لو يي ولي يو من الجيل الصيني السينمائي الجديد أفلام مهربة مع ثلاثي الجنس والمثلية والأيدز زياد الخزاعي |
صفحات خاصة
|
لكل حقبة سياسية في الصين جيلها السينمائي، إذ يعكس منجزها الفني موارات النفوذ السياسي، وخطوات الاقتصادات التي تسيّر البلاد المترامية الأطراف من أقصى «العناد» الماوي في كسر الحصارات الغربية آنذاك، الى التطرّف الحداثي اليوم، بالانفتاح على رأسمالية الدولة والإيمان بخلاصها للمعضلة الصينية ورهاناتها التي تتعقّد عاماً بعد آخر. أقيمت ركائز هذه المواكبة على انتماء هذه السينما لقطاعات مسيّسة منذ اشتداد عودها في الثلاثينيات (بدأ الإنتاج في العام 1896)، حيث أضاءت أفلام (نُعتِت وقتها بـ«التقدمية» لمخرجين يساريي الانتماء) شاشات شانغهاي (أعظمها «ملاك الشارع» في العام 1937) بحكايات الوطنية وأبطالها الذين استلوا من شوارع وحواري وريف المدينة الناهضة من إرث استعماراتها الطويلة. لينتهي الخضم السينمائي الواسع الاتجاهات والمدرسية اليوم («عصابة شانغهاي» في الثلاثينيات واقتباساتها الأثيرة للأوبرات الموسيقية، وفترة «الكلاسيكيات الذهبية» التي غلبت عليها حكايات المصالحات الاجتماعية، ثم الحقبة الشيوعية وسينماها المرتهنة للدعائي في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، وبعدها حقبة الثورة الثقافية وتنظيراتها المتزمّتة، ثم الجيل الخامس ومناكداته الأيديولوجية)، مع الجيل السادس المهموم بـ«الدمقرطة المتأخرة» للمجتمع المتعدّد الأعراق واللهجات والديانات، والذي (أي الجيل) يراهن على الضغط الغربي للإفلات من عين الرقيب الحزبي وإسماع صوت اعتراضه وصوره ضد تزمّت العقلية الحاكمة وأخطائها التي ريفت المدن وغدرت بآخر المعاقل التقليدية في الصين: ريفها. آخر الضحايا آخر ضحايا التزمت هذا، المخرج الشاب الموهوب لو يي الذي مُنع من العمل للمرة الثانية، بعدما هرّب عمله السجالي «القصر الصيفي» وعرضه في مسابقة مهرجان «كان» في دورة العام الفائت (حول العلاقات الجنسية المفتوحة في حرم جامعة بيجين، بين شابة ريفية وابن مدينة قُبيل اضطرابات ساحة تيان آن مين) من دون موافقة مسبقة. وكان يي تعرّض للمنع للأسباب ذاتها بعدما هرّب عمله المميّز «نهر سوزهاو» وعرضه في روتردام في العام 2000 (حول التباس هويتي شخصيتيّ فتاتين ريفيتين عند النهر الكبير، أدّت ممثلة واحدة الدورين: تختفي الأولى ثم تُقتل لاحقاً في حادث مع حبيبها، في حين أن الثانية يعييها إصرار الأخير على لقاء حبيبته والموت معها). يي، الذي يمثّل ذروة مناكفات هذا الجيل، لم يقف اليوم مكبّلاً بالقرار الحزبي الجائر، بل توجّه الى أرض أخرى: الى فلسطين، وإلى رام الله تحديداً، متعاوناً مع الكاتب والمخرج الفلسطيني مازن سعادة (صاحب رواية «السنديانة» وأفلام «ليل نهار» و«الخيار المّر» و«صديقي عدوي») لاقتباس أحد نصوصه المسرحية «الساعة الأخيرة»، حول فلسطيني يكتشف عند إطلاق سراحه تخلّي زوجته عنه بعد