"300" لــــزاك ســـــــنـــيــدر عـــنـــصــــريــــة! هوفيك حبشيان |
صفحات خاصة
|
اذا سلّمنا أن كل فيلم مكوّن من جسدّ وروح، فإن الروح غائبة عن شريط "300" لزاك سنيدر بطريقة تبعث على تساؤل مصحوب بقلق: هل هذا هو النموذج - الموديل الذي ستستند اليه سينما المستقبل، باعتبار ان اصحاب هذا المشروع دعموه بكلّ المكونّات التي ستلتزمها سينما الغد، أو جزء منها في الأقل؛ سينما زمن البريد الالكتروني والوجبات السريعة المصنوعة من لحوم فاسدة؟ سينما قد لا تكون فيها اي حاجة الى ممثلين أو كتاب سيناريو. لعل المشهد الامثل لوصف "300"، هو ذلك حيث يُقطع فيه رأس جندي اسبرطيّ، فيبقى الجسد الضخم منتصباً على رجليه، لبضع لحظات، قبل أن يسقط بدوره خدمةً للصدقية، التي يجب أن تحظى بالقليل من الاهتمام في حكاية تدّعي انها تاريخية، حتى لو كانت الاجواء عاصفة بالخرافة والفاشية وتمجيد العنف. وكما هي الحال في هذا المشهد، فإن الفيلم جسد بلا رأس. لكن المشكلة انه يصمد لوقت اطول من الجسد، ويحتاج لساعتين، قبل أن يدرك انه بلا مخّ، ويقع أرضاً! في غضون ذلك، يكون المتلقي قد تحمّل ما تحمّله من اسقاطات مقززة: دماء، أطراف مقطعة، أنهر من البربرية تشقّ طريقها الينا، وحوش بشرية يمزق بعضها بعضاً، بلا رحمة ولا خوف. فقدان فضيلة الخوف هو أكثر ما أثار اشمئزازي واشمئزاز الذين رأوا أن دور هذا العمل يقتصر على الدعوة الى العنف المجاني والكاريكاتوري. غريبٌ شأن بعض الذين يكتبون عن السينما في الغرب ولا يرون في ما يشاهدونه الا ما يظهر للعيان ويطلع الى العلن من سطح الصورة وليس من داخلها. الاشد غرابة أن هؤلاء ليسوا أقل النقاد حنكة وقدرة على تفكيك الاساطير والالغاز. نحن أبعد ما نكون عن المقاربة الايديولوجية في النقد السينمائي. لكن كيف نغضّ الطرف عن الكمّ الهائل من المؤشرات التي تقودنا في منحى عنصري فاضح؟ وكيف نستسلم الى هذه القراءة الفنية السهلة التي تجعلنا نعلن اعجابنا بالصور التي تبدو بريئة ظاهرياً، في حين أن الخطاب الاخلاقي المتشنج والهستيري هنا يصير الغاية لا الوسيلة، وجزءاً لا يتجزأ من تكوين الفيلم، وربما علة علله. في سبيل اقتباس عبارة رائجة، فإن الصورة هنا تتمسكن كي تتمكن! هي تتمكيج من أجلكم، كي لا ينتبه أحد أن السلعة التي يجري أمرارها، بشعة ومشبوهة. لن نكون متطرفين حدّ ادراج الفيلم في اطار الهجمة السياسية المخطط لها، والتي يسوّقها أميركيون ضد ايران، حتى لو كان صحيحاً أن الفيلم يبرر حروب الاسبرطيين، خلافاً لحروب الفرس التي يدينها ادانة فارغة. ولن نسلّم بما قرأناه، ان ايرانيين متعصبين دعوا الى منع الفيلم في العالمين العربي والاسلامي، بسسب ما يتضمنه من مغالطات تاريخية وتحقير لصورة الفرس. قد يكون دعاة منعه على حقّ في ان معالجة سنيدر محقّرة ومشينة في حق تاريخهم، لكن هذه المعالجة هي أولاً وأخيراً معيبة في حقّ سينمائي قادر على احتواء هذا القدر من الخلق والذوق والصنعة البصرية، لكنه لا يزال رغم ذلك متمسكاً بأفكار بدائية، كأنها خارجة من بيان لحزب من الاحزاب اليمينية المتطرفة. تبدأ الحوادث عام 480 قبل الميلاد، ويروي الشريط من خلال معركة تيرموبيلس شجاعة الجنود الاسبرطيين الذين قادهم الملك ليونيداس مقاوماً الجيش الفارسي الجبار رغم قلة عدد رجاله. كادت هذه المعركة تسقط بسرعة من ذاكرة التاريخ، لولا اعتبار البعض أنها كانت حاسمة لتأسيس الحضارة الغربية. اذاً، هذا هو الينبوع الذي ينبغي العودة اليه، والارتواء منه، بحسب فرانك ميللر، صاحب الكتاب المنقول منه سيناريو الفيلم. واذا كانت هذه الحضارة "الناجحة" ولدت في بحيرات الدم، ففي ايامنا العصيبة هذه حيث يشتد الصراع بين الشرق والغرب، قد تكون استعادة التجربة الاسبرطية الفارسية، فكرة لا مثيل لها. أهذا ما يلمحّ اليه الفيلم؟ هذا في الأقل هو الانطباع الذي نخرج به. في كل الاحوال، هذه البروباغندا لا تشرّف أحداً، بل قد تعود على اصحابها بالضرر، وخصوصاً اذا عقدت المقارنة بين الفيلم وفيلم "مصارع" لريدلي سكوت، الاكثر قدرة على الاقناع وخرق الوجدان. في غياب ما هو تأملي، ونقدي، وجاد، يسقط العمل في شباك متتاليات بصرية تتعاقب وتتشابه، رابطها الوحيد المعركة المستمرة. بناء على طلب من صاحب الشريط المرسوم (BD) فرانك ميللر (يتشارك اخراج "مدينة الخطيئة" مع روبرتو رودريغيز)، يظل سنيدر وفياً وفاء أحمق الى الاصل الادبي، فيقتصر دوره مخرجاً على قول كلمتين "أكشن" و"كات"، علماً انه اذا انتبهنا الى الحال التي آل اليها التمثيل تحت ادارته، فسنجعل حتماً جزءاً من قدرته الاخراجية قيد التشكيك. هناك نهج تمثيلي لا يطاق في "300"، قائم على الصراخ والحوارات التافهة، سببه اختيار ممثلين يمثلون بعضلاتهم المفتولة وبالاشياء التي تزينهم، لا بعقلهم وحدسهم. كم مرة يصرخ جيرارد باتلر "هذه اسبرطة" في وجهنا، مع انه ليس من الصعب الادراك أن السينما أفضل مكان للهمس، بعكس المسرح. هؤلاء جنود شبه افتراضيين في فيلم يشبه ألاعيب الفيديو ويقدّم سلسلة طويلة من المعارك من دون أن يطلعنا ما المقصود منها. أكثر ما يثير الدهشة في الفيلم، علاوة على الاستخدام المفرط لـ"الرالانتي"، هو تصميم الملابس والاكسسوارات الذي جعل الشخصيات مادة للتهكم والازدراء! فبعضهم بدا كأنه متحول جنسياً، والبعض الآخر كأنه من هواة السادية – المازوشية، بسراويلهم الجلدية السكسية. أكثرهم إثارةً للسخرية هو بالطبع زيرزيس. ربما كان هدف سنيدر أن يكون صاحب أول فيلم تاريخي للاولاد! من يعرف؟ في كل حال، هو أصاب هدفه، لأن هذه الفئة هي أكثر الفئات التي يسلّيها هذا الـ"بيبلوم" ويستهويها نسيجه الصوري. ما يثير الاستياء، ان أكثر الثقافات تهميشاً، مثل ثقافة "البوب" والشريط المصوّر، وأشياء أخرى كانت تغضب المؤسساتية في العقود الماضية، صارت اليوم الناطق باسم الفكر السلطوي والطاغوتي المتسلط، وبتنا نلاحظ كم من السهل جعلها خنجراً أو سيفاً يقطع الرؤوس المتعالية. طبعاً يتضمن الفيلم مواربات لا تحصى (يقدّم الفرس باعتبارهم متخلفين)، وقد غضضنا النظر عنها جميعها لو أنها صبّت في هدف سينمائي نبيل، او جاءت في دور الغاية التي تبرر الوسيلة. خلافاً لايستوود في "رايات آبائنا"، يأتي الفيلم بنسخة بالية من البطولة والانتصارت العسكرية، خالقاً دوماً حجة مركبة وملفقة وأسباباً تخفيفية لتلميع صورة الاسبرطيين الحقيرين ورمي اللوم على أعدائهم الفرس. لكن الفرق ان حقارة الاسبرطيين محقة، و"بيّيعة" في السوق الغربية، وخصوصاً مع ما يدور حالياً في كواليس السياسة. بمجرد أن الفيلم يتبنى وجهة نظر الطرف الاول، فهذا يجعله متواطئاً، ومنحازاً، وعنجهياً، مقارنة بأدبيات الفيلم التاريخي القديم. لكن نكرر أن سنيدر رغب في المقام الاول جلب جمهور من المراهقين الذين تسرّهم مشاهدة اطراف بشرية تتطاير ضمن مونتاج يقطع الانفاس ويخدر العقل. في ظروف مماثلة، تصبح دعوات الخروج من هذه الهستيريا مطلباَ رجعياً. فما العمل؟ هذه هي اعادة صوغ التاريخ من منظار "الاخ الاكبر"! هوفيك حبشيان hauvick.habechian@annahar.com.lb (¶) يُعرض حالياً في سلسلة صالات "أمبير" و"سينما سيتي". النهار اللبنانية في 5 أبريل 2007
|