سينما سورية جديدة (1) الجُودان.. كوراني وسعيد بقلم: بشار إبراهيم |
صفحات خاصة
|
من الطريف في بلد ما، أن يحمل مخرجان سينمائيان الاسم نفسه، لتنشأ ظاهرة باسمهما، حتى لو كانا يعملان دونما أيّ تعاون بينهما!.. هكذا تتداول الأوساط السينمائية، في مصر، ظاهرة (التامرين): تامر السعيد، وتامر عزت. في سورية، بدأت منذ عامين، تنشأ ظاهرة سينمائية جديدة، يمكن تسميتها (الجُودان): جود كوراني، وجود سعيد. والطريف أنهما سينمائية وسينمائي، بالاسم نفسه. فهي؛ السينمائية: جود كوراني، خرّيجة قسم التصوير السينمائي، بمعهد فيمي للسينما، في فرنسا 2005. وشاركت مديرة تصوير عدة أفلام، بموازاة تحقيق فيلمها (قبل الاختفاء)، التسجيلي الوثائقي القصير، مشروع تخرُّجها، من إنتاج: معهد فيمي للسينما في باريس، عام 2005. وهو السينمائي: جود سعيد، خرّيج قسم فنون المسرح والصورة والشاشة في جامعة ليون الثانية في فرنسا 2005، وقدَّم فيلم تخرّجه بعنوان (بضعة من أيام أُخر)، عام 2004. وما بين الجُودين: (كوراني وسعيد)، ثمَّة مشتركات، تبدأ من الاسم نفسه، ودراسة السينما في فرنسا، وأنهما ينتميان إلى جيل الشباب، ولا تنتهي عند الهموم المشتركة، في التمكُّن من تحقيق سينما سورية جديدة، شكلاً ومضموناً. جود كوراني: (قبل الاختفاء) جود كوراني، هي أول مديرة تصوير سينمائية في سورية، إذ لم نتمكَّن حتى اللحظة، من التحقُّق من وجود مديرة تصوير سينمائية قبلها، وقد كُرِّمت على هذا الأساس، بمبادرة من طرفنا، في (تظاهرة الوردة للسينما العربية المستقلة بدمشق)، عام 2006، وهي مع ذلك قدَّمت نفسها، منذ البداية، مُخرجةً لفيلمها مشروع تخرجها. شخصياً، لا أدري فعلاً، لماذا لم تستعن مديرة التصوير جود كوراني بمخرج، وهي تحقِّق فيلم تخرُّجها، وبالتالي تحمَّلت هي بنفسها عبء تصويره وإخراجه، وربما لرغبتها بأن تقدِّم فيلمها، ضمن رؤاها وتصوُّرها، وكما أرادته. يبدو فيلم (قبل اختفاء)، في قراءة أولى، على هيئة رحلة (ترافلينغ)تتابع نهر بردى من المنبع إلى المصبّ، وربما على هذا الأساس وضعت المخرجة عنوانين فرعيين، عند بداية فيلمها وخاتمته. الرحلة التي يقطعها الفيلم فيما بين المنبع والمصب، والتي لا تتجاوز مدة 13 دقيقة (وهذا الرقم نذير شؤم عند البعض، والفرنسيون منهم، على الأقل)، تكشف المآل المفجع الذي يمضي إليه بردى، حتى يكاد الفيلم يكون في مستوى أوَّل من قراءته، بيان نعي للنهر، ومرثية للناس الدمشقيين، الذي عاشوا على ضفتيه، بحكاياتهم، وأفراحهم، وأحزانهم، بقعداتهم الأنيسة، وسيراناتهم اللطيفة.. قبل أن يتحوَّل النهر إلى مكان نفورهم، وتكميم أنوفهم آن يمرَّون بمحاذاته!.. وفي حين تبدو، الرحلة الأفقية، أو الجغرافية، ما بين نقطتي المنبع والمصب، منظورة ومرئية، فإن الرحلة غير المنظورة، التي تجري في التاريخ والوجدان، والتي تتوارى في الفيلم، هي تلك الرحلة التي تذهب في عمق تاريخ آلاف السنوات، منذ أن كان النهر دافقاً، صافياً، رقراقاً، فأمعن البشر به إذلالاً، حتى بات خانعاً مُعتكراً، لا يعدو أن يكون ساقية صرف صحي، تنزُّ روائحها الكريهة. وإذ يستدعي عنوان فيلم (قبل الاختفاء)لجود كوراني، فيلماً آخر بعنوان (سجل اختفاء)للمخرج الفلسطيني إيليا سليمان، أنجزه عام 1996، وهو فيلم روائي طويل، يكشف فيه عن تخوُّفه الشديد من (اختفاء فلسطين)، فإن فيلم كوراني أيضاً، بقراءة أكثر تمعُّناً، سنجد أنه لا يعدو أن يكون صرخة هلعة من المآل الذي ينتظر دمشق ذاتها، فيُهدِّد (روح المدينة)، على حدِّ تعبير كوراني. (بردى هو روح دمشق).. ذاك أمر لا مراء فيه.. ويمكن القول إن (دمشق هي هبة بردى).. فماذا إذا مات، أو جفّ، أو تحوَّل إلى مجرور؟.. ذاك هو السؤال المُوجع، الذي ينساب مع آخر قطرات النهر، التي تتدحرج متهالكة، فلا تكاد تصل إلى حافة المدينة، وتترك النهر عارياً من قميصه النديّ، يعلوه السواد، ويمزِّقه التشقُّق.. وذاك هو السؤال المُوجع، الذي يفيض من لقطات الفيلم ومشاهده.
