سينماتك

 

مشهد من الشريط الجديد لطارق هاشم www.Gilgamesh.21

مقاربة فى تسخير اللوعة وتوظيف الألم

أمستردام - عدنان حسين أحمد

 

 

 

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

 

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

 

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

 

أرشيف

إبحث في سينماتك

 

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

 

سينماتك

 

يشى عنوان الفيلم الوثائقى الجديد "www.Gilgamesh.21" للمخرج العراقى طارق هاشم بأنه موقع أليكترونى قد ينفتح على كمٍ هائل من المعلومات التى تتحدث عن أسطورة كلكامش فى القرن الحادى والعشرين.

وإذا سلّمنا جدلاً بأنه موقع إليكترونى عراقى بامتياز فإنه سينفتح حتماً على موسوعة الألم العراقي، تلك الموسوعة التى تسلّط الأضواء على مكامن الشخصية العراقية المنغمسة دائماً فى إثارة السؤال الفلسفي، ورغبتها الجدية فى تثوير ثنائية "الوجود والعدم"، هذا الوجود المؤرِّق، وهذا العدم الذى لا يريح ولا يستريح.

يخصص هذا الموقع باباً كبيراً للحزن العراقي، ويتقصاه منذ بدء الخليقة، ويختلق له أسباباً ومبررات تجعلنا نتوهم أو ربما "نقتنع" بأن الحزن صفة عراقية خالصة لا يرقى إليها الشك، ولا تقترب منها الظنون. وعلى وفق هذه المقاربة علينا أن نتأمل هذا الفيلم التسجيلى الذى يرقى الى مستوى الوثيقة التى تدوّن المأساة العراقية عبر لعبة فنية مُفترضة، وتتقصاها مذ كتبت أول ملحمة فى التاريخ البشري، أى منذ القرن السادس والعشرين قبل الميلاد تقريباً وحتى الآن.

ولكن السؤال المثير للجدل هو: هل نجحت هذه المقاربة بين الملحمة الأولى التى تمتد الى 2600 ق.م، وبين الملحمة المعاصرة المفجعة التى وقعت أحداثها بعد 9/ 4/ 2003؟

وما هى أوجه الشبه والاختلاف بين الملحمتين؟

وهل أفلحت هذه المقارنة بين كلكامش، ملك "أوروك" وسيدها الأوحد بلا منازع، وبين كلكامش المعاصر المَنفى والمُحاصر فى كوبنهاغن أو مدينة "الوحشة" كما يقترح طارق هاشم؟

وإذا كان كلكامش الأسطورى يحمل بين طياته ثلثاً من سلالة الآلهة، فإن طارق هاشم يحمل أيضاً ثلثاً من سلالة الملوك، حتى وإن تجسّد هذا الثلث فى "سدارته الفيصلية" فى الأقل.

ويبدو أن طارقاً قد حسم الأمر منذ البداية، فلم يأخذ كل خصال كلكامش الذى دوّنته الأسطورة، أو الذى شهدته أوروك على حقيقته. فمن المستحيل أن يقبل طارق هاشم بأن يكون مُغتصِباً للعذارى، ومُنتهِكاً للعرائس فى ليلة زفافهن، كما يرفض أن يستعبد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً.

وهاتان الخصلتان "اغتصاب العرائس، واستعباد الناس" هما اللتان أسقطهما طارق من حسابه فرضى بتأدية هذا الدور الذى لا يخلو من مصاعب جمة، وتناقضات خطيرة قد تطيح بهرم العمل الملحمي، وتقوّض بنيته الأخلاقية. ومع ذلك فالفيلم ينطوى على انتقادات حادة لبعض ممارسات القادة والرؤساء والملوك وعلى رأسها القمع، ومصادرة الحريات، وكتم أنفاس الرعية.

مقتطفات مكثفة

يسعى أغلب المخرجين الجادين الى تقديم خلاصة أفلامهم عن طريق انتقاء بعض المقتطفات التى تتضمن لقطات مكثفة، ومركزة، وشديدة الدلالة علها تعكس الجو العام لفكرة الفيلم وثيمته الرئيسة. وقد نجح طارق هاشم، وهو المعروف برهافته، وشاعريته، وحساسيته تجاه المفردة البصرية واللغوية ودلالتهما.

