أوراق ناقد... المستقبل الموعود ليس تلفزيونياً محمد رضا |
صفحات خاصة
|
ما صرّح به الفريق ضاحي خلفان تميم، قائد شرطة دبي، قبل أيام حول تأثير المستوى الهابط لما تواظب معظم المحطّات التلفزيونية الفضائية على بثّه كنا تحدّثنا عنه هنا أكثر من مرّة. كتبنا وحذّرنا وأشرنا وهاجمنا وانتقدنا. ولابد أن أحداً في إدارات التلفزيون قرأ ثم تمنّى لو لم يقرأ. مثل هذا الكلام لو تم تطبيقه لأقفلت المحطّات. لتم طرد موظّفين. لبدا أن هناك مسؤولية أخلاقية كبرى تأخذ المبادرة، والعديد من الناس رؤساء مصالح في تلك المحطّات أو موظّفين عاديين مرتاحون لما هم عليه من إغلاق أعين وصم آذان. طبعا الوسائل الفعّالة التي بين يدي إدارة الفريق تمنح ما قالته التأكيدات والبراهين المنشودة. لقد خطا خطوة مهمّة في وضع النقاط فوق الأحرف حول ما يحدث في دولته، وهو يحدث في شكل متواز مع دول عربية أخرى. دائما باسم الاقتصاد المفتوح والتحديث والتغيير والمستقبل الجديد. لكن الخطوة وحدها لن تكون كافية لإنقاذ النشء من تلك الأنياب غير الأخلاقية للمحطّات الغنائية والشبابية وسواها. ما سيساعد على ضبط الوضع قبل فوات الأوان هو أن تكون هناك سياسة ثقافية عليا في هذا المجال تسعى لمواجهة هذه المحطّات بأي صورة ممكنة. وأنا لا أدّعي أن لدي دراسة أريد بيعها، بل مجرّد أفكار حول ضرورة هجوم مضاد على ما تنشده تلك المحطّات المتسللة الى التقاليد العربية الصحيحة. وأعتقد أن المسألة ليست مجرّد محطات رقص خلاعي ورسائل قصيرة، المسألة المستوى الهابط للبرمجة في معظم ما هو مبثوث. هناك حلقات مسلسل عنصري بعنوان “24” يتم بثّه من على واحدة من هذه المحطّات. هناك كوميديات ليبرالية أكثر من اللازم تبث في محطّات أخرى، وهذا من بين ما هو مستورد. حين يأتي الأمر الى ما هو مصنوع، يكفي أن العديد باتوا يستخدمون اللهجات المحلّية ما يدفع مجمع اللغة العربية كل عام لإطلاق النداء ولا أحد هناك يستمع. المحطّات الدينية وسط هذا التشويش الذي خلقته الجماعات المتطرّفة أصبحت متأخّرة عن التواصل مع الشباب، وتلك الإخبارية تتسابق لإيهامنا أننا مجموعات مختلفة من دول من حقّها أن تتناحر فيما بينها لكن لم يعد من حقها التناحر ضد العدو الصهيوني. ومعظهما باتت تهرع للتصالح مع “إسرائيل” لأن “إسرائيل” طريق المستقبل! أما تلك المحطّات فهي أبعد ما تخشى لومة لائم. لأنها لا تملك الأخلاق التي نطالبها بها. ولا أصحابها يرون ضرراً في ما يسمحون به. المستقبل الذي يتراءى لها هو من ثلج رقيق. وهو أول ما سيذوب عند اشتداد حرارة البحث عن حلول لإعادة الناس الى مستوياتها الفكرية والأخلاقية السابقة. هي ليست سوى مغذ للتطرّف، هي تزيد ناره استعاراً وهو يجعل منها ملجأ لمن لا يفهم معنى الاعتدال. * هل أنا ضد التلفزيون؟ - طبعاً، لم أستسغه يوماً واليوم أكثر من أي وقت مضى. في الماضي على الأقل، كان موقعاً مستفيداً من المستوى الأخلاقي والثقافي العام. مسلسلاته العربية كانت أفضل والأجنبية كانت أكثر ترفيهاً وبراءة. أغانيه كانت من رحيق المستوى الفني لعالم الغناء وأفلامه كانت من مستوى الشائع حينها، والتي مهما هاجمها نقاد ذلك الحين، فإنهم يدركون اليوم، قبل غيرهم، انها كانت أفضل بعشرات المرّات مما هو مُتاح باسم السينما العربية حالياً خصوصاً وأن حال السينما المصرية كان مُعافى بوفرة الانتاجات وتنوّعها. لم تكن هناك حفنة من الممثلين يحتلّون الشاشات الأولى مسنودين بحفنة من المنتجين. كان هناك شيء اسمه الإبداع وكان مقدّساً بصرف النظر عن موقع المشترك في الحالة الثقافية والفنية العامّة. هل كانت حالة كاملة؟ طبعاً لا، لكن مع قصورها كانت أكثر كمالاً مما هي عليه الآن. * أين وقع الخطأ؟ هناك ألوف المحللين السياسيين في العالم العربي بعضهم لابد يعرف كيف يصوغ الجواب أفضل مني. وبذكرهم، أعتقد أن ما تقدم عليه المحطّات الإخبارية كافّة هذه الأيام لا يزيد الوضع إلا تعقيداً. المحلل كثيراً ما هو دائم الانتقال من شاشة الى اخرى (مثل منجّمي مطلع السنة) يريد أن يبيع للمحطّة رأيه، وعينه على شهرة وحضور وبضع مئات من الدولارات في كل مرّة. بل أخذنا نشاهد كتّاباً عرفوا بالكتابة في مواضيع لا علاقة مباشرة لها بالسياسة وهم يتصدّرون الشاشات ويطلقون الأحكام ويحللون. ومن ناحيتهم، يصر المذيعون على مقاطعة المتحدّثين. بعض المقاطعات في محلّها والبعض الآخر مستعجل، فالغاية ليست الاستماع إليه، بل جلبه لتزيين النشرة بالتنوّع المرغوب. الخليج الإماراتية في 8 أبريل 2007
