«مزرعة القبّرة» للأخوين باولو وفيتوريو تافياني اليـوتوبيــا الـواقعيــة زياد الخزاعي |
صفحات خاصة
|
قال المخرج الكندي الجنسية الأرمني الأصل المصري الولادة أتوم إيغويان، في حوار صحافي أجراه معه مواطنه توم ماك سورلي في التاسع من كانون الثاني ,2002 حول تأخّره في إنجاز شريطه «أرارات» عن إبادة الأرمن في العام 1915: «تريّثت كي أصل إلى منظور محدّد عنها. أن أتلمس حاجتي إلى سرد حكايتها وأغراضه. إنها متوفرة، ويمكن إنجاز فيلم تاريخي ملحمي عن المجزرة. لكن مَنْ سيخرجه؟ لست أنا». جوابه القطعي أمين وبالغ الدلالة، فليس من حقه، وإن كان أرمنياً، ركوب موجة الأفلمة المستعادة لحدث شنيع وإعادة تفاصيله الدموية، لتكريس الإدانة وحسب. فهذه أصبحت اليوم، لكثرة المجازر والإبادات الحداثية، أشبه بملهاة تاريخية، يتمسّك القوي بحجة الإنكار، فيما تدافع الضحية بالتذكار والاحتجاج والتماس الحق والاعتراف بالدم المغدور. إعادة ترتيب قال إيغويان: «لست أنا». فبادر آخران لا يمتان إلى أرمينيا بصلة، لا بالدم ولا بالفاجعة، وتنكّبا مهمة إنجاز الأفلمة المنتظرة. أرادا عملهما أميناً إلى حد التماهي، من اليوميات إلى الطّلات التقليدية، فـ«أعادا ترتيب» المحيط وصورته كما كانا عليه. لكن، مهما فعلا، سيغتاظ مُشاهد جديد الإيطاليين الجهبذين الأخوين باولو وفيتوريو تافياني «مزرعة القُبَّرة» من عوزهما إلى هداية معصرنة تفكّك الجريمة، وتبرّر إعادة صناعتها مع ما يحدث في أفخاخ سياسة المجازر اليوم. يتضح خطؤهما جلياً في أنهما وضعا المجزرة في خانتها الأولى، وختما دمها بحكايات العائلات الميسرة، وضيعا مفتاح الإدانة سينمائياً الى الأبد، على الرغم من أنهما أشادا مشهداً متعجلاً وخطابياً لمحاكمة ضباط النعرة العنصرية في نهاية الفيلم، سيُسقطها غُلاة عساكر «تركيا الفتاة» بسهولة، ويهزجون بأغان وطنية تمجد عظمة سيوفهم، ويبقون الحق ضائعاً حتى اللحظة هذه. إن نص الروائية أنتونيا أرسلان، الذي اعتمد الفيلم عليه، محاكاة طبقية لأسرة أرمنية نافذة تستغفل ما سيحيق بها، إذ تؤمن بأن مشروع أمانها قائم بسبب ارتباطاتها العليا، لا بسبب علاقتها بالأرض والمواطَنة والتاريخ. وما موتها المقبل سوى الخضوع لقانون العرق ودمه الذي يجب أن يُلغى من الوجود، وأن تنتهي دسيسته التي تعكر صفو الكيان التركي. وضع انتماء عائلة أفاكايان الى طبقة الذوات الكاتبة أرسلان أمام خيار واضح: حكايات الحب المستحيل والأمجاد في مقابل رهبة العسف وارتهان العفة لأقدار المقايضة. وبعد أن كنا وسط فخـــامة القصر الريفي للعائلة الأرمنية المتطامنة، الذي حمل الفـــيلم اسمه، واستعداداتها لمأتم الجد، ننتهي كما هو متوقع في أهــوال «التقصد المجرم» التركي للأرمني، الذي لم تكن جريرته سوى دينه ونظاميته واعتداده وحنكته التجارية. يذهب عمل تافياني أرسلان الى التاريخ والعائلة، فيحمّل مشاهده وزر المؤرخ الذي يصرّ على «إدانة ما حدث وحسب». ذلك أن فواجع الثنائيات تتشابه مع نظيراتها في كلاسيكيات الروائي الروسي ليو تولستوي، الذي اقتبس الأخوان ثلاثاً من أعماله الى السينما: «القديس مايكل المغرور» (1971)، «شمس الليل» (1990) و«البعث» (2001). هناك العلاقة المحرّمة بين الابنة الحسناء نونيك (الممثلة الإسبانية باث فيغا) والضابط التركي أقون الذي يقنعها بالهروب معه ما إن عَرف بقرار الإبادة. ومع نكوصها في اللحظة الأخيرة، تتحوّل الى أضحية للجوع والمهانة والتهديد بالاغتصاب، وتقايض جسدها بكسر الخبز، قبل أن يتوله بها الجندي يوسف (الممثل الألماني موريتس بيليبترو، بطل «اركضي لولا اركضي» لتوم تايكوير) ويحميها من غيّ رفاقه المتوحشين. وأمام رجولته، تقرر نونيك التنازل له عن عفتها: «ليس هناك مَنْ يستحق هذا الشرف غيرك!»، تقول له دامعة. فيهرع مغطياً جسدها العاري معبراً عن احترامه لها، إذ إن قدرهما لم يحن بعد. في هذه المشاهد الصحراوية، نكتشف نذالة المتسول ناظم (أداء غير مقنع للفلسطيني محمد بكري)، الذي يبيع كرم عائلة أفاكايان وحمايتها له بالوشاية بهم الى الأتراك، قبل أن يتدارك الزلّة ويجيّش أعوانه من «متسوّلي حلب» (!) للذود عن نسائها وخصوصاً أرمينة (الكندية أرسيني خانجيان عقيلة المخرج إيغويان) الموله بها. عندما تصل العربة (لا تبرير لهذا المشهد المفتعل)، يرصدهم الجنود في الظلمة، فتقفز الشابة راقصة، كما سالومي، مترنّمة بأغنية أرمنية شهيرة. وحين يصدر أمر تصفيتها، تلتقي عيناها بيوسف قبل الرصاص، ويتذكر طلبها: «لا أهاب الموت، لكن لا تدعهم يعذبونني. عِدني بذلك». في المحاكمة المتأخرة بعد أربع سنوات، يشجب يوسف المذبحة ويعلن نفسه مذنباً بتصفية نونيك، المرأة التي عشق. نموذج هذه طهارة فردية. هل تستحقها المجزرة كاعتراف، أم إن الأخوين تافياني أراداها نموذجاً وتحريضاً للتركي بأن يقطع مع ماضيها، وينهي علّة انضمامه الى أوروبا؟ مَنْ يشاهد «مزرعة القُبَّرة» يقتنع، بعد أقل من نصف ساعة، أبنه جهد ضائع، هدفه تعاطف آني ومتعجّل وسطحي مع فيلم يضمّ مجموعة من حكايات رواية جَيب أشبه بهُزْأة عن محنة صيف 1915 وفاجعتها التي هابها إيغويان وصرخ: «لست أنا»، كأنه يقول: مَنْ يستطيع اليوم إنكار مجزرة الأرمن غير مرتكبها التركي؟ إذا افترضنا اعترافه، فهل سيُمحى السَّفك عن وجه تاريخهم؟ رَبَط إيغويان بفطنة بين ثنائية حاضره (كامتداد طبيعي لإرثه) والتزامه الشخصي «واجب الذاكرة» وتمظهراتها المعاصرة (باعتبارها الحكم الأخلاقي الجماعي لإثم لم يُجرم بالكامل). فذكاؤه السينمائي دفعه إلى تحاشي زلّة إعادة الصيرورة التاريخية لنوائب الأيام السوداء التي واجهتها الملايين آنذاك، وجعلها مركزاً لحكاية «أرارات» كما فعل الأخوان تافياني، بل استلّ حفيداً كندياً أرمنياً يدعى آفي، يَدّعي