قصة فتى صاحب قدرة خاصة على الشم "عطر: قصة مجرم" فيلم ثقيل الوزن |
صفحات خاصة
|
في العروض الأوروبية حالياً، ومن بعضها عروض محدودة في بعض العواصم العربية، فيلم للمخرج الألماني توم تايكر عنوانه “عطر” (Perfume) مأخوذ عن رواية للكاتب الألماني بيتر سسكيند (او شوشكيند حسب اللهجة الألمانية حيث وُلد سنة 1949) وعنوانها الكامل “عطر: قصّة مجرم”. لم تكن الرواية أولى أعمال سسكيند إذ كان أصدر مجموعات من القصص القصيرة في السبعينات، لكن شهرته لم تنطلق الا مع مطلع الثمانينات عندما وضع رواية بعنوان “السمكة المزدوجة” التي أشارت الى ميلاده كروائي قبل أن يتبعها سنة 1982 برواية “عطر” التي انتشر رحيقها في النوادي الأدبية عالمياً وتبوّأت سريعاً قمم المبيعات بلغتها الأصلية (ألمانية) كما بمعظم اللغات التي ترجمت إليها ومن بينها الفرنسية والانجليزية. “الحمامة” (1987) و”قصة مستر سومر” (1991) روايتان لاحقتان أنجزتا مديحاً نقدياً لكنهما لم تتجاوزا -تجارياً- ما حققته روايته “عطر” من قبل. حسب المخرج تايكر الذي كنّا تعرّفنا إليه لأول مرّة في فيلمه “اركضي، لولا، اركضي” (1998) الذي كان ثالث أفلامه، فإن مشروع نقل الرواية الى فيلم لم تبدأ بالأمس القريب. لسنوات عديدة سعى المخرج ومنتجه برند آيشنجر الى إقناع سسكيند بقبول تحويلهما تلك الرواية الى فيلم، لكنهما دوماً ما واجها رفض الكاتب وإصراره على عدم تمكين السينما من ترجمة عمله الى فيلم ما. فجأة في عام 2002 غيّر الرجل رأيه وباع الحقوق الى آيشنجر الذي كلّف تايكر بكتابة السيناريو والإخراج. قرأت الرواية حين بعث بها إليّ منتج بريطاني أراد رأيي في أمر تحويلها الى فيلم سينمائي. كان مهّد طويلاً لها ببث إعجابه الشديد بها. ومن قبل أن أنجز قراءتها اتصل المنتج وأخبرني أنه اكتشف أن الحقوق مُباعة فعلاً الى المنتج الألماني. استمررت بقراءتها على أي حال. نصف معجب. “عطر”، الرواية والفيلم، عمل داكن جدّاً. وجديد الى حد بعيد. بطله، كشأن شخصيات روايات الكاتب عموماً، شخصية بغيضة للآخرين، لكن تحت أسباب البغضاء يكمن بصيص من أسباب التعاطف، إذا ما نجح أحد من الشخصيات الأخرى (بمن فيهم القارئ) في النظر الى ذلك البعد. هذه الشخصية غير قابلة للاختلاط بالمجتمع. غريبة عنه. مكروهة وهي فيه... هل كان سسكيند يصف طائفته شاعراً بالاختلاف؟ هذا كثيراً ما نراه مرتسماً في الروايات والقصص التي يكتبها أدباء يهود، بالتالي هو أمر محتمل، ولو أنه لن يكون مؤكّداً الا إذا أعلن الكاتب عن ذلك بنفسه. القصّة، التي تدور أحداثها في القرن الثامن عشر، تتحدّث عن فتى وضعته أمّه (بلا أب معروف) في سوق السمك حيث تعمل. كرهته منذ لحظة وضعه. تركت مكانها وراء الأسماك وتركته على الأرض الوسخة وهربت. يلتقطه المارّة ويتم إدخاله ميتماً حيث ينشأ باسم جون بابتيست. لم يكن كثير الكلام، لكنه كان كثير التعرّض للضرب. كان هناك دائما شيء