"رايــــات آبــــــــائـــــنــا" لـكـــــلـــيــــنـــت ايـــســــــتــــوود الــبـــطـــــــولـــــة الـمـــــهــــــزومـــــــة هوفيك حبشيان |
صفحات خاصة
|
ينكبّ كلينت ايستوود منذ بضعة أفلام على ذرّ الرماد في عيون نمط العيش الاميركي، ذاهباً الى أبعد ما يمكن الذهاب داخل مفهوم الرسالة الاخلاقية لتلك البلاد، واضعاً على المحك سلوكيات مؤسساتها والقيم التي قامت عليها الامبراطورية الجديدة. عرفناه قبل أعوام قليلة، تحديداً في "رعاة بقر الفضاء"، رجلاً سبعينياً متمسكاً بالحلم، الذي ظل صامداً في وجه الشيخوخة والتجاعيد وتبدد الاوهام. الآن، وهو على مشارف الثمانين، ينتهج اسلوباً خاصاً في مخاطبة الوعي الجماعي، وفي إظهار قفا الصورة المتداولة. الاهمّ انه يسترق النظر خلف ستار الاكاذيب الذي يلقي بظلاله على التاريخ الاميركي الحديث، ذاهباً في الاتجاه المعاكس لنصيحة جون فورد، في "الرجل الذي قتل ليبرتي فالانس"، وفحواها: "اذا كانت الاسطورة اكثر جمالاً من الواقع، فاتبع الاسطورة". العقلية المشاغبة التي يعمل بها ايستوود في "رايات آبائنا"، تضخ دماً جديداً في عروق سينماه، جاعلة منه آخر الكلاسيكيين الكبار. ويجب عدم الاغفال أن شبح فورد يخيّم على الشاشة طولاً وعرضاً. ولأن الشيء بالشيء يذكر، يصعب تناول هذا الشريط الكبير الذي يحلّ في بيروت اليوم، من دون ان يحضر الى بالنا "باب الجنة"، رائعة مايكل تشيمينو، علماً ان ما يجمع الفيلمين هو تعطيل الـ"جانر" السينمائي الذي ينتميان اليه، بالاضافة الى نقاط مشتركة اخرى، أبرزها مخالفة الاساطير الاميركية. يبدأ كل شيء بصورة فوتوغرافية. انها الكليشيه التي يدور عليها الفيلم بأكمله. نرى فيها ستة جنود من البحرية الاميركية يرفعون الراية المرصّعة بالنجوم على قمة جبال سوريباشي في جزيرة ايو جيما، بعيد نجاحهم في التصدي للجنود اليابانيين عقب معارك دموية طاحنة. صورة متقنة الصنع، رغم ان الارتجال كان سيّد الموقف لحظة التقاطها. متقنة لأنها ستغيّر مجرى الامور، في مرحلة حاسمة من تلك الحرب، وستعرف الحكومة الاميركية كيف توظفها لاستدرار عواطف الشعب، وكسب المزيد من الدعم المالي لاستكمال مهامها. شخصيات هذه الصورة جنود عاديون، شاءت الصدفة أن يكونوا هناك، أمام عدسة المصور، في لحظة العبور من الظل الى النور، وفجأة يجدون أنفسهم أبطالاً وطنيين! لكن هل هم فعلاً ابطال ايو جيما أم منتحلي صفة فحسب؟ وماذا لو كان الابطال الحقيقيون هم الذين سقطوا على أرض المعركة، وشاهدوا، تالياً، نهاية الحرب (بحسب النظرة الافلاطونية للحرب)، ولكن ظلوا خارج الصورة لأسباب محض تقنية؟ يبدي ايستوود في هذا الشريط المنقول من كتاب شهادات لجيمس برادلي، انشغالاً كبيراً بموضوع البطولة وما تحمله من معانٍ واجتهادات، ليرينا كم الفرق شاسع بين ما يدور في عقول الساسة وما يعانيه العسكر ميدانياً. ولعل أحد اسباب نجاح هذا المشروع غير الاعتيادي (يجيء الفيلم في نسختين، الاولى تسرد الوقائع من وجهة نظر الاميركيين؛ والثانية من منظور الجنود اليابانيين)، أن مخرجه الذي تتصاعد شفافيته فيلماً بعد فيلم، تحوطه هنا اسماء لامعة، كلّ في مجاله، بدءاً من بول هاغيس، صاحب "اصطدام"، الذي تولى عملية اقتباس الكتاب، مروراً بمدير التصوير