سينماتك

 

«الراعي الصالح» فيلم دونيرو الأول في عالم الإخراج

عالم الجاسوسية بين لعبة الدول ومأساة العائلات

نبيل عبدالكريم

 

 

 

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

 

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

 

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

 

أرشيف

إبحث في سينماتك

 

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

 

سينماتك

 

حقق الممثل المميز روبرت دي نيرو خطوة نوعية في انتقاله إلى حقل الإخراج السينمائي. فهذا الممثل الذي اكتسب الشهرة والجوائز في سباق التمثيل أظهر أيضاً موهبة لا تضاهى في فيلمه الأول على مستوى الإخراج. شريط (الراعي الصالح) الذي يعرض الأن في سينما السيف يعتبر تجربة ناجحة على أكثر من سياق. فهناك مجموعة ممثلين اكتسبوا شهرة في أعمالهم الناضجة. وهناك فكرة مسيسة تتحدث عن عالم المخابرات وضعت في إطار إنساني. وهناك حبكة ذكية تشد المشاهد من اللحظات الأولى إلى اللقطات الأخيرة. 

يبدأ الفيلم بمشهد غامض يصور محادثة مشوشة بين رجل وامرأة في مكان ما. المشهد يشكل مادة مركزية من بداية الشريط إلى نهايته. بعده يبدأ الفيلم في أبريل/ نيسان العام 1961 ليستعرض فشل عملية الإنزال العسكري في خليج الخنازير في كوبا ونجاح قوات فيديل كاسترو في إحباط مخطط الغزو الأميركي.

اختيار دونيرو هذه الفترة الزمنية ضربة موفقة لأنه يحاكي فيها تلك العملية العسكرية الفاشلة التي بدأت تظهر تداعياتها في العراق.

دخول سيناريو الفيلم الطويل (أكثر من ساعتين) إلى قصة المخابرات الأميركية وعالم التجسس والصراع السري بين الأجهزة الدولية وتحديداً المخابرات السوفياتية، من خلال إعادة التذكير بذاك الفشل في خليج الخنازير يعتبر نقطة موفقة للبداية.

الفشل شكل فضيحة للسياسة الأميركية آنذاك وزعزع أركان «البيت الأبيض» في عهد جون كيندي وأعطى قوة لنظام كاسترو في كوبا وذريعة للسوفيات للتدخل في حماية الدولة الاشتراكية الوحيدة في قارة أميركا.

هذا الفشل المدوي وجه صفعة قوية لإدارة كيندي الذي كان يعلق الآمال على نجاح العملية. لذلك قرر الرئيس الأميركي إعلان حرب داخلية ضد أجهزة المخابرات والبدء في تنظيفها وإعادة هيكلتها لسبب بسيط وهو أن المعلومات بشأن عملية الإنزال تسربت قبل فترة ونقلتها مخابرات كي.جي.بي إلى كاسترو. فكوبا كانت على علم بالغزو واستعدت له فانكشفت القوات الغازية وانفضحت كل تفصيلاتها ومواقعها.

يبدأ الفيلم من هنا. من سرب المعلومات؟ ومن هو الشخص المسئول عن تنظيم العملية؟ ومن هو الطرف الخائن الذي يتعامل مع الأعداء السوفيات؟

سيناريو الشريط السينمائي بدأ من نقطة مركزية وأخذ في ضوء السرد التوثيقي والرائع يبحث عن جواب. من هو الجاسوس؟ كل دراما الفيلم انصبت للإجابة عن هذا السؤال. وروعة السيناريو المحكم أنه وضع منذ البداية علامات استفهام وشبهات تحوم على قلة من الأشخاص. فالعملية كانت دقيقة الصنع وسرية للغاية ولا يعلم بها سوى بضعة أشخاص لا يتجاوز عددهم أصابع اليد.

المشكلة كانت هنا. فالكل على سوية عالية من الكفاءة والقدرات. والكل مخلص. والكل مجرب ومتدرب وفوق الشبهات. إذاً من هو ذاك الشخص الخائن والعميل والجاسوس الذي غدر بدولته وأوصل معلومات في غاية السرية إلى طرف العدو وأدى الفشل إلى فضيحة سياسية عالمية للولايات المتحدة.