أمام ضابط الجمارك أن العلب السينمائية القديمة، التي حاول إدخالها بعد عودته من يريفان، تحتوي على وثائق تاريخية عن الأرمن وإبادتهم، ليتأكد ظنّ الأول، لاحقاً، من أنها مخازن لا تثير الشبهة لتهريب كوكايين اصْطَفَّها داخلها. ومع ذلك، يستمع الى مداخلته، مع وثائق كاميرا الفيديو، مبرّراً دخولنا كمتفرجي «فيلم داخل فيلم» الى عوالم حكاية تصوير فيلم مخرج أرمني مخضرم (المغني شارل أزنافور) عن الإبادة ومشاهدها الاستعادية المعدودة. خطيئة الشاب ومحاولة أخته غير الشقيقة لاحقاً إعدام اللوحة التأسيسية للذاكرة الأرمنية «الفنان ووالدته» (1934)، التي أنجزها أرشيل جوركي وتدرّسها أمهما الأكاديمية، هما جنايتا فردين لا يأخذان الإثم التاريخي مأخذ الجد، فهما ابنا حداثة يطالبان الآخرين بالإنصاف من دون أن يمارسا دورهما في التحريض عليهما، أو يتوصلا الى فهمهما. فيما نواجه لدى الأخوين تافياني أبطالاً أرمنا بلا خطايا: نونيك التي ينتصر تردّدها للعائلة على الحب، تتحوّل الى شهيدة. وشقيقها أزادور ينتظر الناجين عند مرفأ البندقية، ويتجلّى الى بينيلوب ذكوري. والصبي أفيتايس (الذكر الأخير الحيّ للعائلة) يُقلّد النساء بحذاقة، ويخدع الأتراك المهمومين بالدم واغتصاب أجساد النساء، ليبقي العرق حيّاً. والخادمة الأغريقية أسميني (الممثلة الإسبانية أنجلينا مولينا) تأخذ القرار الصعب بالتخلّي عن مجوهرات العائلة ورمز ثرائها وأصالتها الى زمرة المتسولين، كي تنقذ «البراءة الأرمنية» من حزّ الرقاب. أما على الطرف التركي، فيرصف الأخوان تافياني مجموعة من الأخيار: المنقذ ناظم والعاشق يوسف والكولونيل أركان، الذي يقدم العزاء لصديقه أرام بموت والده، وينوه في بداية الفيلم بفكرة الإبادة، من دون أن يصرّح بها علناً. فشرفه العسكري لا يتحمّل خيانة القسم، ويداه تتلطّخان بدماء أبرياء قاسمهم الملح، وعزّز مركزه بثراء عطاياهم. ينأى هذا العمل بالأخوين تافياني عن «اليوتوبيا الواقعية» التي زخرت أفلامهما الباهرة بها، التي دارت حول عزوم شخصيات من أجل إقرار تغيير جذري في مصائرها، كما تتجلّى في «الهدّامون» (1967) و«القديس مايكل المغرور» (1971)، ووقوفها ضد القهر عبر مشاريع ثوروية قلما تفلح في مواجهة سلطات أكثر عسفاً، كما في «رجل للحرق» (1962) و«تحت شارة العقرب» (1969)، وصحوات الضمير الآثم كما في «البعث» (2001) و«شمس الليل» (1990)، والدنو من الذاكرة العائلية كتدوين تاريخي كما في تحفتهما «أبي سيدي» (1977) و«ليلة القديس لورنزو» (1981). إن المزرعة الجديدة لتافياني لا تتوافر على شخصيات يتشابه عمقها الدرامي والتشخيصي مع نظيراتها السابقات، فهي عبارة عن زخرفات ميلودرامية، نعرف مسبقاً أنها تحمل أمراً واحداً لمشاهدها: شهداء تاريخ لن يُنصفوا كما في ضحايا مجازر أخرى سابقة ولاحقة. (لندن) السفير اللبنانية في 5 أبريل 2007
|