وداعا يا قريتي.. يا مدينتي.. يا طفولتي يا حياتي تكتبها: ايريس نظمي |
صفحات خاصة
|
يحصل عبدالحليم حافظ علي شهادة الابتدائية.. ويقرر السفر إلي القاهرة ليلتحق بمعهد الموسيقي العربية التي أحبها.. هذا اليوم الذي كان يحلم به يتحقق الآن.. صحبه أخيه الاكبر اسماعيل شبانة الذي سبقه إلي عالم الموسيقي والغناء ليلتحق بالمعهد.. وفي الاتوبيس الذي كان يقلهم إلي القاهرة كان حليم يستعيد ذكريات طفولته البائسة وهو يودع قرية 'الحلوات'.. لأيام اليتم المريرة.. للملجأ الذي ارتاح فيه لانه واحد مثلهم.. لحقن البلهارسيا اللعينة.. لهروبه من كتاب الشيخ أحمد.. لاتهامه دائما بانه نحس ونذير شؤم.. لكن قلبه يخفق تتنازعه عواطف لم يشعر بها من قبل.. تري هل ستعوضه القاهرة طفولته البائسة وذكرياته المؤلمة. وداعا ياقريتي.. يامدينتي.. ياطفولتي.. ياحياتي.. وهل ستعوضيني أيتها القاهرة طفولتي البائسة؟ وداعا.. وداعا يامدينة الزقازيق.. ياعزبة الحريري.. ياشارع الحمام.. ياكتاب الشيخ أحمد.. ياحقنة البلهارسيا اللعينة في طابور المستشفي الأميري.. وداعا ياقريتي الهادئة البائسة الصغيرة.. 'الحلوات'.. وداعا لماء الترعة البني اللون.. الذي اغراني بخلع ملابسي والقاء نفسي في أحضانه بلا تفكير.. دون ان أعرف أن خطر الموت يرقد في هذا الماء الملوث المخلوط بالطمي. وداعا لأيام اليتم المريرة التي علمتني الصبر في وجه الشدائد.. وليالي البؤس الخالية من حرارة الأمومة.. وعطف الأبوة.. وداعا لمديرية الشرقية كلها التي توشك أن تختفي من أمام عيني.. فهل ستعوضيني أيتها القاهرة عن طفولتي البائسة وذكرياتها المؤلمة؟ هل سأجد في صدرك الحنان الذي حرمتني منه الأيام دون ذنب؟ هل ستفتحين لي ذراعيك مرحبة أم ستشحبين بوجهك عني غير عابثة بنظراتي المتوسلة؟ هل ستسمعين صوتي.. ام انه سيضيع وسط هذا الزحام الرهيب الذي لم أر مثله في حياتي؟ من أين جاء كل هؤلاء الناس.. واقشعر بدني خوفا وازددت قربا من أخي اسماعيل.. وأمسكت يده بشدة عندما تصورت اني قد أضيع منه وسط أمواج البشر التي لاتتوقف عن الحركة ونظر إلي أخي اسماعيل قائلا سنذهب الآن إلي معهد الموسيقي لنقدم الأوراق.. وازدادت مخاوفي.. هل سأنجح في هذا الامتحان.. انني مرهق ومتعب.. لقد ظل جسمي مقيدا بالجبس لمدة أربعة شهور طويلة ولم أتحرر من ذلك الجبس الا منذ اسبوع واحد فقط.. لكن سأبذل كل جهدي في هذا الامتحان مهما كان صعبا.. لقد ذقت مرارة اليتم والوحدة والفشل.. أريد ان اذوق طعم النجاح.. ووصلنا إلي مبني معهد الموسيقي العربية الذي كان أخي اسماعيل يعرفه جيدا بحكم دراسته فيه.. وبعد ان انتهينا من تقديم الأوراق المطلوبة اخذني أخي اسماعيل إلي ميدان السيدة زينب الذي تجمعت امامه اعداد كبيرة من الناس.. سيدات ورجال وأطفال.. كلهم جاءوا يتلمسون البركة.. وامتلأ قلبي بالخشوع وأنا واقف امام مقام السيدة زينب.. شي الله يا أم هاشم.. ياباتعة.. بركاتك ياسيدة.. همسات اسمعها من حولي.. وكل الأعين مركزة علي مقامها الطاهر ونظرت إلي أخي اسماعيل ووجدته هو الآخر يتمتم بدعوات خاشعة لم اسمعها جيدا.. ووجدت نفسي أقول بصوت هامس.. بركاتك ياسيدة.. انجح بس في الامتحان.. ثم صليت ركعتين مع أخي اسماعيل الذي لم يتوقف ابدا عن الدعاء. وعندما خرجت إلي الميدان الكبير شعرت براحة غريبة تسري