غير مريح حوله. لم يُعجب به أحد وعومل كعبد تسند إليه المهام القذرة كلّها. صاحبة الملجأ تبيعه. من اشتراه يبيعه. ومن اشتراه منه يتركه يمضي لاحقاً بعد سنوات أصبح جون بابتيست خبيراً في صنع العطور. ذلك ليس غريباً عليه، إذ وُلد بقدرة بالغة التميّز على الشم. يستطيع أن يعرف الروائح كما يعرف المرء منا وجهه. وآخر من عمل معه قبل رحيله عنه صوب النصف الثاني من الرواية الفيلم، هو عطّار كانت بضاعته كاسدة بسبب وجود عطّار إيطالي سرق الجو المخملي لذلك الحين بعطوره الشذية. لكن جون بابتيست يبتكر له العطر الذي يعيد إليه الزبائن بوفرة لم يحظ بها من قبل. على الجسر بين جزأين “عطر” - الفيلم يختار من جرائم جون بابتيست الأولى جريمة واحدة. ذات يوم لحق بامرأة تبيع التفّاح في الأسواق المعتمة وقتلها بينما كان يشم رائحة جسدها. لكن جون والموت على علاقة مسبقة، فمنذ ولادته والموتى ينتشرون من حوله: في البداية ماتت والدته سريعاً من بعد هجرانها له، ثم ماتت المرأة التي ربّته وتاجرت به، ثم مات الرجل الذي ابتاعه منها وأسند إليه كل الأعمال المنهكة حفراً، وبعد ذلك مات العطّار نفسه عندما انهار الجسر الذي كان منزل العطار مبنياً فوقه. في الكتاب وصف لذلك الجسر وما عليه من منازل. في الفيلم الوصف مطبوع بالصور، لكن الفيلم هو الذي يشي بأن أحداً بعقل لا يمكن أن يكون بنى جسراً ليبني فوقه كل هذا العدد الكبير من المنازل المتداعية. المهم، لا أحد من شخصيات ذلك الجزء الأول من حياة بابتيست ومن صفحات الكتاب ومشاهد الفيلم يعيش لينتقل الى الجزء الثاني الا جون بابتيست نفسه. هو الآن في مزرعة تقع في قرية. يعمل بصمت بعدما نجح في الهرب من باريس. يبدو بريئاً ومسالماً. ربما يدرك أن صاحبة المكان على علاقة برئيس العمّال، لكنه بالتأكيد يدرك جمال ابنة محافظ البلدة. يرقبها. ذات ليلة تلعب الاستغماء في الحديقة المصنوعة على شكل متاهة. والدها يناديها أن تخرج. جون بابتيست كاد يصل إليها مشدوداً الى رائحتها (لكل إنسان رائحته الخاصة كتب مارسل بروست ذات مرّة) لولا أنها خرجت الى أبيها قبل أن يصل هو إليها. بقيت في باله. جون بابتيست لم يكن يريدها للاعتداء عليها، فهو لم يتعلّم الحب. بالنسبة إليه رائحة الفتاة هي ما يحتاجه لإتمام اختراعه عطراً جديداً كان بدأ العمل عليه منذ وصوله. كلما احتاج امرأة يستخرج منها رائحتها، قتلها ونقلها الى المختبر حيث يضعها في انبوب كبير يسلقها على نار هادئة. الدهن والعرق المتصبب يمر في أنابيب صغيرة تقطر وتؤلّف جزءاً من الاختراع الكبير. هل يصل جون بابتيست إليها؟ إذا ما كان جون بابتيست هرب من باريس تاركاً الموت الذي لم يرتكبه جنباً الى جنب الجريمة التي أرتكبها، فإنه بوصوله الى تلك البلدة الصغيرة، أخذ يرتكب المزيد من الجرائم مؤكداً ما كشفه في الوهلة الأولى من أنه لا يعرف قيمة للحياة بالتالي لا يستطيع أن يدرك حقيقة ما يقوم به حين يزهق روحاً. حين ينطلق بطل سسكيند المزري بزهق الأرواح ناشراً الرعب بين السكّان يكون تحوّل الى ما يسميهم القانون وعلم النفس والإعلام اليوم، بالقاتل المتسلسل. وتكون رواية سسكيند غرقت أكثر في عالم هو في الأساس معتم وموحل وبلا أمل. زاوية الكاتب هنا ليست إدانة بطله وذلك من منطلق عدم القدرة على إدانة من وُلد بلا فهم للحياة وتعرّض لكل إرهاصاتها والمخرج تايكر يحافظ على كل ذلك العالم الخاص بجهد ملحوظ. هناك إخلاص للرواية وعالمها وأجوائها ولو أن ذلك لا يمنع من استعانته بالكمبيوتر جرافيكس بضع مرّات آخرها في ذلك الفصل الذي نرى فيه الحشود تجتمع لحضور تنفيذ حكم الإعدام بجون بابتيست. هذا قبل لحظات من التنفيذ يخرج منديلاً وينفخ عطره فينتشر العطر فوق المئات من المجتمعين، رجالا ونساء، فإذا بهم يُصابون بالنشوة العاطفية. تحلّق الكاميرا فوق الجموع مذكّرة بفيلم مايكل أنجلو أنطونيوني “زابرسكي بوينت” إنما من دون البعد السياسي لذلك الفيلم الذي أنتج سنة 1970. “عطر” كما أخرجه تايكر ليس عملاً سهل التحقيق. لننس أن المخرج كان وعد الكاتب بالحرص على نقل الرواية بأمانة وهو الوعد الذي نفّذه بقدر ما يُتاح للسينمائي من وسائل، هناك التصاميم الفنية والإنتاجية التي تنقلنا الى ذلك الزمن الغابر بتفاصيله غير القابلة للعد. وهناك إداء الممثل بن ويشو: ضعيف البنية ومخطوف اللون وجاحظ العينين قليلاً. بكلمات أخرى يجسّد -بدنياً- جون بابتيست قابلاً للتصديق. ويزيد من قابليته أن ويشو أجاد في تشخيص الدور إجادة المخرج في تعامله العام مع الممثلين جميعاً وتوحيدهم تحت سقف الموضوع من دون جنوح أحد منهم في أي اتجاه. تايكر كان تبع “أركضي، لولا، أركضي” بفيلم عنوانه “سماء”، ثم بآخر عنوانه “وداعا لينين” قبل أن ينجز هذا الفيلم. والمتابع يعرف أن كل واحد من هذه الأفلام يختلف عن الآخر في الموضوع، وهذا طبيعي، وفي تكوين ومهام الشخصيات، وهذا أيضاً طبيعي الى حد، لكن غير الطبيعي أن تختلف أساليب عمله ونوعيات أفلامه الى هذه الدرجة. “أركضي لولا” يبدو كما لو خرج من تحت إبط مخرج تجريبي. “سماء” متمهّل وتقليدي الشأن. “وداعا لينين” كوميديا سوداء خفيفة ذات نيّة سياسية. هذا الفيلم أثقل وزنا من كل ما حققه سابقاً. تحبّه أو تكرهه بلا وسطية في الموضوع. فعلى الرغم من عناصره الفنية المضبوطة، إلا أنه في النهاية ترجمة لرواية تجنح الى منح الشخص المشوّه تقديراً يصل في نهاية الفيلم (ذلك الفصل المذكور) الى قدر من التأليه الاجتماعي والروحاني مع مهاجمة الرمز الديني المسيحي المتمثّل بالكنيسة التقليدية (كشأن الكثير من الروايات والأفلام التي يكتبها يهود). بذلك يطلب الكاتب والمخرج منّا قبول بطله المريع ملاكاً أزكى من الناس ينادي في النهاية بنشر الحب ولو أن الدعوة إليه تتم بقطرات من أجساد كل العذارى اللواتي سقطن في قبضته من قبل. الخليج الإماراتية في 8 أبريل 2007
|