وقد أوحى المخرج للمشاهد منذ مفتتح الفيلم بصوت الطائرة السمتية، وحركة العجلات العسكرية، بأن المناخ العام للفيلم هو الحرب الضروس التى تجرى رحاها خلافاً للأعراف والتقاليد العسكرية، فى شغاف مدينة بغداد، وليس على الحدود العراقية مثلاً. وثمة رنين هاتف متواصل يشى بأن هناك صعوبة جدية فى التواصل حتى عبر الماسينجر، فالكهربا "الوطنية" تنطفئ دائماً فى العراق.

وثمة نتف من حوار عميق الدلالة سيتطور لاحقاً ويهيمن على الفيلم برمته حتى ليمكننا توصيف الفيلم بأنه فيلم وثائقى حواري. ثمة سؤال مهم يثيره طارق "كلكامش" فى الاستهلال مفاده: ما الذى يريدونه بعد كل هذا الخراب؟ فيأتى الجواب من باسم "أنكيدو" المرابط فى مدينة الموت: "إنهم يريدون أجسادنا وتاريخنا ومقدساتنا، وهم يريدون أن يعبثوا بممتلكاتنا الروحية والمادية والحضارية".

وتتناسل الأسئلة وكأنها حاوية بارود تتفجر تباعاً. هل بقيت هناك مفردات حضارية؟ فيرد أنكيدو: إننا نحافظ عليها بالقوة، ونحاول أن نصنع حضارة، وندوِّن تاريخاً جديداً، ونخلق أملاً جديداً، ونبتدع أحلاماً طرية لا تتلوث بمخالب الاحتلال. الشر "هنا فى مدينة الموت" يتجسد فى كل شيء، وهو أشد ظلمة من أى مكان معتمٍ، غارق فى الظلام.

وحينما يستفسر كلكامش وهو فى مدينة الوحشة والحصار من أنكيدو القابع فى مدينة الموت المجانى عن الناس الذين يطاردونه، ويستهدفون حياته، يرد موضحاً: "ليس الثور السماوى هو منْ يطاردنا، إن من يطاردنا هو البى 25، الهمر، سيارات الشرطة، الحرس الوطني.. يطاردون السنة، الشيعة، الكفرة، السلفيون.

ولو أن المسألة متوقفة على الثور السماوى لهان الأمر، فكلانا نستطيع أن نقتل الثور السماوى وندمره. ويمضى الى القول بأسىً: ممكن أن يفقد الانسان مشروعه الحياتي، أو الفني، بسبب شخص ما مجهول فى الحرس الوطنى يمكن أن يكون متذمراً أو غاضباً، أو مسؤولا فى الجمعية الوطنية كان قد تعرض للتوبيخ من قبل زوجته وهو فى طريقه الى السفارة الأمريكية. كائن من هذا النوع لا يجد غضاضة فى أن يقتلك وكأن شيئاً لم يكن! ورداً على السؤال الأكثر أهمية وهو إن كانت فى بغداد لمسة حضارة أم لا؟ فيأتى الرد سريعاً. هذه حقارة وليست حضارة!

قصة مدينتين

أقام المخرج طارق هاشم معادلاً موضوعياً بين كلكامش الذى يقيم فى كوبنهاغن، المدينة الموحشة التى تحاصرها الثلوج، وبين أنكيدو الذى يقيم فى بغداد، مدينة الموت التى يحاصرها الأعداء من كل حدب وصوب. وفى كلا المدينتين ثمة إنسان معلّق بين الأرض والسماء، الأول تقتله الغربة، وينتهكه الجليد، والثانى يستحم فى شلالات من الدم.

كلاهما يريد أن يصرخ بأعلى صوته إزاء صقيع الحياة تارة، وجحيمها تارة أخرى. وربما كانت الانقطاعات المتواصلة للكهرباء "الوطنية" هو العنصر الأساسى للشد والتشويق الذى عشناه على أعصابنا ونحن نترقب طبيعة الحوار الذى تتصاعد دراميته عبر مدار الفيلم الذى بلغت مدته "52" دقيقة تتابعت فيه أسئلة كلكامش الى خله وصديقه أنكيدو، فالأول يبحث عن الحياة، والثانى يتلقفه الموت، فيؤجج فى صديقه رغبة البحث عن عشبة الخلود لكى يجدد شبابه.