في جسدي كله.. احسست بالأمل يغمر قلبي.. وقلت ربنا معانا.. سأنجح بإذن الله.. تفاءلت جدا بزيارة ضريح السيدة زينب.. واتجهنا نحو (بركة الفيل).. وبدأت اسأل أخي الاكبر عن المباني والاماكن والشوارع التي أراها لأول مرة حتي وصلنا أخيرا إلي شارع الشيخ سلامة حجازي.. يبدو أن الاقدار تلعب في حياتي دورا غريبا.. فأنا الذي جئت لكي ادرس الموسيقي.. أنا الذي أعشق الغناء والطرب.. أقيم في شارع يحمل اسم واحد من كبار فناني الغناء الشيخ سلامة حجازي.. وتفاءلت اكثر.. هل هي مصادفة؟ أم انها البشري السعيدة التي تقودني في طريق الأمل؟ المكان الذي نقيم فيه عبارة عن حوش تطل عليه مجموعة من الغرف.. ودورة مياه مشتركة.. ومطبخ صغير.. وفي هذا الحوش تعيش فيه اكثر من أسرة.. والغرفة الواحدة تضم شخصين وثلاثة وخمسة أشخاص أحيانا.. هذا المكان يطلق عليه اسم (الربع).. وكان أول ما فعلته عندما دخلت الغرفة ان سألت أخي اسماعيل: ماعندكش راديو؟ قال: عندي.. وما عنديش. ولم أفهم شيئا.. فأكمل حديثه مفسرا اجابته الغامضة وعلي وجهه ابتسامة خفيفة. فيه ناس هنا في الحوش غاويين راديو.. ودايما يفتحوه طول اليوم من أول ما يبدأ الارسال حتي وقت متأخر من الليل. وبدأت اذناي تلتقط صوت راديو الجيران الذي لايكف عن ترديد الأغاني والبرامج ابتداء من شروق الشمس حتي ساعة متأخرة من الليل.. كانت محطة اذاعة وحيدة وليست مجموعة محطات مصرية كما يحدث الآن.. وصوت الراديو الوحيد يملأ الحوش كله لأسمع كل الأغاني التي أحبها مجانا وبدون أي مقابل.. وهذا ما جعلني أحب هذه الغرفة التي أشارك فيها أخي اسماعيل الذي كان يعمل موظفا في معامل وزارة الصحة لاختبارات الأدوية.. بعد أن كنت لا أتصور كيف ستكون الحياة وسط زحام هذا الحوش المكدس بالسكان. وبدأت أخرج إلي الشارع.. شارع الشيخ سلامة حجازي لاستكشف الحياة فيه ورشة خاصة بتقطيع الأخشاب.. ومحل للبقالة.. وآخر لبيع الفول والطعمية.. بالاضافة إلي المكوجي.. كل الخدمات والمستلزمات الضرورية موجودة فيه.. انه يذكرني بشوارع الزقازيق.. لكن شارع الحمام الذي اقمت فيه فترة طويلة من الشوارع الرئيسية في مدينة الزقازيق.. كما ان البيت الذي كنت اعيش فيه مستقل بذاته وليس داخل حوش.. لكني قررت أن أفعل شيئا.. ان أشارك أخي الاكبر في تحمل المسئولية.. الا يكفي انه يتولي الانفاق علي؟ لابد أن أساعده. وانتظرت حتي عاد.. وبعد ان انتهينا من تناول طعام الغذاء سألته.. مفيش حد بييجي يغسل لك أو ينظف لك؟ قال لا أنا باعمل كل حاجة بنفسي.. واعترضت قائلا.. مش معقول كدة لازم حد يساعدك من النهاردة أنا حاعمل كل حاجة.. ورغم انه حاول أن يمنعني من تنفيذ قراري هذا الا اني شعرت بأنه سعيد بهذا الاعتراض وبرغبتي العاطفية في التخفيف عنه ومساعدته بأي شكل من الأشكال.. وبدأت أؤدي الواجبات المنزلية.. تعلمت الطهي.. أو حاولت أن اتعلمه.. ومسح أرضية الغرفة.. وأصبحت مسئولا عن أعمال النظافة.. ورأيت الابتسامة علي وجه أخي العائد من عمله وهو يري الغرفة المنسقة المرتبة النظيفة.. وشعرت بوجودي اكثر وبنجاحي في تخفيف بعض اعبائه، كنا ننام علي سرير واحد.. فيما عدا الحالات الاستثنائية عندما يحضر أخي محمد من الزقازيق لزيارتنا.. لكن كان مكاني دائما إلي جانب أخي الاكبر فوق سرير واحد. أخبار النجوم في 7 أبريل 2007
|