على صعيد
البنية المضمونية والفنية التي اختارتها
المخرجة، يمكننا الانتباه إلى أنه، بغضّ النظر عن مقدار التأثر أو
الاستعارة مما
فعله المخرج عمر أميرلاي في فيلمه (الطوفان)، خاصة لناحية الاستعانة
بتلميذة تعتمر
(البيريه)
الطلائعية، وتهيئ الصفَّ لتلقّي الدرس، صارخة: (استاعد)، ومن ثم مُرحبة
بالتحية
العسكرية.. فإن الفيلم يُوهم، بافتراضٍ أوَّل، أنه يريد البناء على التناقض
فيما بين الترداد الببغائي لمنجزات التعليم التلقيني، الشهير لدينا، عبر
أقوال من
طراز: (يعطينا الجمال).. (مياهه عذبة، صافية، صالحة للشرب)، والادِّعاء بأن
نهر
بردى، يعطي المكان الذي يجري فيه (الظلّ والندى، والنغم والصدى)، من جهة
أولى، وما
يقدِّمه الواقع من تفاصيل مناقضة، من جهة ثانية. قد يبدو، بافتراضٍ ثانٍ، أن الربط بين المنبع والمصب، هو الأساس في الفيلم، بحضورهما كعنوانين فرعيين، ولكن الفيلم لم يبدأ من (نبع بردى)، ولم ينظر فيما أصاب هذا النبع من استنزاف قاتل، كان بداية المآل المأسوي للنهر. يبقى أن فيلم (قبل الاختفاء)، هو عملياً حالة من التأمل في واقع النهر، مع قدر من التلصُّص عليه، وعلى الناس، الأمر الذي يمنح الفيلم صفة البنية المفتوحة، التي يمكن أن تضيف إليها، أو تحذف منها، دون أن يختل إيقاع الفيلم، أو يشوِّش مقولته. وفي هذا المقام يغدو من نافل القول الحديث عن لقطات زائدة، مثل لقطة تجمهر الأطفال التلاميذ أمام الكاميرا، إذا كان الهدف الذهاب نحو التناقض، أو لقطة الولد الذي يغنِّي غناء شعبياً (على دلعونة)، حتى لو كان المقصود من هذه اللقطة نبع بردى ذاته. فحينها، ما مبرر القفز مباشرة إلى لقطة عامة، غائمة وقاتمة، لمدينة دمشق؟ تستغني المخرجة عن التعليق تماماً، كما تستغني عن الحوارات، أو اللقاءات، أو الشهادات، كما تستغني عن الاستعانة بأيِّ صور أرشيفية للنهر ممَّا مضى. ففي الوقت الذي يمكن الحديث عن رحلة النهر بين المنبع والمصب، تبدو الرحلة الأكثر قسوة للنهر، هي رحلته ما بين الماضي والحاضر.. وهو ما كان فعله المخرج عمار البيك، من قبل، في فيلمه (نهر الذهب)، عن بردى نفسه. على صعيد المؤثرات الصوتية، وبملاحظة حضور الأذان كخلفية مرتين، يعتمد الفيلم على الصوت الطبيعي، أو ما يفيض به المكان، كما في مشاهد النادي الليلي، حيث ثمة غناء فولكلوري، ليس من تراث مدينة دمشق نفسه، وأخشى أن تكون إضافة هذه المشاهد إرضاء لنزعة (إكزوتيكية)، أكثر ما هي دلالة التعبير عن حضور غير دمشقي في دمشق، كان من نتائجه استنزاف بردى إلى درجة موت النهر، فمما لا شك فيه أن هجرة الأرياف إلى دمشق حمَّلتها أضعاف ما يمكن أن تحتمل، الأمر الذي أثقل كاهليها، وأتعب نهرها. لا نعتقد أننا نغالي إذا قلنا إن فيلم (قبل الاختفاء)، هو فعلاً فيلم مديرة تصوير بارعة، تبشِّر بالخير للسينما السورية الجديدة.
النور السورية في 14 فبراير 2007
سينما سورية جديدة (2) جود سعيد: (بضعة من أيام أُخر) بقلم: بشار إبراهيم مُطاردون في التاريخ، مغمورون في الجغرافيا ارتباك أمام الكاميرا، وثقة خلفها المخرج السينمائي السوري الشاب جود سعيد، أصغر المخرجين السينمائيين السوريين سناً، فهو مولود بدمشق عام 1980، وهو خرّيج قسم فنون المسرح والصورة السينمائية والشاشة، من جامعة ليون الثانية (لويس لوميير)، في فرنسا 2005، وقدَّم فيلم تخرّجه بعنوان (بضعة من أيام أُخر)، عام 2005، وهو فيلم وثائقي قصير (مدته 20 دقيقة). وعمل بعد ذلك في فيلم (وجهك أرض قصيّة)، بإخراج مشترك مع لوران شال 2006، وهو فيلم وثائقي طويل (مدته 80 دقيقة)، ننتظر أن يصل إلى جهوزية العرض، حالما تتهيأ الظروف المناسبة. ربما تبدو هذه المقدمة قصيرة جداً، بل ضيقة أكثر، على ما نعرف، خاصة بالنسبة لسينمائي شاب، لديه من الرؤى والطموحات الكثير، دفعته لترك دراسة الهندسة الكهربائية في جامعة دمشق، والذهاب لدراسة السينما في فرنسا، ومن ثم العودة ثانية إليها، لاستكمال دراسة عليا (ماستر كلاس)، في الإخراج السينمائي عام 2006، ويتهيأ الآن لدراسة موازية لها في مجال الدراسات السينمائية النظرية. فيلم واحد، قد لا يكون كافياً للإطلالة على العالم السينمائي الذي يتوق جود سعيد لبنائه، ولا على الإضافة التي يتوخَّاها، أو لعله يتمنَّاها. وقد مرّت قبله على شاشة السينما السورية أجيال من المخرجين السوريين، ممن تفاوتوا في رسم بصماتهم على فضتها، حتى ذهب البعض إلى قول إن هؤلاء الأسلاف لم يتركوا لمن بعدهم، من أخلاف، حيِّزاً أو مكاناً، أو فسحة للقول. وبدت الساحة السينمائية السورية، منذ أكثر من ثلاثين عاماً، محجوزة للجيل الذي نهض أواخر الستينيات، وبحر السبعينيات، والثمانينيات، من القرن العشرين. في المُعلن من التفاصيل، لا يتكئ المخرج السينمائي جود سعيد، إلا على شهادة أكاديمية عليا من فرنسا، وعلى فيلم تسجيلي وثائقي قصير واحد (مدته 20 دقيقة)، لا يعدو أن يكون فيلم تخرُّجه، هو الفيلم الذي صنعه لصالح معهده، وبالتعاون مع جماعة للتنقيب الأثري. ومع ذلك، فالفيلم حاضر في غالبية العروض السينمائية، الثقافية، في دمشق، منذ قرابة السنتين، كان منها (تظاهرة الوردة للسينما العربية المستقلة) عند منتصف عام 2006، و(مهرجان شبابلك الثقافي الأول) قبيل نهاية العام 2006، وتظاهرة (أسبوعا الفيلم العربي الفرنسي في دمشق) عند مطلع العام 2007. في حين أن المخرج، حاضرٌ في العديد من الندوات والجلسات، التي غالباً ما يدور الحديث فيها عن السينما السورية، سواء من ناحية سينما الشباب، واقعها وطموحها، أو المشكلات التي تواجه الإنتاج السينمائي (العام، والخاص، والمستقل) في سورية. ولكن فيما هو غير معلن، أو قيد الإعلان، فإن المخرج جود سعيد يتحضَّر حالياً للدخول مخرجاً لفيلمه الروائي القصير بعنوان (إليز)، لصالح المؤسسة العامة للسينما. وأيضاً بالتعاون مع مديرة التصوير جود كوراني، في تعاون فني أول بينهما، ومع مجموعة من الممثلين غير المحترفين، كخيار فني. على الرغم من التأخُّر مدة تقارب سنة ونصفاً، بسبب إشكاليات تتعلُّق بمعادلة شهادتيهما العلمية، معاً وعلى السواء، هو في الإخراج وهي في التصوير. بالعودة إلى فيلم (بضعة من أيام أُخر)، يبدو واضحاً أن المخرج لم يستنفد كل خبراته المتكوِّنة راهناً، نتيجة الدراسة الأكاديمية، ولم يوظِّفها تماماً، وإن بدا الفيلم على شيء من الغنى البصري ودلالاته، وعلى قدر من الحرفية المهنية ومهاراتها، بدت أولاً: على مستوى التصوير (رغم أنه لم يستخدم أجهزة إضاءة مناسبة تماماً). وثانياً: على مستوى المونتاج. وثالثاً: على مستوى الارتقاء بموضوع الفيلم، من مجرد رصد ومتابعة مجموعة التنقيب الأثرية العاملة في المكان، أو من مجرد رصد قرية مُهدَّدة بالغمر، إلى مزاوجة فريدة بين التنقيب الأثري والمطاردة في التاريخ، من جهة أولى، والتجاهل والإهمال في الجغرافيا، بمعنى الحاضر أو الراهن، من جهة ثانية. مرة أخرى، نجد فيلماً لسينمائي سوري شاب، ينبني على المفارقة والتناقض بين مجموعتين بشرتين، وحالتين مرصودتين، فيما بين القول والرؤية. والطريف في الأمر أن هذا التناقض لا يبدو مُفتعلاً، ولا باذخاً في مباشرته. بل إنه يتوارى خلف تلجلج الحاضر، وثقل لسانه، وارتباكاته، وقلّة حيلة بلاغته، من جهة أولى، ووراء فصاحة الماضي المتكئ على آلاف من السنوات، تعود إلى الألف التاسع قبل الميلاد، من جهة ثانية. في قرية (تل عبر)، الواقعة على ضفاف نهر الفرات، بالقرب من سدّ تشرين، تدور كاميرا فيلم (بضعة من أيام أُخر)، المُرافقة لبعثة التنقيب الأثري فيها، فتكتشف (ربما مصادفة) أن هذه القرية التي تتكاثف الجهود لالتقاط تاريخها، والعثور على آثارها، والكشف عن إنسانها القديم، إنما هي قرية متروكة الآن للإهمال والنسيان، فلا عناية بالصحة، ولا بالتعليم، ولا بالمواصلات، ولا حتى بالإنسان.. فتحاول القرية وناسها استمداد القوة لحضورها الراهن، من تاريخها الغابر. مزاوجة ذكية بين المستويين، وتداخل مونتاجي ماهر، وتفاصيل دقيقة ترسم الصورة، وتتركها مُعلَّقة، تُطلق سؤالها: (هنا لا مدرسة الآن، ولكن الكتابة ذاتها بدأت هنا قبل آلاف السنوات)؟.. دون أن ننسى الضحكات، التي كرَّرها المخرج، منذ بداية الفيلم، لأكثر من مرة. وبعض النظرات، والعبارات، واللقطات، ذات الدلالة، التي تكمن وراءها مُضمرات خطاب الفيلم، على المستوى الانتقادي، كما على الصعيد التوثيقي. سنسجِّل للمخرج جود سعيد، أنه على الرغم من تناوله موضوعاً مطروقاً، على الأقل من طرف المخرج عمر أميرلاي في (الطوفان) 2003، والمخرج محمد الرومي في (أزرق رمادي) 2005، نقصد موضوع الغمر والمغمورين، إلا أنه تمكَّن من النأي بفيلمه عمَّن سبقه، وبنى له رؤية خاصة، لا تتأثَّر بنقد أميرلاي السياسي، ولا بشاعرية الرومي الساحرة. كما أن الفيلم بدا، في لحظات، شيئاً من رصد (وقائع يومية في حياة قرية سورية)، بما يذكِّر، ولو من بعيد، بما كان قد فعله الثلاثي (عمر أميرلاي، وسعد الله ونوس، وقيس الزبيدي)، عام 1974، ولكن هذه المرّة بالنفاذ نحو عمق التاريخ الكامن تحت التراب، والذي يرسل لنا إشارات عنه، تتفارق مع ما يدور فوق التراب من حياة وبشر. هنا، في (بضعة من أيام أخر)، ثمَّة فيلم حياتي، حيوي، نابض، غزير، غني الدلالة، مُتعدِّد الذرا، وإن شابته بعض الشوائب، التي لا تنمُّ إلا عن التهاون في التعامل مع أحد مستويات الفيلم، كأن يترك المخرج لشخصياته فرصة أن تبدو بلهاء، تُكرِّر كلامها، وتلوب بحثاً عن جديد في الكلام، فلا تجد!.. خاصة مع اعتماد المخرج على لقطات طويلة نسبياً معها. بصراحة، لا أرى أن ما بدا في الفيلم، في هذا الجانب، عيباً في الشخصيات، بل لدى المخرج ذاته، أو عيباً في الإعداد، على الأقل. وأعتقد أن الواجب يُملي، في كل حين، أن لا نجعل من الشخصيات أضحوكة، أو مثاراًَ للتندُّر، أبداً، خاصة إذا كان الموضوع أبعد ما يكون عن ذلك. فالشخصيات، من أبناء القرية، كما ظهرت في الفيلم، إنما هي شخصيات تستحق الرثاء، والتضامن، بل والنجدة، كما تستحق الاحترام والتقدير، إن لم يكن من أجل كفاحها للبقاء والاستمرار والوجود، وإن لم يكن من أجل ما تختزنه من طموحات وأحلام، كتلك الفتاة التي تحلم بدراسة الطب، فعلى الأقل لأنها منحت الفيلم مادته الغنية، ومبرر وجوده. النور السورية في 21 فبراير 2007
