سينماتك

 

"أولاد صغار" لتود فيلد في الصالات المحلية

شريط غارق في الخصوصية والسخرية والميلودراما.. وشخصيات لم تنضج أبداً متعطشة إلى الآخر الغائب

ريما المسمار

 

 

 

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

 

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

 

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

 

أرشيف

إبحث في سينماتك

 

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

 

سينماتك

 

يحتمل المشهد الاول في "أولاد صغار" Little Children أكثر من معنى. انه تهيئة لمزاج اللهو الذي يشكل أحد خطوط مقاربة الحكاية. وهو ينطوي على قدر من السخرية الموجهة ضد الفيلم نفسه. أي أن الأخير يهزأ من نفسه في مواضع كثيرة في الاتجاه الذي يُسمى المحاكاة الساخرة للنوع حيناً وللمضمون حيناً آخر. أما المشهد فيضم الزوجة وربة المنزل "ساره" (كايت وينسليت) والأب المتفرغ لرعاية ابنه "براد" (باتريك ويلسن) اللذين يتعارفان في المتنزه بينما يرافقان ولديهما للعب. المكان أشبه بقرية غير محددة الزمن. قد يكون الثلاثينات او الاربعينات او الخمسينات زمناً ملائماً للفيلم بالنظر الى الشكل المحافظ الذي يتقصد المخرج تود فيلد أن ينقل فيه المحيط. النسوة الجالسات على المقعد الخشبي في طرف الحديقة يشرفن على اطفالهن في غياب تام للرجال يشبهن النسوة في أفلام الميلودراما القديمة كالتي قدمها دوغلاس سيرك مثلاً. "ساره" المختلفة بشكلها وسلوكها وجنوحها الى الحداثة في الشكل وطريقة الكلام وتعابير الملل وعدم الاكتفاء التي تكسو وجهها، ترغب في الانتقام من مجتمع الامهات والزوجات التقليديات فتدعو "براد" الى معانقتها اولاً والى تقبيلها تالياً تحت أنظارهن فقط من أجل إفزاعهن. تنجح الخطة تماماً إذ سرعان ما تنتفض النسوة كما لو أنهن تعرضن لصدمة كهربائية ويغادرن المكان. المشهد برمته مع وجود الطفلين يتضاحكان بين "ساره" و"براد" كان يمكنه من دون الحوار أن يكون رومنسياً تقليدياً. الواقع ان النسوة من موقعهن يشاهدنه كذلك فيثير غيظهن بسبب من عفويته­كما يبدو لهن­ ورومنسيته ايضاً لاسيما ان "براد" يبدو بوسامته محط اهتمامهن. اذاً، يقلب فيلد المظاهر الرومنسية وبقسوة تضاهي قسوة الكبت يقدم النساء في اطار كاريكاتوري، زارعاً في المشهد عناصر فيلمه الاساسية: السخرية، الصدمة والنقد الكاريكاتوري.

ولكن هل كانت "ساره" تريد من وراء تلك القبلة صدمة النسوة فقط؟ مع تكشف سير الأحداث، تبدو شخصيات الفيلم مشدودة الى المغامرة بالمعنى الطفولي بما يضع قبلة ساره وبراد في إطار مماثل خلا أن مغامرتهما الطفولية الاولى سرعان ما تتطور لتصبح علاقة غرامية تمتد خلال فصل الصيف في تلك البقعة من ضواحي مساتشوستس.