عشر سنوات أمضاها في المعتقل الإسرائيلي. وهي حكاية تقارب الى حد بعيد نظيرتها في أول أعمال يي «عشاق عطلة نهاية الأسبوع» (1994)، الذي مُنع بدوره لمدة عام. وفيه يبحث الشاب تسي، الذي أمضى تسع سنوات في المعتقل، عن حبيبته التي وقعت في غرام شاب آخر، ويدخلان في صراع حب وامتلاك مريرين. المثلية النسائية كما المخرج يي، فإن مواطنته الشابة لي يو تحمل الغضب نفسه ضد التحوّلات التي خطفت أجيالاً وتركت مصائرهم عرضة لتخريب منظم لا تلتفت إليه الدولة ولا حزبها المتضخم. إنهم إرادات تُرمى وسط فوضى العوز والتنافس والاستلاب الاجتماعي والانتهاك الطبقي والتردّي الأخلاقي. ولعل أكثر تجليات هذه الضروب ما حدث مع باكورتها «سمكة وفيل» (2001)، الذي مُنع في الحال وأثار موجة من الحنق الحكومي، لصلافة مخرجته الشابة (ولدت في العام 1974) في مقاربة موضوع المثلية النسائية. إنها لقطات المطارحات السرية التي صوّرتها يو وحرّضت الفضول الغربي على «اصطياده» وعرضه في مهرجانات القارة نكاية بالرقابات الصينية. ومع أن هذا العمل لا يحمل الكثير من موهبة مخرجته، التي انتظرت الأوساط السينمائية عملها الثاني «شارع دام» (2005) لتنثر عليه الجوائز والمديح، إلا أنه، ومعه أعمال أخرى للمخرجين وانغ تساو شوان صاحب «الأيام» و«دراجات بيجين» وتسانغ يوان صاحب «أولاد زّنا بيجين» وجاي تسانغ كي صاحب «المنصة» (2000) و«ملذّات مجهولة» (2002) و«العالم» (2004)، راكم الكثير من الاستفزازت ضد التعمية الحكومية للمناطق المحظور الاقتراب منها، مثل ثلاثي الجنس والمثلية والأيدز والعنف وتمظهرات الإيمان الديني التي واجهها مقص الرقيب وصادرها بعزم لن يتراجع عنه إلاّ بعد مهادنة قصيرة الأمد، يكون فيها الشبان أفلحوا في تأمين فرص جديدة للحيلة السينمائية. هذه الأخيرة، هي عنوان الفيلم الأول، وقد بدا للسلطات أنه حكاية موظفة في حديقة حيوان مهمتها الاعتناء بفيل، وتحاول أمها الريفية تزويجها قبل فوات الأوان. تختط يو حدوتة مفاجئة تُمعِن في الممنوع، إذ تجمع البطلة خطابها المذكور لتعترف بـ«شذوذها»، وتجد حبها في شخصية الشابة بائعة الملابس التي تشاركها لاحقاً السكن والفراش، قبل أن تحلّ عليهما شخصية الحبيبة الأولى، التي هربت من قبضة الشرطة بعد سرقة. ويصبح رهانها الإبقاء على «سرية العشق المحرم» عن طرفين: غيرة الأخيرة، وعقاب السلطة التي لن ترحم. ولئن بدا هذا العمل كأنه تبرير لحق شخصي، فإن جديد المخرجة يو «ضياع في بيجين» (عرض ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان برلين في شباط الفائت) يعقد هذا الحق ويطرحه كشتيمة اجتماعية، يتجاور فيها العار العائلي والدناءة الذاتية التي تجد مسوغات جاهزة لقضية زنى مفروض من قبل إرادة أقوى. فإذا كانت بطلة «سمكة وفيل» تستشعر أن خناق الأعراف أحاطت بسرّها، فإن نظيرتها ليو بينغ جو (أداء مشع للشابة فان بينغ بينغ) التي تدعوها زميلاتها بـ«تفاحة»، تقع في زلّة غير