يتمنى طارق أن يكون صوت صديقه باسم أو أنكيدو مسموعاً فى كل زاوية من زوايا بغداد، وفى كل شارع من شوارعها. وحينما ينقطع التيار الكهربائى يلعب باسم على الكلمات مجدداً فنعرف الفرق بين الكهرباء الوطنية، واللاوطنية، مثلما ندرك أنه يلّمح الى مفردة اللاوطنية التى بدأت تتجذر يوماً بعد يوم.

تعرية الذات

يعرِّفنا طارق على التاريخ الشخصى له، ويتحدث بجرأة نادرة وكأنه عازم على قول ما لا يُقال، كما أنه يريد فى الوقت ذاته أن يحرِّض زميله الفنان المسرحى باسم الحجّار على خرق الثوابت وانتهاكها. يقول طارق إن والده كان "تنكجِّياً" لكنه لم يرث هذه المهنة عنه. وحينما توفى والده، وجد نفسه مضطراً وبتشجيع من والدته، لأن يذهب فى العطلة الصيفية للعمل عند أحد "الأسطوات" الذى صادف أن يكون غلمانياً، وذات مرة تحرَّش بهذا الصبى الذى لم يجتز عامه الحادى عشر، وأراد أن يغتصبه، لكن هذا الصبى لم يكن أعزل بالمرة، فقد هرب خلف السياج، وأخذ يرجم دكان الأسطة بالحصى مُعبِّراً عن نقمته على هذا الكائن الممسوخ. وحينما يمازحه باسم بالقول: هل أنت متأكد من أنك أنقذت نفسك من هذا اللوطي؟

فيجيبه بصراحة: أننى أتذكر إننى قلت، وكما تعرف فإن الواقعة حدثت لى منذ زمن بعيد، فلست أدرى على وجه التحديد لأن ذاكرتى مشوّشة جداً. فيرد عليه باسم: أنا لا أتذكر أى شيء من طفولتي. فيأتيه السؤال المستفز مباغتاً: أنت لا تتذكر، أم أنك لا تريد أن تتذكر؟ فثمة فرق كبير بين الحالتين. هنا يستثمر المخرج مشهداً عجيباً لا أدرى فى أى إرشيف وجده، حيث نرى عددا من الجنود الأمريكان يهتفون بلهجة تهكمية ساخرة ومبتذلة "فكْ إراك"!

بنية التضاد والتناقض

كلما تتصاعد نبرة الغضب لدى باسم فى الداخل يهدئ طارق من روعه، ويقول له بأن مهمتنا الأساسية، وسلاحنا الوحيد هو أن نلعن الشر فى كل مكان، ونقاتله حيثما يتواجد. فلا غرابة أن يحرِّض كل منهما الآخر سواء حينما يؤديان شخصيتيهما الأسطوريتين الممسرحتين كلكامش وأنكيدو أو حينما يتجاذبان أطراف الحديث المتقطع وكأن اللغة العربية لا تستطيع أن تسعف نفسها أمام هذا العبث الكبير الذى يفتك بحياة العراقيين، ولا يجد باسم الحجار وسيلة ناجعة لمواجهة هذه اللاجدوى إلا بالسخرية من اللغة والتهكم على الواقع الحياتى الراهن فى ظل الاحتلال. تصل بعض الحوارات الممسرحة حد التشنج فكلاهما لا يريد أن يموت ميتة عابرة. أليس فى تكوين كلكامش ثلث إله؟

