في فيلمه الثاني بعد «علي ربيعة والآخرون»... أحمد بولان: العدالة تحوّل الموسيقيين عبدة للشيطان! الدار البيضاء - مبارك حسني |
صفحات خاصة
|
«ملائكة الشيطان» هو الفيلم الثاني للمخرج أحمد بولان وتدور أحداثه حول حدث عابر يعود الى سنة 2003، تم توظيفه للحديث عن بعض القلاقل المجتمعية في مغرب اليوم، وهو حدث سمي إبانها بقضية عبدة الشيطان. وقد تم التطرق إليه بتشغيل عمق موسيقي غير مألوف، الأمر الذي يمنح شريطاً «موسيقياً» يهتم في شكل بارز بما هو «سياسي». المخرج أحمد بولان لم يخف قط انه كان في الأصل راغباً في الحديث عن البعد السياسي فهو معروف بالتعليق على ما يِراه يمور في المجتمع من أحداث. وقد فعل ذلك من قبل في فيلمه الأول «علي، ربيعة والآخرون» ( 2000) حيث حكى قصة شلة من الأصدقاء الشباب غارقة في حمى الإيديولوجيا اليسارية والمتياسرة في سنوات الرصاص في سبعينات القرن الماضي. وفي هذه المرة لدينا شلة شباب أيضاً من إحدى سنوات بداية الألفية الثالثة، لكنها عكس الأولى فهي غارقة في حمى الموسيقى. شباب هذه المرة هم في الحقيقة فرقة موسيقى الهارد روك. يتناولون المخدرات، ويتعاطون ملذات الحياة الحسية والرفاقية ما بين عرضين موسيقيين جماهيريين في إحدى الساحات، لكنهم لا يتعاطون السياسة أبدا، بل يحيون شبابهم بكل بساطة، مع بعض التجاوزات الصاخبة والملونة البريئة تجاه الأخلاق السائدة العامة. تجاوزات تبدو كبيرة وغير مقبولة لدى فئة من المجتمع. الشيء الذي سيجعلهم تحت المراقبة والرصد من طرف الشرطة، الاعتقال ثم المحاكمة من طرف العدالة. التهمة هي: عبادة الشيطان ( كما حدث لرفاقهم في مصر من قبل)، عبر الزعم أن الشيطان هو الذي يقود خطواتهم. وسائل الإثبات: قمصان ملونة بلون الدم، نموذج جمجمة إنسان، تصاريح و كلام، إشاعات، الملابس غير مناسبة ومثيرة. أي العديد من المظاهر والسلوكات التي يصعب أن يتحملها «مجتمع» محافظ تقليدي وتؤثر فيه رياح التيارات السياسية الأصولية. يتدخل المخرج أحمد بولان هنا بالتحديد ويظهر كل هذا، يظهر أعضاء الفرقة، عبر مشاهد مختارة بعناية، ليلاً غالباً، فوق خشبات العزف، في المقاهي (مقهى المصري على الخصوص). وفي الوقت نفسه يتخذ موقفاً. فهو، كما يمكننا التكهن بذلك، يقف في جهة فن الموسيقى، أي في جهة الحياة. لكن كيف يفعل ذلك؟ إعادة بناء الحكاية في الحقيقة آل المخرج على نفسه أن يحكي قصة هذه الفرقة الموسيقية. وهو شيء غير بسيط بما أن السرد يتطلب توخي خلق «الحدوثة» مع ما يستلزم ذلك من قدر في التحوير الحكائي والابتعاد عن مطب التوثيق و «الريبورتاج» التي قد لا يسلم منها النقل عن الواقع المباشر. فمن الأحداث كما تناولتها وسردتها الصحف، يجب إيجاد الحبكة التي يمكن تمريرها على الشاشة الكبرى. وهنا اختار المخرج الحكي الخطي الذي ينتقل خطوة خطوة، حدثاً إثر حدث، مع التركيز المحوري على الوصول نحو اللحظة الأساس المتمثلة في مشهد المحاكمة العلنية، والتي تحولت إلى محاكمة شاملة للمجتمع الذي وجد نفسه في حرج وتوتر كبيرين تجاه ذاته، أي في إحدى مكوناته الأكثر هشاشة ووهناً، أي خيار التوفيق ما بين مزايا الحداثة والتشبث بالثوابت القديمة المتوارثة، أي التشبث بالخيط الرقيق الذي يجب تعضيده وأيضاً معاودة التفكير فيه وفي كيفية إسناده في سبيل تحقيق التقدم أكثر وأكثر. والشريط يبين ما يعتور هذا الخيار المزدوج من أمور محرجة وغير مواتية وذلك عندما يسهب في تصوير الحوار اللغوي المفارق الذي يدور ما بين قاضي الجلسة والمتهمين. فلا ذرة تفاهم تنتصب في ما بينهما وحبل الحوار البناء منقطع تماماً ويبدو مهزوزاً. فعن أسئلة القاضي تبدو إجابات الموسيقيين عبارة عن انعكاسات لممارسات شبابية بريئة. نموذج الجمجمة الإنسانية التي يعرضها القاضي ليس سوى مادة من البلاستيك، والرسوم على «التي شيرت» وعلى الجدران ليست غير خربشات للتندر والتفكه أكثر من أي شيء آخر. الموسيقيون الشباب بشعورهم الطويلة المسترسلة والخواتم الفضية الغليظة في الأصابع هم أبناء عوائل ميسورة وأخرى متواضعة تربط بينهم الموسيقى لا