنظر إلى الفيلم الواحد نفسه، بوصفه هو الحزمة الإنتاجية الكاملة منعزلة عن أي فيلم أو عن أية مجموعة أفلام أخرى يمكنها أن تمثل حزمة إنتاج متكاملة، يعوض بعضها ما يسببه البعض الآخر من ثغرات تجارية، كما هو حال كبريات المؤسسات السينمائية في العالم الذي يحترم هذه الصناعة.

كما أصبح الفيلم السينمائي يقارَن من حيث إيراده بأي استثمار آخر. ولم يعد غريبا أن نسمع المنتج يقول إنه لو استثمر أمواله في أي مشروع غير إنتاج الفيلم، لكان ذلك أفضل له وأجدى ماديا، في حال عدم تحقيقه الإيرادات التي كان يتوقعها. فالمنتج لم يعد يمثل حالةً فنية، تُقبل على الإنتاج السينمائي برغبة فنية أصيلة بالدرجة الأولى، ليبدأ بالتخطيط التجاري بعد ذلك بهدف تحقيق ما يسمح له بالحياة والإستمرار وبالتواجد سينمائيا، في ضوء الحفاظ على معادلة: السينما فن أولا وصناعة ثانيا ، بل غدا نمطا من التجار، يُقبِل على ذلك الإنتاج في ضوء مقدار الربح الذي سيحققه له فقط، بصرف النظر عن أي عنصر فني، الأمر الذي جعله يتدخل في التفاصيل الفنية التي يُفتَرض أنها من اختصاص الفنانين الموهوبين والمبدعين، وذلك ليجعل هذا المُننْتَج المُسَمَّى فيلما يكافئ في إيراده الإيرادَ المتوقَع من استثمار الأموال التي أُنفقت عليه في أي شيئٍ آخر مربحٍ حتى لو فاحت من الفيلم رائحة التخلف والوضاعة والإمتهان للفن وللفكر وللإبداع.

ولأن النجم الأوحد عملية سهلة على المنتج الذي من هذا النوع ما دام قد أصبح - أي هذا النجم - مطلوبا ومرغوبا لدى الشرائح المُستهدَفَة بسبب نجوميته التي ليس بالضرورة أن تكون قائمة على أساس فني أصيل، فقد حرص المنتجون على التعامل فقط مع هؤلاء النجوم محاربين إلى حدٍّ بعيد فكرة الأجيال والوجوه الجديدة سواء في الكتابة أو في الإخراج أو في التمثيل.

فهل من الصعب مثلا أن نلاحظ أن أسماء الممثلين والممثلات والمخرجين والكتاب التي تم تداولها سينمائيا، وبعد ذلك دراميا تلفزيونيا، على مدى عقود من الزمن هي ذاتها لم تتغير إلا في أضيق الحدود التي لا تعبر عن تطور طبيعي ومطلوب في مستويات إتاحة الفرصة للوجوه الجديدة الطموحة والموهوبة، إلى أن شاخ هؤلاء جميعا ولم يعودوا نجوما، ولم يعد لديهم شيء يقدمونه، بل غدوا مثيرين للضجر وللشفقة وهم يحاولون إثبات أنهم ما يزالون أسيادا للشاشة وفتيانا لها، بأدوار لا تُقنِع أحدا، عندما يحرص العجوز الذي تجاوز الخامسة والستين منهم على أن يظهر دائما في دور العاشق والمعشوق من قِبَل شابات فاتنات، لا بد من أن يمارس معهن بعض المشاهد العاطفية الساخنة، التي لا نشك لحظة في أن الممثلة تقدم عليها مُكرهة، فقط لتتواجد سينمائيا، بوصف ذلك الأمر هو بداية طريق الشهرة والنجومية في زمن سقوط وانهيار السينما!

وعندما تنبه المنتجون مؤخرا إلى أن نادية الجندي نجمة الجماهير !! ونبيلة عبيد نجمة مصر الأولى !! وعادل إمام الزعيم !! ومحمود عبد العزيز وحسين فهمي ونجلاء فتحي وميرفت أمين ومحمود ياسين ونور الشريف، وغيرهم من الممثلين، ونظرائهم من الكتاب والمخرجين، لم يعودوا يقدرون على استجلاب الجمهور إلى شباك التذاكر في أي دور يلعبونه، ناهيك عن تلك الأدوار العاطفية المراهقة غير المقنعة التي تهافت على التنافس فيها أولئك الممثلون العجائز، بلا أدنى احترام لسنهم ولتاريخهم الفني، بحثوا حولهم فلم يجدوا أحدا، فراحوا يحاولون ملء الفراغ بوجوهٍ جديدة أدخلوها إلى عالم النجومية بفجاجة سخيفة، ما جعلها تفشل في تحقيق الغاية إلاَّ على حساب الفن والفكر، عبر أفلامِ حركةٍ بلهاء تُقلد النمط الأميركي بغباء فاضح، أو عبر أفلامِ تهريجٍ يُراد لنا أن نقتنع بأنها أفلامٌ كوميدية بالقدر الذي كانت فيه أفلام فؤاد المهندس أو نجيب الريحاني أو عبد الفتاح القصري أو عبد السلام النابلسي أو عبد المنعم مدبولي كوميدية، أو أفلام رقص وعربدة وانفلات وتحشيش، أريد لها أن تعبر لهذا الجيل الضائع من الشباب عن أنها الأفلام الحقيقية للشباب، مُخْتَزِلَة قضايا شبابِ أمَّةٍ تطمح إلى التحرر والنهوض وتحقيق العدالة الإجتماعية، في الرقص والاستهبال والانفلات وتعقب الفتيات والتمتع الأجوف والضحك والإضحاك الذي لا معنى ولا سبب له، فتفاقمت أزمة السينما واتسعت الهُوَّة بين واقعها المتردي وشكلها الراقي المُستهدَف، فبَعُدَتْ الشُّقَّة بين اللحظتين الحاضرة والمرتقبة.

* باحث سينمائي أردني

الرأي الأردنية في 13 أبريل 2007