سينما سورية جديدة (3) عبير إسبر.. غواية الأدب والسينما بقلم: بشار إبراهيم في المسافة ما بين الأدب والسينما، ربما تتلخَّص رحلة الروائية والسينمائية السورية الشابة عبير إسبر، ولكن من المؤكَّد أنها قد أُصيبتْ بلوثتي الأدب والفن، إصابةً غير طارئة، ولا عابرة. فهي على الرغم من تجربتها القصيرة، باعتبارها روائية شابة، من جهة أولى، وسينمائية شابة، من جهة ثانية، استطاعت أن تحظى بلفتة إعجاب، على الأقل لاجتهادها، وإصرارها، ودأبها. عبير إسبر، الروائية الشابة التي نالت روايتها (لولو)، جائزة حنا مينه الأولى للرواية في سورية، عام 2004، لم يبدُ أن الكلمة المكتوبة كانت كافية لديها للتعبير عمَّا تريد، فسرعان ما تحوَّلت إلى الصورة، وانشغلت بتكوين ذاتها على هذا الصعيد. من التصوير والمونتاج إلى الإخراج، وهذا ما بذلت في سياقه سنوات عدّة، وجهوداً، وأموالاً، لعلها تصل إلى الدرجة التي تراها لائقة بها، أو مؤسِّسة لما تطمح إليه. هذه الروائية الواعدة، كما تُوحي لنا الجائزة الأولى التي نالتها، عملت جهدها للتحوُِّل إلى سينمائية، بدءاً من الانخراط في ورشة (دورة الإعداد السينمائي) عام 2001، التي أشرف عليها د. محمد قارصلي، بالتعاون مع (الدائرة الإسبانية للتعاون مع الدول العربية). ومن ثم الذهاب للدراسة في فرنسا، حيث انتسبت في العام 2002، إلى معهد إيزرا (المدرسة العليا للفنون السمعية البصرية)، من أجل دراسة الإخراج السينمائي، دون أن تستكمل تلك الدراسة لأسباب عملية!.. عبير إسبر اكتشفت في ذلك الحين أنها أمام مهمة هدر سنوات فائضة، في سبيل ما خبرته في الواقع العملي، فقد عملت مخرجة مساعدة، ومخرجة منفذة، وعاملة سكريبت، في عدد من الأفلام السينمائية، والأعمال التلفزيونية، كالعمل مع هيثم حقي في مسلسله (ردم الأساطير) 2002، ومع يسري نصر الله في فيلمه (باب الشمس) 2003، ومع سمير ذكرى في فيلمه (علاقات عامة) 2005، ومع ريمون بطرس في فيلمه (حسيبة) 2005. وقد أكسبها ذلك خبرة عملية، على طريق بلورتها كمخرجة. ومن الطريف أن عبير إسبر، التي اعتنت بالمساهمة في كتابة القصة، وإعداد الفكرة، وكتابة السيناريو، لعدد من الأفلام التسجيلية والروائية القصيرة، واهتمت بالتمكُّن من التصوير والمونتاج والإنتاج والإخراج، انخرطت مؤخراً في ورشة سينمائية جديدة، أشرفت عليها القنصلية البريطانية، عبر المركز الثقافي البريطاني بدمشق، وأُقيمت في المعهد العالي للفنون المسرحية، وبإشراف الأستاذ كيشور فيرما، لمدة خمسة أيام، بما يدلِّل على استعدادها لالتقاط كل فرصة ممكنة لتطوير إمكاناتها، وبلورة موهبتها. فيلم عبير إسبر الأول، الذي حمل عنوان (عبق مغادر)، وصل إلينا باعتباره من نتاجات ورشة (دورة الإعداد السينمائي). وهو فيلم تسجيلي وثائقي قصير (مدته 6 دقائق)، يدور في سوق البزورية الشهير بدمشق، هذا السوق التاريخي والأثير لدى السوريين والعرب والأجانب على السواء، لخصوصيته، ورونقه، وطبيعة الحاجة إليه، ليس باعتباره (سوق العطَّارين) فقط، بل لأنه مع هذا وذاك، هو المكان المُحمَّل بعبق التاريخ العريق. يبدأ الفيلم بمجموعة من المشاهد الليلية لأحياء دمشق، ومن ثم لتفاصيل من البضائع المأثورة عن هذا السوق، ومن ثم لوحة جدارية صغيرة، تُعرِّف بالسوق عبر جمل محدودة ومقتضبة، قبل أن ننتقل إلى حديث شاب يعمل في أحد محلات السوق، سنعرف أن هذا الشاب ورث العمل عن أهله، وترك مدرسته للعمل في مهنة الآباء والأجداد، كما نتعرّف إلى رؤيته عن السوق، وأهميته التجارية، وعن عالم العطارة، ما بين العلم والسحر والخرافة. لا تتبيَّن العلاقة واضحة بين عنوان الفيلم ومضمونه، فليس ثمة إشارة إلى الخوف على هذا السوق من الاندثار (أو المغادرة)، بل إن حديث ضيف الفيلم الوحيد يمنح الإحساس بالثقة برسوخ مكانة هذا السوق، وتواصل العمل فيه عبر الأجيال. كما أن السوق يبدو في كثير من مشاهد الفيلم مزدحماً برواده، من كبار وصغار، ورجال ونساء، غير مُهدَّد بما يُقلق. الفيلم لا يتخلَّى عن طابعه (الريبورتاجي) العام، وإن بدا أنه ينطلق من افتراض أن المشاهدين يعرفون الكفاية عن هذا السوق، فاكتفى بمعلومات اللوحة الجدارية، التي علقتها محافظة دمشق على أحد جدران السوق. ليس ثمة قراءة لتاريخ السوق، ولا ارتباطه بجواره، ولا حتى الاقتراب من أبرز معالمه الأثرية، والشواهد التاريخية الدالّة على عراقته.. كلُّ ما جرى أن الفيلم تحدَّث عن السوق، على لسان الضيف اليتيم فيه، فيما كانت الكاميرا تدور في المكان، دون سيناريو أو إعداد محكم. في تلك الفترة ذاتها (عام 2003)، عملت عبير إسبر مخرجة منفِّذة، ومصوِّرة، لفيلم عنوانه (خصب)، عن فكرة لها، وهو فيلم تسجيلي متوسط (مدته 40 دقيقة)، مُنتج لصالح التلفزيوني البريطاني. لم نتمكَّن من رؤيته، لعدم توفُّر نسخ منه. بعد ذلك، وفي العام 2003، عملت عبير إسبر، كاتبة للقصة، ومساهمة في الإنتاج، ومساعدة للمخرج، في فيلم (نور) من إخراج سامر برقاوي. وهو فيلم روائي قصير (مدته 7 دقائق)، عن حبيبين يحاولان سرقة لحظة فرح، فتُسرق منهما!.. وسنتوقف أمام هذا الفيلم بالتفصيل، عندما نتحدث عن المخرج سامر برقاوي، في حلقة قادمة. فيلم (تك.. تك)، الذي تولّت عبير إسبر كتابة السيناريو، والإنتاج، والإخراج، عام 2006، هو فيلم روائي قصير (مدته 12 دقيقة)، وهو يبدو منذ الوهلة الأولى حالة النضج الأعلى، التي حقَّقتها المخرجة، حتى الآن، إذ يبدو أنه الفيلم الأكثر تماسكاً، على الرغم من الهنات التي لم يتخلَّ الفيلم عنها تماماً.