أما شجاعة أنكيدو فهى تؤهله لأن يخلّد اسمه إذا ما لفظ أنفاسه الأخيرة فى ميدان الوغى، ولكن ميتته ستكون مباركة حتماً لأنه ظل يقاتل الشر حتى النفس الأخير. وفى لحظة التوتر ذاتها يؤكد كلكامش بأنه قد ارتقى مع خله وصديقه أنكيدو أعالى الجبال، وقطعا أشجار الأرز، وقتلا خمبابا الرهيب، وفتكا بالثور السماوي، فيأتيه رد مذهول ينطوى على عبارة شديدة الدلالة "هذا أمر مرعب جداً". ويقابله مشهد آخر يبعث على ذهول المثقف العراقي، ولا يحتاج الى تأويل، وهو مشهد شباب عراقيين يضربون ظهورهم بسلاسل حديدية وكأنه إيغال فى جلد الذات، وتكفير عن خطأ اقترفه الأسلاف. وفى بنية التضاد والتناقض يطرح طارق سؤال الحب: هل هناك حُب فى بغداد؟

فيتميز باسم غضباً مختصراً الجواب بكلمات معدودة: "بغداد الآن مدينة كونكريتية" وهذه الإجابة تنطوى على سؤال آخر مفاده: كيف يتسرّب الحب من هذه الجدران الكونكريتية الى فضاءات بيوتها وحدائقها ومدارسها؟

فيتهم أنكيدو صديقه كلكامش بأنه لا يرى بغداد جيداً. فباسم أو أنكيدو، لا فرق، يستطيع أن يرى بغداد وهو مغمض العينين، بينما لا يستطيع طارق أو كلكامش المنفى أن يبصرها الا بعينين مفتوحتين عن آخرهما. فالعراقيون فى الداخل يتنكبون أحزانهم وانكساراتهم وخساراتهم المتلاحقة، ولكنهم مصرون على الحياة اصرار باسم على تأدية دور أنكيدو على خشبة المسرح، واصرار صديقه الرسام سعد شاكر على أن يرسم وسط أزيز الرصاص، وهدير الطائرات السمتية. فباسم يتأبط موسوعة أحزانه أنى ذهب فى مدن العراق التى يرابط فيها، بل أن هذه الموسوعة تكاد تستقر فى ذاكرته المشوشة التى أربكتها الحروب المتواصلة، وها هو يحفظ الكثير من وقائعها وأحداثها المروِّعة عن ظهر قلب. فمعدل السنوات الأربع والثلاثين التى عاشها فى هذه المدينة الملعونة يساوى "34" عاماً من الفقر، والحرمان، والحروب المتواصلة، وما يتخللها من خوف ورعب وفزع كونه هاربا من الخدمة العسكرية، ومطرودا من معهد الفنون الجميلة لأنه لا يريد أن يموت موتاً مجانياً، ولا يريد أن ينضوى تحت يافطة القطيع الذى يحارب من دون جدوى أو هدف واضح.

تستمر ثنائية التضاد فى تصاعدها الحاد، فكوبنهاغن التى يتجول فيها كلكامش المنفى محاصرة بالثلوج، بينما يتجول أنكيدو فى بغداد، المحرقة التى تتصاعد فيها ألسنة النيران فى كل مكان تقريباً. ومع ذلك فإنه يريد أن يؤدى دور أنكيدو علّه يهدئ ثورة البركان فى داخله، ويتخلص من بعض معاناته المؤرقة التى لا ينفع معها أى علاج. وربما يكون المسرح علاجاً مسكِّناً للآلام. فكلكامش يقترح على أنكيدو أن يرتقيا أعالى الجبال، ويدخلا غابة الأرز، ويقتلا خمبابا، ولكن أنكيدو يتساءل: كيف ندخل غابة الأرز وحارسها مقاتل قوى لا ينام؟

ويكاد كلكامشنا المعاصر أن يستسلم لليأس، ويذعن لهذه اللاجدوى الطاغية فى كل مكان من بغداد، وليس هناك سوى الأباطيل وقبض للريح. فها هما يؤديان دور كلكامش وأنكيدو على بعد آلاف الأميال عن بعضهما، ويتمنى طارق لو كان صديقه باسم معه على خشبة المسرح الدنماركى لأخذ التصوير شكلاً أخر. غير أن هذه الأمنية تنكأ جرح باسم، وتفتح خزانات عذاباته المتواصلة.

العرب أنلاين في 4 أبريل 2007