أولاد كبار صغار

يخدعنا فيلد مرة أخرى عندما يطلق على الفيلم اسم "اولاد صغار". ببراءة مصطنعة، يجعل العنوان ملائماً تماماً لجمهور الأطفال العريض الذي يحتل الشاشة وتطغى همومه من خلال أحاديث الكبار. خارج هموم الاهل، يغيب الأطفال وتغيب اية معالجة مستقلة لشخصية طفل أو ولد. حتى "لوسي" و"أرون" ولدي "ساره" و"براد" يلعبان دور الحجة أو المبرر لعلاقة الاخيرين. من هم الاولاد الصغار اذاً في العنوان؟ انهم شخصيات الفيلم. "ساره" و"براد" وسواهما. يصوغ فيلد شخصيتيهما كما لو كان يستلهم شخصيات المراهقين وتجاربهم وسلوكهم. في علاقتها بـ"براد"، "ساره" أشبه بمراهقة غارقة في الحب، تلتهب وجنتاها لمجرد استعادة ذكرى اللقاء ببراد أو صورة من علاقتهما الغرامية. تقف امام المرآة في أحد المشاهد، تتفقد وجهها كما لو كانت تبحث عن تأثير الحب فيه أو عن ذلك الجمال الاخاذ الذي تشعر به فيها من جراء أحاسيس الحب. "براد" هو الآخر مراهق وفي العمق. فهو يهرب من تقديم امتحان المحاماة ليقضي يومين مع حبيبته ثم لا يلبث في نهاية الفيلم أن ينشغل عن موعده معها بسبب من لهوه مع مجموعة من الصبية يقنعونها يالقفز عن الدرج على المزلاج. الواقع أن "براد" بشخصيته المسطحة وبجاذبيته الطاغية هو أقرب الى نموذج فتى المدرسة الثانوية الاول وهو ما تشير اليه "ساره" في المشهد الاول عندما تسر له باللقب الذي تطلقه عليه نسوة الجوار "ملكة الجمال". انهما بالغان لم يكبرا تماماً. لعل ما يلامسه الفيلم هنا بصمت ومن دون خطابة هو كيفية أسر العلاقات الزوجية والعائلة للأرواح المتمردة على الاقل في ما يخص "ساره". بعمق وبساطة، تصبح حياة "ساره" وابنتها مصدر تساؤل وقلق للمشاهد. من هو المظلوم في هذه العلاقة؟ "ساره" التي تتوق الى التفلت والحرية من مسؤوليات الامومة التي تقوم بها منفردة؟ أم "لوسي" التي لا تدرك شيئاً في عالمها سوى أن هناك اماً لا تتوقع ان تخذلها. انها معضلة حقيقية تلك العلاقة بين الاهل والاولاد التي تعتبر من المسلمات. الأمر مختلف مع "براد" الذي لا يريد سوى اللهو تماماً كطفل مُنع من اللعب من أجل أداء فروضه المدرسية.

لا يحاكم فيلد شخصياته بل انه لا يهتم كثيراً بالدخول في خلفياتها الثقافية والمعرفية. انه يتحدث على مستوى اولي وانساني بحت عن حاجة اساسية لدى شخصياته، الجنس بشكل تبسيطي. فالعلاقة بين "ساره" و"براد" لا تتخذ في اية لحظة مظهراً عميقاً او خصوصية ما. لا نسمع بينهما حواراً أو نقاشاً. انهما منسجمان جسدياً ولكن ايضاً ليس بالمعنى الجنسي فقط. انه العطش الى الآخر الحاضر والموجود. هكذا تتحول نهاراتهما مع الاولاد في حوض السباحة متعة فائقة لمجرد فكرة حضور الآخر التي لا تتحقق لكل منهما مع شريكه. كلاهما، "ساره" و"براد"، يعاني من غياب شريكه. الغياب هو العلة الاساسية والذي يؤدي الى خلل في العلاقة الجنسية. وتلك فكرة تبدو عصية حتى على "ساره". فهي عندما ترى "كاثي" (جينيفر كونيللي) زوجة "براد" بجمالها الأخاذ تُصاب بنوبة هستيرية. هي أيضاً تملك افكاراً مسبقة عن فكرة العلاقات خارج الزواج. فالسائد أن العشيقة أجمل من الزوجة وأكثر نجاحاً منها. غير انها ترى أمامها إمرأة فائقة الجمال وكذلك ناجحة في عملها. فسبب انهيار "ساره" هو انها تشعر بنفسها أقل من "كاثي".