في
فيلم (تك.. تك)، ثمة شاب يتهيأ للقاء موعود مع حبيبته، ولكنه يتعرض لغزو
العديد من
المزعجين، بدءاً من جارته المغوية، وشقيقه العابث، وجاره الفضولي، وصولاً
إلى أولاد
الحارة، ممن يلعبون الكرة، ويكسرون زجاج نافذته.. ولكن لحظة الانكسار
الحقيقية التي
يقع فيها الشاب (المُنتظِر)، تحصل دون وضوح أو إقناع تامين، لدى مشاهدته
حبيبته من
النافذة!.. فينكفئ الشاب، وحيداً في غرفته، في عزلة اختارها بكل الكآبة،
ويترك
حبيبته تكرر طرقاتها على الباب.. ربما حتى اليوم.. المشكل الأساس، عند عبير إسبر، كما يبدو لنا، هو مفهومها عن الفيلم القصير، سواء أكان تسجيلياً وثائقياً، أم روائياً قصيراً. خاصة مع تكرُّر هذه الملاحظة فيما شاهدناه من أفلام أخرجتها، أو كتبت القصة لها. وربما يمكن إعادة ذلك إلى مفهوم القصة القصيرة لديها، (مع ملاحظة أنها روائية، أصلاً)!.. وما نعنيه بالضبط هنا، هو موضوع البنية المكثفة، التي ينبغي أن تتوفَّر للفيلم أو القصة القصيرة، بحيث لا تقبل زيادة، ولا تحتمل نقصاناً. وهذا المقياس لا ينطبق على الأفلام التي اشتغلت بها، أو عليها، حتى يمكن القول إن فيلم (تك.. تك)، مثلاً، يمكن أن يكون فيلماً روائياً طويلاً مضغوطاً في اثنتي عشرة دقيقة، إذا تذكّرنا (كومبارس) نبيل المالح!.. النور السورية في 28 فبراير 2007
سينما سورية جديدة (4) قصي خولي.. يعمل في التلفزيون، وعينه على السينما بقلم: بشار إبراهيم مع قصي خولي، يمكنك فوراً الشعور بالألفة المحببة، وتبدو كأنك تعرفه شخصياً منذ سنوات، فهذا الفنان الشاب الأنيق، يتسرَّب إلى الروح كما نسمة رقيقة، بكل ما فيه من لطافة الحضور، وكلمة (يا غالي)، التي يكاد لا يكفّ عن تكرارها. يستطيع قصي أن يدهشك بلياقته، بثقافته، بأحلامه، ومشاريعه، وطموحاته.. بصراحته، واعترافاته.. وبنبرة الحزن العالية، وهو يتحدث عن تجربة والده (عميد خولي)، أحد أعمدة الصحافة السورية الرسمية، طوال أكثر من ربع قرن مضى. حقق قصي خولي فيلمه الأول، تأليفاً وإخراجاً وإنتاجاً، عام 2005، بعنوان (سيناريو)، وهو فيلم روائي قصير (مدته 30 دقيقة). والفيلم ينتمي إلى ما نسميه السينما السورية الجديدة، أو (السينما المستقلة في سورية)، شكلاً ومضموناً، وكانت له، على الأقل، مشاركة في بينالي السينما العربية في باريس 2006. يقدم الفيلم صورة مؤسية لحالة العزلة والاغتراب التي يعيشها الشباب، من خلال الرحلة الأخيرة لكاتب سيناريو ناجح، يعيش القطيعة مع العالم، على الرغم من كل النجاح الذي يبدو أنه حققه!.. ربما تبدو الطفولة ببراءتها الباهية، والفتاة الجميلة بعذريتها الطافحة، آخر الخيوط التي كان يمكن أن تشدَّه إلى الحياة، ولكن الموت العبثي، إثر حادث غبي، يأتيه في لحظة فاجعة. رحلة إلى الموت، يقطعها بطل الفيلم، الذي لن نعرف اسمه، على الرغم من أن فيروز ستغني في بداية الفيلم ونهايته، أغنيتها الشهيرة (أسامينا).. إنه من طراز (خرج ولم يعد)، دون أن نعرف الأسباب أو المبررات، ليصبح الفيلم نموذج حالة، لا تكلف نفسها عناء تقديم منطقها السردي، إلا عبر القليل جداً من الكلام، ومن خلال النظرات والتعبيرات والإيماءات. الكلّ في الفيلم ينادون بطلنا الصامت، أو يخاطبونه، بلقب (الأستاذ)، باستثناء الطفلين اللذين يناديانه (عمو)، و(خالو).. وطبعاً فإنه بحضور الصفات، وغياب الاسم، ثمة ما يضمره الفيلم في خطابه، على الرغم من الإشارات التي كان من الممكن أن تحمل دلالات محددة، كأن يكون بطل الفيلم كاتب سيناريو، أو لا يكون، ففي الحالتين لن يغيِّر هذا من الأمر شيئاً. إنها مأساة مثقف، كما هي مأساة شاب يبدو أنه يدخل الأربعين، وحيداً أعزل. *** يقول الفنان قصي خولي: على الرغم من أن فيلم (سيناريو) يحمل توقيعي، إلا أنه في النهاية جاء نتيجة تعاون مجموعة من الأصدقاء والعاملين الفنيين، ممن شاركوني همّ إيجاد سينما خاصة، أو سينما سورية مستقلة، بعيداً عن المؤسسات الحكومية.. أعتقد أن إمكانية خلق سينما سورية خاصة، أو مستقلة، ممكنة، ومتوفرة، وسيكون هذا على عاتق الشباب.. وفي هذا السياق، علينا الانتباه إلى أن الدراما السورية في نجاحها، إنما قامت على جهود الشباب، فقد كان الأساس فيها الدم الجديد وروح الشباب. ونحن الشباب لدينا أفكارنا ومبادئنا التي نريد أن ندافع عنها، وأن نظهرها للعالم، ولقد رأينا عبر تجربة فيلم (سيناريو) أننا يمكن أن نفعل ذلك من خلال تحقيق أفلام سينمائية تحمل هذه الأفكار، وهذه الهموم. وقصي بهذه الكلمات يكشف عن عدة أمور دفعة واحدة، ربما يكون أبرزها أنه على الرغم من النجاحات التي حققها في الأعمال الدرامية التلفزيونية، إلا أن عينيه تنظران بلهفة إلى العمل في السينما، ليس ممثلاً فقط، وهذا ما تحقَّق له حتى الآن عبر فيلم (العشاق) مع المخرج حاتم علي، وفيلم (سبع دقائق إلى منتصف الليل) مع المخرج وليد حريب، بل كذلك مخرجاً، الأمر الذي حققه في (سيناريو)، وهو يطمح إلى تحقيق المزيد من الأفلام. وإذ أسأل قصي خولي، قائلاً: يلفت نظري، أنك شاب في مقتبل العمر (مواليد 1976)؛ ناجح، ومتحقق كحالة فنية، فلماذا فكرت بهذه الطريقة القاسية التي ظهرت في فيلم (سيناريو)؟.. فإنه يجيب: أردت أن أقول إننا كشعب عربي عموماً، نعاني القهر، والتعب، والمشاكل المستعصية.. نحن ممنوعون من الحرية اللائقة، ومن القدرة على التعبير بجرأة.. أتألم عندما أرى جيلاً من الشباب لا يستطيع تحقيق أحلامه.. وأتألم عندما أرى هدر الإمكانات المتوفرة.. عندما أنظر إلى والدي (عميد خولي)، الذي ساهم في بناء الصحافة السورية، والذي رهن حياته لخدمة البلد، من خلال العمل الصحفي، وحال النكران الذي يلاقيها الآن. أسأله: ولكنك اخترت فناناً تشكيلياً لبطولة فيلمك السينمائي الأول، ولم تعتمد على ممثل محترف؟.. فيقول: (عيسى ديب) فنان نحات، ولقد اخترته لمجموعة عوامل، جعلته مناسباً لبطولة الفيلم، وأداء حالة الوحدة؛ حالة الكاتب الذي يعيش الاغتراب عن مجتمعه.. بصراحة ربما كان من المهم أن يكون معي في تجربتي الأولى، أحد أساتذتي، لكننا نعود مرة أخرى إلى موضوع الشاب الذي يريد أن يعمل مع أستاذ، فالأستاذ أكثر قدرة على إعطاء الملاحظة، من تلقيها.. وأنا خشيت أن لا أستطيع الحصول على ما أريده، نتيجة ملاحظات هنا، أو اعتراض هناك. لكن على الأقل، في التجربة الأولى، وكي تعطي وجهة نظرك في شيء تحب أن تعمله، ينبغي أن يكون معك أشخاص متعاونون، إضافة إلى أن الفنان عيسى ديب يتمتع بإحساس عالٍ جداً، أي أنه لم يكن يمثِّل، كما أنه كان يتقبَّل الملاحظة، بطريقة رائعة. وفي السؤال عن إدارة الممثلين، واختياره الاعتماد على لغة العين، والاستغناء ما أمكن عن الكلام أو الحوار، يوضح: أنا كنت أطالب وأصرُّ على هذا النوع من الأداء، الذي أراه يُغْني الفكرة كبيراً. لقد اعتمدت، بالتعاون مع الجميع، على مبدأ (تبسيط البساطة)، بمعنى أننا كلما كنا بسيطين أكثر، كنا حقيقيين أكثر.. وفي الحياة تستطيع أن تكتشف الكثير من خلال العين، وإذا ما كنت تتكلم بشيء، والعين تتكلم بشيء آخر، فسوف ينفضح فوراً.. هذه المسألة لها علاقة بإحساسي كممثل، لا كمخرج. أنا أعطي الملاحظة، وأفترض نفسي كما لو أنني أمام الكاميرا، لا خلفها. *** في المشاهدة، وباكتمال الدائرة، وانغلاقها فيما بين مشهدَيْ البداية والختام، نكون قد وقعنا على فيلم روائي قصير، (كان يمكن أن يكون طويلاً)، مشغول بعناية، على الرغم من بعض الهفوات المونتاجية، التي كان من الممكن ببساطة تلافيها وتجازوها، خاصة بالنسبة لمونتير وغرافيكي محترف، مثل إياد شهاب أحمد، أو أمام عين المخرج النابهة. ويبدو أن المخرج قصي خولي أراد استثمار أكثر ما يمكنه من قدرات الكاميرا الديجيتال، وخياراتها التقنية والبصرية، وحاول جعل بعض تلك الإمكانات أسلوبية فنية في فيلمه، كتثبيت الكادر، وسحب اللون، والتأثير الغرافيكي، على الرغم من أن عشوائية ما، أو أن شيئاً من عدم الانتظام الداخلي، بدا في اختيار بعض هذه اللقطات، وتثبيتها، لتدخل مخيلة البطل، وتنتمي إلى مخزونه البصري!.. لا يقلل هذا من جمالية الفيلم، و(طزاجته)، خاصة أن التمثيل بدا في حالات جيدة، أبرزها ما استطاعت الفنانة الشابة تاج حيدر تحقيقه من انفعالات وتعبيرات عبر العينين، وملامح الوجه البالغة البراءة، وشيطنة معن عبد الحق، ولؤم مصطفى الخاني، ممزوجاً بصوت الرائعة فيروز، وموسيقا عصام الحبال، النابعة من قلب الحالة وعمقها، دون شذوذ، ومن خلال الصورة الجميلة، المتقنة، بتصوير يزن شربتجي، ومدير التصوير والإضاءة سامر الزيات. فيلم (سيناريو)، بمقدار مرارته وفجيعته، ينتصر للطفولة والبراءة.. للحب والإنسانية.. ويبشِّر بسينمائي شاب، لا يحتفظ لنفسه بأسرار أن في جعبته القادمة المزيد من الأفلام.