سجل الأفلام ... " راشومون" 4 قصص تبحث عن الحقيقة قبل هذا الفيلم، لم يكن أكيرا كوروساوا معروفاً خارج موطنه. هذا السينمائي الياباني الأشهر بين أترابه الى اليوم، أنجز في “راشومون” الفيلم الذي احتذى به أكثر من مرّة في السينما. الفيلم الذي يتناول حادثة واحدة مروية من عدّة وجهات نظر. كل منها تختلف عن الأخرى وإذ تفعل تضيع الحقيقة. من فعل ماذا؟ ما الذي حدث فعلاً؟ ما الحقيقة في الفيلم ثم ما الحقيقة في المطلق؟ بالتالي ما التاريخ الذي يصلنا؟ تاريخ من هو؟ أي رواية منه؟ اقتبس كوروساوا الفيلم من قصّتين وضعهما المؤلّف ريونوزوكي أكوتاغاوا. واحدة بعنوان “راشومون” والثانية بعنوان “في البستان”. ويبدأ الفيلم بيوم شديد المطر وثلاثة رجال يحتمون منه تحت سقف مبنى متهدّم. الثلاثة ناسك، ورجل عادي وحطّاب. يتداولون جريمة قتل وجريمة اغتصاب. الضحيتان هما ساموراي وزوجته. والمتّهم قاطع طريق. خمس مرّات نرى الحكاية مروية من قبل هذه الشخصيات. فلاش باك في فلاش باك ودوماً بالعودة الى أحد الشخصيات الثلاث الأولى وهي تتداول زوايا الحدث الواحد. في واحدة من القصص، قاطع الطريق شبه المتوحّش تصدّى للزوجين خلال مرورهما بالغابة فقتل الرجل واغتصب زوجته. في الثانية، الزوجة هي التي حرّضته على زوجها. في رواية أخرى الزوج هو الذي انتحر. لكن النقلة الأهم هو أن الحطّاب، وهو شاهد عيان يبقي شهادته للنهاية، يكشف عن أن كل واحدة من هذه الروايات مختلقة وأن الحقيقة لا تزال بعيدة. صوّره بالأبيض والأسود كازيو مياغاوا الذي وُلد سنة 1908 ومات سنة 1999 وكان أحد أفضل مديري تصوير السينما اليابانية. عمل أكثر من مرّة مع كوروساوا ومراراً مع زميليه اللذين لا يقلاّن إبداعاً عنه يازوجيرو أوزو وكنجي ميزوغوشي. قبل التصوير استقبل أكيرا كوروساوا ثلاثة مساعدين له جاؤوه يستوضحون السيناريو: “لم نفهم شيئاً” أجمعوا قائلين. طلب منهم إعادة قراءته بتمعّن، فأجابوه إنهم فعلوا ذلك ولم يفهموا المقصود. حينها قال: “لو قرأتموه بتمعّن لفهمتم أن الفيلم لديه نظرة شاملة حول ماهية الحقيقة”. وما قصده المخرج هو بالتحديد ما وصل إليه عبر فيلمه: ليست هناك حقيقة واحدة بل عدّة حقائق وكل شخص لديه فيما يقع وجهة نظر مختلفة. لكن عوض أن يخلق ذلك تحت يدي مخرج ما عملاً تائهاً بين الحقائق، أنجز كوروساوا فيلماً يملك الحقائق كلها ممهورة بقدرة رائعة على الوصف والتمعّن والاستنتاج على نحو متساو تماماً. حين جال الفيلم في أوروبا أصاب الناظرين إليه بالذهول واكتشفوا من اليابان البعيدة مخرجاً مختلفاً. لكن إنتاج الفيلم لم يكن أمراً سهلاً إذ رفضته شركات كبيرة ورضت بتمويله شركة صغيرة كرهت الفيلم وندمت على تحقيقه الى أن فوجئت بخطفه الجائزة الذهبية في مهرجان “فانيسيا” الشهير، ثم فوجئت أكثر بفوزه بأوسكار أفضل فيلم أجنبي. هذا يخبرك شيئاً مهماً ومفيداً عن الإبداع والأسلاك الشائكة التي تحاول عادة الحد من انطلاقته، أسلاك يزرعها عادة أصحاب رأس المال. كما ورد آنفاً، تم استنساخ طريقته أكثر من مرّة في السينما آخرها فيلم خالد يوسف “خيانة مشروعة” وفيلم الأمريكي برايان سينجر “المشتبه بهم العاديون”، لكن لا هذين الفيلمين ولا أي فيلم آخر عمد الى الاحتذاء بطريقة كوروساوا وبعد مفاهيمه، فليس الأمر مجرد سرد القصة على نحو معيّن، بل منح المشاهد السبب في ذلك النحو أصلاً. الخليج الإماراتية في 8 أبريل 2007
|