طوم ستيرن الذي شكّل اجمل صورة بالـ"سيبيا" ركِّبت على فيلم منذ زمن طويل، وصولاً الى ستيفن سبيلبرغ الذي شارك في انتاج العمل، وكان من ركائزه الأساسية مذ طُرحت الفكرة. مستلزمات اعادة الاحياء، وضعت بعناية وبالتفاصيل، من أزياء وديكور وبلاتوهات تصوير، وكلها عناصر ساهمت في رفع مستوى العمل. لم يكن هدف ايستوود ان يختبر اشياء جديدة على المستوى الجماليّ، فقد طبق ما تلقنه من معلميه خلال حياته. لهذا السبب، يعيد الشريط الى الاذهان باقة من تلك الافلام الحربية التي انتجت في منتصف القرن الماضي، اي النوع السينمائي، الاميركي بامتياز، الذي أسس مفهوماً آخر للانتصار والبطولة، للعدل والشهادة. كذلك أدخل تقنيات تصويرية مستحدثة توحي أن ما نراه حقيقي، أو ينم منه، ولا رغبة عند ايستوود في تقديم شيء يحاكي الواقع. فالانزال العسكري على الشاطىء، الذي يعتبر أحد أكثر الفصول بلاغة مشهدية، سيغرق الفيلم في واقعية متقنة الصنع، بحيث نكاد نشتمّ روائح الامعاء البشرية التي ستداعبها الامواج ثم تبعثرها. بقدر ما يواصل فهم ما تعنيه التضحية العسكرية، يحاول ايستوود بالقوة نفسها أن يتدارك مختلف وظائف الصورة التي يلجأ اليها لكشف الاعيب السلطات الاميركية، وتُستخدم في مكان آخر لتضليل الرأي العام وتغيير الحقيقة. هناك وظائف متعددة للصورة يحاول ايستوود ان يدرسها. كذلك يرينا اكذوبة دولة تعتمد على البروباغندا والمبالغة والفولكلور أكثر من اي دولة أخرى في العالم، محوِّلةً الانكسارات النفسية وعذابات الجنود الى بطولات وهمية ومناسبات للاحتفاء. رغم ان الفيلم يحفل بأبجديات البطولة، ويكثر فيه الحديث عن ابطال وطنيين ضحّوا من اجل مواطنيهم، لا أبطال سوى في مخيلة الشعب الذي يجري تضليله. فهؤلاء أبطال في مخيلة الناس، لتبرير ما لا يبرَّر (التضحية من أجل الآخر)، ولا يختلف وضعهم عن وضع حيوانات السيرك التي تشارك في مشاهد بهلوانية لتسلية الحشود. هؤلاء فبركتهم الحاجات السياسية، أخذتهم لحماً ورمتهم عظاماً. ولا عجب اذا كان أكثر الامجاد الوطنية التي يتباهى بها الاميركيون، اساسه كذبة يدخل ايستوود في دهاليزها ليحاول أن يفهم كيف ولماذا. هنا اقتلاع من الجذور لمفهوم البطولة، على الطريقة الاميركية. ليس الحديث عن عمل ايستوود مخرجاً بالمسألة السهلة، لأن الرابط التيماتيكي اشتد أكثر فأكثر بين اعماله. فهذا الذي لم ينجز فيلماً سيئاً منذ أن مرّ خلف الكاميرا، يطغى على اعماله الغموض، وشيء من الصوفية أحياناً، وفكرة وجود شبح تعود باستمرار في سينماه. قدِّر مثلاً للمراهقين الثلاثة في "ميستيك ريفر" (2003) أن تعود إليهم أشباح الماضي بعدما تعرّض أحدهم لاعتداءات جنسية. الشبح، سواء في الوجوه أو الاصوات، هو ما يتكرر مثل اللازمة في "رايات آبائنا"، عبر استعادات زمنية، طويلة ومتتالية. ومما لا شك فيه ان ذكر جون كاربنتر في الحديث عن ايستوود، يحمل الكثير من الدلالات، لان الرجلين يتقاسمان الخلفية نفسها، إذ يُظهران الشغف نفسه للسينما الأميركية الكلاسيكية القريبة من هوكس وفورد. في أحد افلامه السابقة، كانت احدى الشخصيات تقول: "لكي نفهم الحياة يجب أن نتعاون مع الموتى". لعل هذه الفكرة لم تغب عن بال ايستوود عندما أراد نقل التجربة المأسوية والبائسة لجنود شاركوا في