النور السورية في 7 مارس 2007
سينما سورية جديدة (5): مؤسسة بيت الفن الدولية.. ورشة أيلول للسيناريو بقلم: بشار إبراهيم بمبادرة من "مؤسسة بيت الفن الدولية"، انعقدت في العام 2004 "ورشة أيلول للسيناريو"، بإشراف المخرج الشاب علاء عربي كاتبي، ومساهمة مجموعة من زملائه، من هواة صناعة الأفلام.. وعرفنا، فيما بعد، أن الدورة لم تتوقف عند حدود كونها "ورشة سيناريو"، بل تضمَّنت الاطلاع والتدريب على جميع العمليات الفنية التي تحتاجها صناعة الفيلم، من تصوير، ومونتاج، وكتابة سيناريو، وإخراج.. وبدل أن تنتهي الورشة إلى كتابة السيناريوهات، كما هو مفترض في الدورة، حسب اسمها على الأقل، إلا أنها لحسن الحظ بادرت إلى تحقيق مجموعة من الأفلام الروائية القصيرة، والأفلام التسجيلية، والتجريبية. تكاد مؤسسة بيت الفن الدولية تكون المؤسسة الوحيدة العاملة في مجالها، على الصعيد غير الرسمي. إذ إن غالبية ما نشهده، على مستوى سينما الشباب السوري، ينحصر في إطار مبادرات فردية، ثنائية أو جماعية، لا تنظمها مؤسسة واضحة المعالم. وعلى الرغم من أن المؤسسة لا يمكن لها الادِّعاء بأنها تمارس دوراً أكاديمياً، إلا أنها تهيئ الأرضية، وتمنح الفرصة لامتلاك أبجديات التعامل مع الفكرة والنص، والكاميرا والصورة، والصوت والموسيقا، واللون، وصولاً إلى صناعة فيلم. ولأن من مرّوا بباب المؤسسة، دخولاً وخروجاً، اتفاقاً واختلافاً، اجتماعاً وتفرقاً، في السنوات الماضية، أكثر مما يمكن تجاهله، ونظراً لأن بعضهم أعلن طلاقه مع المؤسسة، وذهب نحو عالم الاحتراف في السينما أو الدراما التلفزيونية، فقد ارتأينا أن نضع البطاقات الفنية للأفلام المنتجة في هذه السنوات، والتي تحمل عنوان المؤسسة وشعارها. يا.. سلام إنتاج: مؤسسة بيت الفن الدولية. سنة الإنتاج: 2004. مدة الفيلم: 7 دقائق. إخراج: علاء عربي كاتبي. فكرة: منذر غنوم. تصوير: عبده مدخنة. مونتاج وميكساج: مهند ماهر. خدمات فنية: سامي حمود. توثيق فيديو: عماد عربي كاتبي. أداء: فاروق عزقول. عن الفيلم: فيلم "يا.. سلام"، يرصد حكاية شاب، ينبغي أن يكون فلسطينياً، إذ نراه يحمل حقيبته، ويسير باتجاه مدينة رام الله، التي تظهر على لافتات طرقية، تحدد الاتجاه المفترض نحوها، والمسافة الطويلة جداً إليها، حتى إنها تكاد تنفر عن المنطقة كلها. يقطع الشاب المسافة تلو الأخرى، وفق علامات الطرق، منتقلاً من بيئة إلى أخرى، ومن حالة طقس إلى سواها، حتى يصل في النهاية إلى مواجهة جدار عال، هو جدار الفصل العنصري. ويجد الشاب نفسه، مرة أخرى، أمام مسافة طويلة جديدة، فتسقط الحقيبة من يده، وتنفتح على أشيائه المعبرة عن هويته، وذاكرته، من طراز صور الطفولة، وصور العائلة.. ويتحوّل الشاب إلى فدائي يعلو فوق الجدار، حتى لا يقدر أيُّ جدار على منعه من الوصول إلى هدفه، الذي هو هنا: رام الله.. أمام.. سر إنتاج: مؤسسة بيت الفن الدولية. سنة الإنتاج: 2004. مدة الفيلم: 4 دقائق. روائي، ديجيتال. إخراج: علاء عربي كاتبي. فكرة: نديم آدو. مدير التصوير: رائد صنديد. مونتاج ومؤثرات صوتية وبصرية: مصطفى البرقاوي. استشارة درامية: عدنان عودة. مشرف الصوت: إياد راضي. مساعد كاميرا: أحمد الجرد، راكان حمود. منفذ إضاءة: عادل حرحش. تمثيل: سامر نديم. رؤية جماعية: ورشة أيلول لسينما الشباب. عن الفيلم: في زمن الحرب، تدور حوارية من طراز خاص بين جندي وعصفور.. ثمة شجرة وحيدة في اتساع المشهد، وعمق الرؤية. وثمة جندي متهالك، يأتي مثقلاً بآثار الحرب، وعلى وجهه شيء من سوادها، لينال قسطاً من الراحة في ظل الشجرة ذاتها. كل شيء كان من الممكن أن يكون عادياً، حتى عندما سمع الجندي زقزقة عصفور، فأدرك أن عشاً موجود على الشجرة، ودفعه جوعه إلى مدّ يده للعش، وأخذ بيضتين، وقليهما، مقدمة لتحويلهما إلى وجبة شهية. كل شيء كان يمكن أن يكون عادياً، فأكل البيض، مقلياً أو مسلوقاً، عادة بشرية مزمنة، منذ فجر التاريخ، ولكن هذا الجندي، الخارج من أتون الحرب، تهزُّه زقزقة عصفور يبدو أنه ينحب على ما فقده، فما يكون من الجندي إلا أن يعيد البيضتين المقليتين إلى العش.. ويمضي في دربه. بوستر إنتاج: مؤسسة بيت الفن الدولية. سنة الإنتاج: 2004. مدة الفيلم: 43 ثانية. روائي، تجريب، ديجيتال. إخراج: سامر برقاوي. فكرة: عدنان عودة. تصوير: رائد صنديد. مونتاج: هاني الشيخ. عن الفيلم: ثلاث فتيات يتناوبن على التقاط الصور الفوتوغرافية بعضهن لبعض. والفيلم يرصدهن في حالة من البهجة.. إنهن يتبادلن التقاط الصور. والمفارقة تكمن في أنهن متلفِّعات بغطاء الوجه، مما لا يمكِّن من مشاهدة ملامح الوجوه، ولا التمييز بين واحدة وأخرى منهن، وبالتالي فإن الصور تغدو لا معنى لها، إلا بمقدار إدخال البهجة إلى عالمهنَّ الداخلي، المتواري خلف الحجب السود. تتبادل الفتيات أخذ الصور بكاميرا فوتوغرافية، وما بين صوت انفتاح العدسة وانغلاقها، وثبات الكادر لحظة التقاط الصورة الفوتوغرافية، وركض الواحدة منهن بعد الأخرى، لتبادل المكان أمام الكاميرا وخلفها، تتصاعد حالة التناقض ما بين عالمين: ظاهر وباطن، أو مكشوف ومتوارٍ. دون أن يخلخل، هذا التناقض، من حالة السلام الروحي الداخلي، للفتيات الثلاث، اللواتي يظهرن وكأنهن منقطعات إلا عن عالمهن. نجاة إنتاج: مؤسسة بيت الفن الدولية. سنة الإنتاج: 2004. مدة الفيلم: 4 دقائق. روائي، ديجيتال. إخراج: نجاة الكفري. سيناريو: عدنان عودة. مدير التصوير: رائد صنديد. مساعد كاميرا: جلال ناصر. مشرف الصوت: إياد راضي. مونتاج: مصطفى البرقاوي. منفذ إضاءة: باسم السعدون، محمد ناصيف. ديكور: نذير مراد. موسيقا: إياد ريماوي. أزياء: أحمد عامر، حسام شحادة. سكريبت: حسان الأحمد. مساعد مخرج: رزان ميرخان، عمر نصر. عن الفيلم: عدا العلاقة بين اسم الفيلم، واسم المخرجة، فكل شيء في الفيلم يبدو أنه لا "نجاة" له. بل إن الكارثة هي التي ستحيق بمفردات الفيلم. في قرية ريفية عربية، تمَّ التعبير عنها بالطقوس الفلاحية المعتادة، من بناء الأبنية الطينية، إذ يتعاون الرجال والنساء على تحضير الطين، وقوالب اللِّبْن، وبناء البيت، ومن ثم مباركته بالأكفِّ المغموسة بدماء الخراف الذبيحة على عتبات البيت، والمنطبعة آثارها على جدران البيت، تقيه من شرّ الأعداء، وعيون الحاسدين. صوت جورج بوش المنهمر موتاً، وتوعُّداً بالدمار، يصل إلى البيت على هيئة انفجارات تطيح بأركان المكان، كما تؤدي إلى قطع ساعدَيْ الطفل، وبالتالي تطيح بكفيه، ضمناً.. وتحترق آثار الكف على الجدران المحروقة. ثلاثية: داخلي منزلي إنتاج: مؤسسة بيت الفن الدولية. سنة الإنتاج: 2005. بإشراف: علاء عربي كاتبي. تصوير: زياد كلثوم. مونتاج: مهند ماهر. ميكساج: فراس جواد. الموسيقا: مختارات عربية وعالمية 1 ـ شوية ضو المدة: دقيقتان. روائي، ديجيتال. فكرة وإخراج: ناديا عبيد. أداء: ناديا عبيد. عن الفيلم: هي تهيئ مكياجها، وتتأنَّق أمام مرآتها، لكأنها تريد لجمالها أن يصل إلى درجة الاكتمال.. لكن من يرى؟.. هنا تلتمع لحظة الدهشة، إذ سرعان ما سنكتشف أن هذه الفتاة كفيفة، وبالتالي يبقى الفيلم سؤاله معلقاً، بين البصر والبصيرة، وبين الجمال الداخلي والجمال الخارجي، وبين الإحساس بالجمال ورؤيته.. 2 ـ عشرة/10 المدة: 3 دقائق. فكرة وإخراج: ريم يونس. روائي، ديجيتال. أداء: شادي كوا، ناديا عبيد، بشار شعبان، منال جرموكلي، مازن الغزي. صوت: علاء عربي كاتبي. عن الفيلم: في دفتر مذكراته اليومية يكتب ويمحو.. ويمنح نفسه العلامة التامة.. فيلم يكشف عن كل تناقضات النفس البشرية، بسموّها وجلالها، وخسّتها وانحطاطها، من خلال بطله، بين ما يمكن أن يعلنه ويتباهى به، وما يضمره ويخشى انفضاحه.. وفي حال من التواطؤ مع الذات، أكثر من نقدها ومحاسبتها. 3 ـ لينيا المدة: 3 دقائق. فكرة وإخراج: شادي كوّا. روائي، ديجيتال. أداء: بشار شعبان، علي رسول، مازن الغزي، شادي كوّا، ريم يونس، زياد كلثوم. عن الفيلم: تتجمَّع كل أنواع الرقابات حوله.. فهل تتفرَّق الأفكار؟.. هذا هو سؤال الفيلم، عبر كاتبه الذي تتراءى له لحظة الكتابة كل الرقابات العائلية الاجتماعية، والدينية السلفية، والسياسية السلطوية.. الأمر الذي يحوِّله هو نفسه، إلى خلاصة مكثفة لهذه الرقابات، ويمارسها بنفسه وعلى نفسه، في لفتة نبيهة. النور السورية في 4 أبريل 2007
|