غير. وهنا يبين المخرج أن الموسيقى لا تضر أحداً، وأنها قد تغالط المجتمع في شكل بريء عندما تجعل الجماهير تحضر عروضها الكبيرة، وعندما تهيج عواطف هذه الجماهير (ولنتذكر هنا موقف الطبقات المحافظة في بريطانيا وأميركا خلال حقبتي الخمسينات والستينات لمّا ظهرت موجة الخنافس وشياطين الروك والبوب مثل فرق البيتلز والرولينغ ستون، والمطرب توني موريسون...). فالموسيقى هي ذلك الترمومتر الذي يكشف ما يمور داخل مجتمع ما. الارتعاد الحرج فكما يظهر الشريط، مجرد شائعات عن حصول خروج بسيط عن السائد في المجتمع خلخل أشياء وتواضعات هامة داخل المجتمع. وقد بدأ الأمر بتدخلات بوليسية في منازل الموسيقيين، أعقبتها استنطاقات عنيفة، ومحاولات تخويف وضرب. الشيء الذي جعل المجتمع المدني يتعبأ، وهو المتمثل في الآباء ووسائل الإعلام والمجتمع «المضاد والمحافظ» الممثل في شخص المحامي الملتحي. لينتهي الأمر بتدخل وزير العدل. المخرج يقطر هذه الأحداث تباعاً من خلال مشاهد طويلة نسبياً كي يمنح المشاهد الوقت الكافي حتى يتحقق من الارتعاش الحرج الذي أصاب المجتمع جراء القضية. وللتدليل على ذلك نورد المشهد الذي يظهر كيف أن الآباء والأولياء فوجئوا وأصيبوا بالدهشة، فقد كانوا يجهلون الأمر برمته، وغير مهتمين بما كان يمارسه أبناؤهم معتبرين أن الأمر يتعلق بالموسيقى لا غير من أجل التسلية وممارسة الحياة البهيجة، ما جعل كل أب وولي يضطرب على طريقته الخاصة بعد أن تبين لهم أنها، أي الموسيقى، قد تخلخل العادات والقناعات العامة. ولم يتوخ أحمد بولان التحفظ عندما وظف الحوارات والردود الكلامية الأكثر إيحاء ومباشرة. وقد استمدها مباشرة من «الريبرتوار» الشفوي الموجود أو اختلقها اختلاقاً. فأحد المتهمين صرح علانية بأن «لا شيء تغير في هذه البلاد»! وآخر صرخ في وجه أبيه بضرورة أن يوافقه على ما فعل وان يكون متفهما حتى يبدو متوافقاً مع خطابه السابق عن سنوات الرصاص وسنوات «الهيبيزم» السبعينية التي عاشاها متمرداً ويحكي عنها. حوارات وجدالات وكثافة كلمات وأفكار. ونورد هنا مثالاً ثانياً مهماً من آخر الشريط، ويتعلق بمنظر أحد الشباب وهو موسيقي نشأ في فرنسا وعاد الى الوطن ليعيش فيه رفقة جدته، لكن بعد المحاكمة سيصاب بخيبة حقيقية وبالحزن ويستقل الطائرة ويعود إلى أوروبا. يأخذ الشريط على عاتقه أن يعكس النقاشات والجدال اللذين تبعا القضية في زمنها تلك السنة. وهي سنة متميزة بما عرفته من أحداث أبرزها تفجيرات الدار البيضاء في شهر أيار (مايو) 2003، بالإضافة إلى الصراعات الحزبية، والانفتاح الإعلامي المشهود، وتأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة لتعويض ضحايا الاعتقالات التعسفية... وكل هذه الإصلاحات التي شرعت الدولة في إحداثها، ما خلق جواً من الحوار الفكري الواسع والإيجابي. فشريط «ملائكة الشيطان» يظهر جزءاً من ذلك الحوار الخاص بالتعامل مع مستجد حداثي، في بحر الحديث عن الإصلاح. ويفعل بطريقته الخاصة، بإعادة صوغ الأحداث في قالب سينمائي، مع ما يتوجب من الدفاع عن قيم الحداثة من دون تخفي أو مكر، و بنقل ما حدث وما قيل حول عبدة الشيطان. قد يضيّع الفيلم أحياناً الشكل الروائي السينمائي في خضم الوقائع المسرودة لكن الإدارة المحترفة للممثلين المحترفين بدورهم (إدريس الروخ، رفيق بوبكر، يونس ميكري...) تمنح الفيلم قوة إقناع و شهادة. و التأثير العاطفي المرجو يتحقق. فقد استغل أحمد بولان الفرصة لكي يستخلص من خياله المشاهد واللقطات التي تسكنه ليجسدها عي الشاشة الكبرى. فهو يتكلم هذه المرة عبر فن السينما، هو الذي عودنا على التصريح علانية بكل ما يعتقده في حواراته و تدخلاته. نعم يمكن القول إنه ليس سهلًا بفيلم جدي جداً بعد النجاح في إخراج فيلم سابق كان له طابع شخصي وحميمي (وكان نجاحاً على المستوى الشخصي أيضاً). ونظن أن الموسيقى لعبت دوراً كبيراً في ذلك، وتشكل لوحدها، بالطريقة التي صورت بها، منقذاً لفيلم يحمل عنواناً كبير الدلالة والمعنى والرمز. كل شيء قيل إذاً، وعلى المتفرج أن يفكك. الحياة اللندنية في 6 أبريل 2007
|