حرب ايو جيما. فهناك دائماً في البدء سرّ يتقاسمه الجميع إلا أنهم يتجنبون التحدث عنه خوفاً من إيقاظ أشباح الماضي. نادراً ما نجد في فيلم، كما في "رايات آبائنا"، هذا الانصهار الجميل بين الشكل والمضمون. يبلغ ايستوود اعلى مراتب الصرامة في الامساك بزمام الاخراج وادارة الممثلين، صانعاً لقيات سينمائية كبيرة. وفي مجال الخطاب النقدي، يبدو جلياً أنه شديد المعرفة والوعي والنضج، باعتباره يثق بالسينما كشاهدة على مآسي الانسان غير القابل للاصلاح، متسائلاً عن مسؤولياته كمخرج ازاء الصراعات الانسانية الكبرى. والاهم انه يعرف كيف يتحرر من الاعباء الايديولوجية التي تثقل عليه، متفادياً قراءة ما حصل في ايو جيما قبل نحو ستة عقود، انطلاقاً من وجهة نظره الحالية، لا سيما ازاء ما يجري في العراق (حتى لو كانت القضية برمتها تذكّر بتزوير الحقائق لتبرير غزو العراق). كذلك يسعى الى تحرير السينما الاميركية من آفة "الميثولوجيا" الحمقاء التي جعلت المارينز في فيلم جون واين يهبون نفسهم فداء للوطن وهم مسرورون. يعلم ايستوود جيداً ان معظم الجنود لا يذهبون الى الجبهة حباً بالوطن، بل لأنهم يتحدرون من مجتمعات ذات آفاق مسدودة، كالاميركي من أصل هندي الذي سيسقط ضحية النظرة العنصرية حتى بعد عودته من الحرب بطلاً مهزوماً. وهنا وجع آخر يدنو منه الفيلم. في مشهد شديد السخرية، نرى كيف ان الصورة التي كانت وظيفتها رفع معنويات الشعب الاميركي، تحولت حلوى ترمز الى الجنود الذين يرفعون العلم الاميركي. وعلى وجه قالب الحلوى، يمكن الجنود اختيار نكهة الصلصة التي يريدونها. لم يكن ايستوود لاذعاً الى هذا الحد من قبل. الرجل الذي تولى كشف حقيقة الاساطير الاميركية وتعرية الشخصيات، يطارد وجه الجندي العادي الذي يحافظ على انسانيته مهما يحصل ورغم تورطه في اكثر المهمات الوطنية عنفاً ودماً وقتلاً. كذلك يسعى الى انقاذه من قلب العاصفة الاعلامية التي تحوّله شيئاً رخيصاً في يد السلطة، محاولاً تحديد ملامحه عبر ما نجد فيه من نقاط ضعف لا من خلال ما كتب على جبينه من شجاعة. لكن، من الضروري ان لا تسيطر علينا السذاجة التي تجعلنا نعتقد ان هذا الدرس في التاريخ الاميركي، هو مرافعة او ادانة للفكر الاميركي. فايستوود اميركيّ، ولا يفعل الا العودة الى صفحة من كتاب تاريخ بلاده الدموي، ويؤمن أنه يجب عدم قلب هذه الصفحة قبل ان يفهم ما الذي نتج منها، وما الذي حصل. وهذه إحدى وظائف السينما التي تحثّ على عدم الاقتناع بما نراه بالعين المجردة. عبر انعكاس وجهات النظر المتتالية، يدعو "رايات آبائنا" الى التدقيق في كل ما نسمعه ونراه، ولا سيما في صحة الصور، حتى قبل النظر اليها، إذ لعلها وسيلة جهنمية للتحكم بالعقول. ويذهب ايستوود ابعد من هذه التأملات في صناعة التاريخ والاسطورة الاميركيين، من خلال اتاحة الفرصة للمعسكر الآخر للاتيان بنسخته الخاصة للصراع، في "رسائل من ايو جيما"، الذي ننتظره على أحر من الجمر في صالاتنا قريباً. وبه يكون اكتمل الموزاييك وصارت الصورة في ذهننا وذهن ايستوود أكثر قرباً من الحقيقة، التي تبتعد كلما اقتربنا منها. هوفيك حبشيان hauvick.habechian@annahar.com.lb (•) يُعرض في سلسلة صالات "أمبير" و"سينما سيتي". النهار اللبنانية في 31 مارس 2007
|