الحاجة

يخرج الفيلم من نطاق "ساره" و"براد" الى شخصيتين أخريين اساسيتين. "روني" هو "المسخ" كما يراه أهالي البلدة. فهو اضافة الى شكله غير المألوف (عينان شديدتا الزرقة ووجه كثيف النمش وبنية هزيلة صغيرة) يتحرش بالأطفال مما استدعى تأليف لجنة لحماية الاطفال منه يترأسها "لاري". الحاجة هي التي تجمع بين الاثنين. فالأخير مسؤول أمن مسرح يُطرد من عمله بسبب من تعرضه لصدمة عصبية ازاء عدم تمكنه من انقاذ طفل. يجد في ملاحقة "روني" امتداداً لعمله يوفر عليه الاحساس بالذنب والعطالة. أما "روني" فهو الطفل الكبير بكل المعاني. يعيش مع والدته التي تدلله وتعتبر تحرشه بالاولاد "عملاً سيئاً" لا يعني بالضرورة انه هو السيء وتوبخه موصية اياه بعدم تكرار فعلته. يقلب هنا فيلد الزاوية اذ نشاهد العلاقة بين الاهل والاولاد من وجهة نظر الولد "روني". على أن الأخير يشكل نقطة ثقل في الفيلم بعيدة من فكرة التعاطف معه. الفيلم لا يحاكم ولكنه ايضاً لا يناصر بالمعنى الأخلاقي. قوة "روني" نابعة من نظرته الى نفسه. في لحظة، يغريك فيلد بفكرة انه مظلوم وان اتهامات الاهالي له باطلة حينما يجعله محط سوء معاملتهم في مشهد لافت في حوض السباحة. ولكنه لا يلبث أن يؤكد لوالدته انه مصاب بخلل جنسي وانه يشتهي الاولاد. إن جرأة الشخصيات نابعة من فهمها لدوافعها بما يجعل الشخصيات الاخرى العابرة متوترة مرتبكة ازاء ارتياح الاولى في حين ان المتوقع ان يقوم "الشاذ" و"الخائنة" و"الخائن" بجلد أنفسهم.

يملك تود فيلد احساساً عميقاً تجاه الشخصيات. لا شخصيات هامشية هنا. بل ربما يكون البطل "براد" هو أكثرها سطحية. ولكنه يستطيع بمشاهد قليلة ان يختزل شخصية مثل "كاثي" التي بعملها كمخرجة تلفزيونية تواجه اللحظة التي تحرك فيها الاحساس بالذنب كأم عاملة. انها اللحظة التي تبكي فيها بسبب حكاية طفل فقد والده في حرب العراق. في عينيها، يمكن ان تتراءى لنا أفكارها وهواجسها، تترجمها تعلقاً بابنها الذي لا تريده أن ينام في غرفته بل الى جانبها كأنها تعوضه عن الوقت الذي تغيب فيه عنه.

يغوص الفيلم على حياة ذلك المجتمع بعمق وتأنٍ نادر في الافلام. فهو سمح لنفسه بتمرير نصف أحداثه قبل أن يبدأ الحدث المركزي المتمثل بالعلاقة بين "ساره" و"براد". فالاحساس المرافق لمشاهدة الفيلم أن المخرج يقلب صفحاته كما لو كان يقرأ يوميات من كتاب. والواقع ان ذلك غير بعيد من الواقع اذ ان السيناريو مقتبس من رواية بالعنوان نفسه لتوم بيروتا. يغرق الفيلم على مهل في حياة ذلك المكان حتى تحول الاخيرالعالم بأسره. لا أحداث خارج أسوار تلك الضاحية ونادرة هي المشاهد التي تخلو من حوارات. بمكر، يقترب فيلد من الميلودراما ومن السلسلات التلفزيونية، يداعبهما ويسخر منهما أحياناً ولكنه يحافظ على روح سينمائية عالية وقودها شخصيات الفيلم (لاسيما وينسليت وجاكي ايرل هايلي في دور "روني") واسلوب المحاكاة الساخرة التي تكتمل بالشريط الصوتي المرافق وكيفية صهر الاحداث والشخصيات في قالب شديد الخصوصية شكلاً ومضموناً. في مقاربة فيلد جرأة ومخاطرة. فهو يترك لأحداثه أن تتوه في أزقة ضيقة لشخصياته من مثل حضور "ساره" ذلك اللقاء النقاشي حول كتاب "مدام بوفاري" واستغراق "براد" في مباريات الكرة وجنوح "روني" بأفعاله الجنسية...

المستقبل اللبنانية في 13 أبريل 2007