المخرج لم يدخل في اللعبة السياسية في ستينات القرن الماضي. فالموضوع ليس عن العملية الفاشلة ولا عن الرئيس كنيدي وإدارته للبيت الأبيض. الموضوع عن الخيانة وعالم الجاسوسية الغامض والشبكة السرية التي تتحرك خفية في كل العالم من دون علم الناس. فهناك حياة سياسية أخرى تحت الأرض تتحكم بها أجهزة غير مرئية يقودها ويخططها وينظمها مجموعة أشخاص غير معروفين ولا يسمع بهم أحد سوى أجهزة المخابرات المنافسة وهي لا تقل حيلة وذكاء عن الأميركية.

الدراما إذاً تتحدث عن هذا العالم المجهول الذي تحيط به الألغاز وتتصارع على قيادته قوى ماهرة في علومها وإبداعاتها وثقافتها ومعلوماتها وكذلك في قساوتها وسريتها وسطوتها ومغامراتها.

خليج الخنازير كان المنطلق للرواية الدرامية. فالرواية تتحدث عن رأس الجهاز السري الذي أشرف على تنظيم العملية بمعاونة فريق عمل وانتهى به الأمر إلى الفشل. من فعلها؟ ومن هو الطرف الذي دبر الفخ وأوصل كيندي إلى فضيحة سياسية؟

تطرح الرواية مجموعة فرضيات في سياق استعراض تاريخ الأشخاص وخصوصاً رئيس الجهاز وسيرته الذاتية. فهو ابن جنرال انتحر والده عندما كان في سن السادسة. الوالد ترك رسالة والابن أخفاها ولم يفتحها. هذا الابن ولد هكذا. فهو سري ويحافظ على الاسرار ويختفي وراء وجه أشبه بالقناع الحديد الذي لا يكشف عواطفه وردود فعله. فالولد جامد في تعبيراته لذلك انخرط في منظمة سرية عندما كان طالباً جامعياً في العام 1939 بجامعة بيل الأميركية. المنظمة تدعى «الجمجمة والعظام» وهي متشعبة في علاقاتها القوية والمهمة وتعتمد السرية المطلقة ولا تكشف أفكارها على الناس.

هذه المنظمة السرية تتمتع بمواقع وتملك شبكة واسعة من العلاقات مع رجال الدولة والسياسة. وبسبب هذه الصداقات يتم اختيار بعض عناصرها للعمل في أجهزة الدولة السرية (المخابرات).

إلى جانب هذه الهيئة هناك أندية ثقافية تقودها مراجع عليا وظيفتها الوحيدة هي مد الجسور وتطوير العلاقات مع الدول من خلال الأدب والشعر والمسرح والفن. كذلك تتميز هذه الأندية بموقع خاص في تحسين علاقات أو تخريبها أو في تسريب معلومات وتهريب أشخاص.

إنه عالم معقد ومركب. ومنه يبدأ سيناريو الفيلم بتفكيك المشاهد بأسلوب متعاكس ومتداخل. فهو يبدأ من فشل عملية الخنازير نزولاً ثم يبدأ من حفل التخرج في الجامعة صعوداً. فهناك لقطات عن تداعيات العملية والاضطراب الذي أصاب أجهزة المخابرات بسبب تسريب المعلومات، وهناك لقطات تتحدث عن طالب متجهم يعيش حياة العزلة ويحيط نفسه بالسرية. هذا الطالب هو رئيس جهاز المخابرات والمسئول عن فشل عملية الإنزال.

يقدم الفيلم السيرة الذاتية لتاريخ هذا الشخص الغامض. طفولته، شبابه، علاقته بالمرأة، سرية علاقاته، خصوصية تصرفاته... وصولاً إلى زواجه المدبر. الزواج المدبر أورث هذا الشخص السري مشكلة ولكنه نجح في التعامل معها ولكنه فشل في التكيف مع الزوجة والأسرة وغيرها. فهو أب و مخلص لعمله وبعيد عن الحياة الاجتماعية وغير متصل بالناس. فوظيفته تتحكم بوقته وطبيعة عمله تتطلب منه السرية والابتعاد عن الناس وحتى الزوجة وابنه الوحيد الذي عاش طفولة مقهورة وتحيط فيها أجواء السرية والخوف.