إرادية حين يغتصبها ربّ عملها النافذ وهي ثملة إثر حفلة وداع لزميلتها المقرّبة. عندها، تلتف الفضيحة حول عنقي الـ«تفاحة» القروية الوافدة وزوجها الشاب الذي لا يكف عن فحولته الجنسية معها. مهاجران ساعيان إلى تأمين كفافهما ورضا مسؤوليهما. هي تدلك أقدام الزبائن داخل مصحة للاسترخاء، يديرها المعتدي لين دونغ (نجم هونغ كونغ توني لوينغ) وزوجته الملول. وهو يمضي ساعات معلقاً في سماء بيجين ماسحاً واجهات ناطحات سحابها. ومثلما فعلت المخرجة يو مع بطلة «سمكة وفيل»، حين كشفت عن «اختلاف» نبعها الجنسي، فإن ليو (تفاحة) تواجه محنة عرفها القروي بعدما عرفت بحملها سفاحاً. وهو «اختلاف» من طينة أخرى يرسمها كمومس علنية (العاملات في المصحة يُقنَعَن بتقديم خدمات جنسية للزبائن، لكن بحذر وجزية مالية). وكما تنتفض ضد إجهاض (مطلب زوجها) العيادات السريّة الملوثة، لا بد لها من محاصرة النذل لين لدفع الثمن. هنا، يحدث الانقلاب الدرامي (الذي أثار حفيظة الرقيب الرسمي وحاول منع العرض الألماني) إذ يستخدم القروي فطنته بـ«بيع» النطفة الى لين عبر رشوة الطبيب الذي يغيّر وثيقة الولادة. حينها، يتحول المعتدي الى أب شبه شرعي، يعوّض الزوج الشاب ويحيط حاملة وريث امبراطوريته برعاية تثير غيرة الزوجة المتصابية. طفل لأبوين، أي رقابة ستغفل مصيبة فكرة ملعونة ذات دسيسة اجتماعية مثل هذه؟ الجواب بتحويلها الى مزحة. في «سمكة وفيل»، حولّت المخرجة يو حصانة بطلتها بإخفاء العشيقة الأولى مع الفيل، فيما تبقى الجديدة مسترخية أمام صندوق السمك الملون في شقتها المتواضعة (تورية العنوان بكائنيه). أما في «ضياع في بيجين»، فإن الحق الملتوي ينطبق على الجميع، ما عدا الأم الشابة التي تقرّر الاحتفاظ بالوليد، بينما يجد الزوج الشاب ضالة شبقه الجنسي بالزوجة المحرومة، ويبقى الزاني معاقباً بعزلته وأنوار سيارات الشرطة التي تنعكس على وجهه المرعوب من القصاص. ثيمة طفل الزلّة ليست بأمر غريب عن اشتغال المخرجة يو. ففي عملها الروائي الثاني الأكثر أهمية «شارع دام»، تحمل البطلة الريفية الشابة إثمها الشخصي حين تُجهض وليدها على يدي أختها الممرضة. ويكون عليها انتظار الصدفة التي تجمعها بفتى وحيد، لتكتشف أنه صبيها الذي باعته الأخت بثمن تبن، درءاً لعار عائلي لن تُغفر عواقبه. أفلام يو تتكاتف حول الشبيبة كونهم الأضحيات المجتمعية التي يُسهل صيدها، وحولهم لا توفر يو الكثير من الإشارات للسلطة المغيّبة الى حد ما، وتُكثر من مشهدياتها المفتوحة على الشارع في محاولة مكشوفة لتعرية اليومي وعسفه والرزَايا التي يعيشونها. تنضح نصوص يو باتهام خيانة الكبار المنشغلين بفسادهم أو بقلة حيلتهم، فالتغيير الذي ترصده لن يهم كائنات ما زالت محكومة بسطوة الجور الحزبي. من هنا، ستفهم أسلوبها في الاتكاء على اعترافات ضمير المتكلم (البطل) الذي يُشهِدَنا على البلايا التي لا تخلو من التهكم الذكي. (لندن) السفير اللبنانية في 12 أبريل 2007
|