هذا الزوج/ الجاسوس أو الأب/ المخابرات هو موضوع الفيلم. والفكرة التي أراد المخرج الدخول منها لتصوير شبكة غامضة من العلاقات المجهولة للبشر هي التركيز على نقطة ضعف رجل المخابرات. فهذا يترك زوجته في مطلع الحرب العالمية الثانية ويغادر إلى أوروبا لمكافحة ألمانيا النازية بينما هي لا تعلم عنه الكثير وليست على اطلاع على طبيعة عمله. بعد نهاية الحرب يعود إلى أميركا لتبدأ الحرب السرية/ الباردة ضد الاتحاد السوفياتي، وهي تتطلب الجهد والوقت والذكاء والمهارة. وأهم ما في عالم الجاسوسية هو المقدرة على اختراق جبهة العدو. والنجاح في هذا الميدان يشكل حجر زواية في كسر أسرار العدو وتسريبها أو إدخال معلومات خاطئة تضلل الطرف المضاد وتورطه في مشكلات. هذه الحرب امتدت طويلاً ولكن أبرزها وأهمها كانت تلك التي امتدت من العام 1953 إلى عملية خليج الخنازير في 1961. من ارتكب الخيانة؟ حتى الآن المخرج أعطى إشارات غامضة إلى درجة يعتقد المشاهد أن الكل خونة وجواسيس نظراً لتعقيدات المهمات وتداخل الشبكات والاختراقات المتبادلة بين الطرفين الأميركي والسوفياتي.

يعود المخرج إلى المشهد الأول الذي سبق عملية الإنزال. والمشهد عبارة عن صورة غير واضحة المعالم وشريط مسجل عن محادثة مشوشة بين رجل وامرأة حصلت في مكان ما. المخابرات أخذت بتحليل الشريط وتوضيح قسمات الصورة واستمر عملها في هذا المضمار ساعات وأيام وأسابيع إلى أن حددت المكان في الكونغو الإفريقية. ويتوجه رئيس الجهاز المخلص والمتفاني إلى هناك. فالرئيس الغامض السري وصاحب الوجه الحديد يكتشف أن الرجل هو ابنه وأن المرأة جاسوسة تعمل لدى المخابرات السوفياتية وهي خططت لتوريطه وهو من كشف لها المعلومات.

الفيلم ينتهي في مأساة. فالأب /الجاسوس الذي أهمل زوجته وأسرته وابنه الوحيد من أجل مهمات كبيرة وصراع سري مع دولة عظمى يكتشف في الأخير أنه ضحية مكيدة وأنه وقع في مصيدة سبق له ونصب عشرات من أمثالها لغيره.

الابن لم يتعمد الإساءة لوالده. فهو سمع مصادفة بالعملية وبحكم علاقته بالفتاة كشف لها السر من دون علم منه بأنها تعمل لمصلحة المخابرات السوفياتية.

مأساة الأب أنه وقع في مشكلة وبات عليه المساومة لتغطية الفضيحة. ومأساة الابن أنه عاش حياة مغلقة في وسط أسرة تحيط بها الأسرار والألغاز ولا يدري الصحيح من الخطأ والصديق من العدو.

إنه عالم غريب ومجهول وأصعب ما فيه تلك الصورة الغامضة لحياة الجواسيس وأساليب تعاملهم مع أصحابهم وأهلهم وأولادهم في وقت يعتقدون أنهم يصنعون التاريخ ويتحكمون بالعالم. هذا الجانب العاطفي شكل مادة للسرد لتوضيح الصورة المظلمة والصوت المشوش: وعندما ظهرت ملامح الصورة وانكشف الصوت على كلمة كوتشينوز (الخنازير) تبين للأب/ الجاسوس أن الابن كان وراء تسريب المعلومات عن أكبر فضيحة سياسية صدمت كنيدي وأدت إلى خسارة كوبا لمصلحة السوفيات.

الوسط البحرينية في 5 أبريل 2007