سينماتك

 

لقطة متحرِّكة تفتح فمها بعد أن تتكلم

سينما ... وداعاً لِفِلليني إعجاباً به وعتاباً له*

عبدالله حبيب

 

 

 

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

 

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

 

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

 

أرشيف

إبحث في سينماتك

 

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

 

سينماتك

 

“لقد تشكَّل فِلليني في إيطاليا الفاشيَّة الجاهلة والغبيَّة. وعلى الرغم من ان فِلليني كان معادياً للفاشيَّة عندما كان عليه أن يكون كذلك، ولا يزال كذلك بالطريقة الأكثر رجولة وديمقراطيَّة، إلا ان تشكُّله الثقافي يبقى محليَّاً في الأصل. إنني أجد انه من الصعوبة قبول القاعدة الأيديولوجية ثنائية الجذر من المحليَّة/ الكاثوليكيَّة التي يعمل فِلليني تحت علامتها العابسة”، هذا ماقاله عنه بازوليني Pasolini  في “كاثوليكيَّة فِلليني اللاعقلانيَّة” (1960). 

 

عزيزي السيد فِلليني Fellini

سيظل 31 أكتوبر 1993 يوماً مشؤوماً بالنسبة إليَّ، فقد مُتَّ فيه.  كم أنا حزين، إذاً، وكم أتمنى لو أن ذلك اليوم المقيت لم يحدث. 

كان أمر رحيلك يتعلق حتماً بأحد مشاهد أفلامك التي لا نسمع فيها غالباً وقع أقدام الشخصيَّات/ الممثِّلين، فقد كنت تراهن بعناد على حضور اللاوعي السَّمعيِّ وأُذن العقل لدى المُشاهد أكثر من مراهنتك على الوعي الخارجي بالوجود وتسطيح العلاقة بالعالم ممثَّلين في الأذن الفيزيقيَّة و”طبلتها” الفارغة؛ إذ ما الداعي لسماع وقع الخطوات ما دامت كائنات المبدع تتحرك بصريَّاً على الشاشة رأساً باتجاه عيني المتلقي وأغوار قلبه وعقله معاً؟

ترى ماذا سيضيف وقع الأقدام إلى خطوات الصورة، خاصة إذا ما كانت معنيَّة بالحلميِّ والشِّعري في المقام الأول؟. ما الداعي لما هو نافل حقَّاً، بل ومضاد فلسفيَّاً للغرض الجماليِّ النَّازع جوهره إلى ما وراء الحاسَّة المباشرة، وإلى ما هو تحت الخارجي، وما هو وراء من يُري وخلف ما يُرى، في الخلق السينمائي؟

هكذا بالضبط، ونكاية بك، أراد الموت أن يعاملك بعد أن كادت مماطلاتك وتلكُّؤاتك وتسويفاتك تفرغ انتظاره من الصبر.  بَيْدَ ان الموت، ربما من حيث لا يعلم، وعبر ما يشبه إلى حد بعيد تقنية المشهد المعكوس (reverse scene)، قد تحوَّل بذلك إلى أن يكون إحدى شخصياتك. لكن على رُسْلِكَ، حيث ان ذلك لا يعني انك - وأنت أحد كبار “المخرجين الدِّكتاتورات” - قد أصبحت في موقع السيطرة والتحكم؛ ذلك ان السِّحر قد ارتدَّ أخيراً على السَّاحر. لقد اقترب منك الموت تدريجيَّاً، متنكراً في زيٍّ صارخ البهرجة استعاره قطعاً من أحد كائناتك في “جولييت الأرواح” (1965). وكلما اقترب منك اقتربت الألوان من الأسلبة   (stylization)  إلى حدٍّ ما (مثل لون بحر متموِّج من مخمل غامق الزرقة يتلاطم في الأستوديو الذي كان، وليس الموقع الطبيعي، مكان التصوير الأثير لديك، مستفيداً في ذلك من تجربة التعبيريين الألمان سعياً وراء أكبر قدر ممكن من التحكُّم الإيحائيِّ بالإضاءة والألوان والديكورات المُرمَّزة أساساً)، والتي استعملتها في رائعتك “وتبحر السفينة” (1983)، لكن من دون أن نسمع حيزوم الموت وهو يشقُّ صدر الماء هذه المرة.  هكذا تقدَّم وحيد القرن - الذي أرى انه كان البطل الحقيقي لفيلمك ذاك- بلا وقع أقدام على الإطلاق، على عكس ما يحدث في السينما الواقعيَّة التقليديَّة (أعني، طبعاً، تلك التي ليست لها أدنى علاقة بالواقع)، وبلا وقع أقدام مضخَّمة كما يحدث في سينما التشويق والإثارة (أعني، طبعاً، تلك التي لا تثير سوى من خمدت ثورة المخيلة لديهم).

ومثل رِتشَرد شتراوس Richard Strauss  الذي مَوْسَقَ نبوءة نيتشه Nietzsche  في “هكذا تكلم زرادشت”، والذي قال على فِراش الاحتضار انه يتمنى لو أمهله الموت قليلاً كي يتمكن من أن يؤلِّف سِمفونية عنه، صرَّحت بما يليق بك من نبوءة في فترة النقاهة القصيرة من السكتة الدماغيَّة التي ألمَّت بك في أغسطس/آب 1993 بأنك ستصنع فيلماً عما حدث لك؛ فتلك هي الطريقة الوحيدة التي ستمكِّنك من استيعاب التجربة.  ولا شك انه لأجل ذلك تحديداً، ولأغراضٍ محضِ جماليَّة، رحتَ في غيبوبة ماكرة وعميقة هي، في “الواقع”، تخابثٌ نموذجيٌّ منك، ومحاولة لتضليل الصحافيين المتطفِّلين (أنتم أيها الإيطاليون لديكم لهم اسماً دقيقاً وفريداً عمَّمْتموه على سائر اللغات: “Paparazzi”، وقد شهدنا بعض صنيعهم في فيلمك “الحياة اللذيذة” (1960)، ذلك ان تلك الغيبوبة كانت، في الحقيقة، رحلة عمل لمدة أسبوعين صنعت خلالهما سرَّاً فيلمك الأخير. أتذكر انك قلت في حوار صحافي قديم انه لم يحدث ابداً أن شاهدت أحد أفلامك في عرض جماهيري.  هذا بالضبط ما يميِّز فيلمك الأخير عن أقرانه، فقد كنتَ كل جمهوره، مُشاهده الوحيد، والشاهد الأوحد على عبثيَّته ولاجدواه على الرغم من جماله. ها هو الموت، بطل الفيلم وموضوع خلاف قديم نشب بينك وبين بيرغمَن Bergman عندما كانت هناك نيَّة في 1968 لإخراج فيلم مشترك لم يُكتب له أن تراه العين حيث اعتقد كل منكما انه أعمق فهماً له من صاحبه (أستطيع أن أخمِّن ان صاحب “الختم السابع” (1957) الذي رأى الموت فيه مُشَخْصَنَاً في هيئة لاعب شطرنج حاذق مُتَّشحٍ بالسواد لم يوافقك على ان الموت أيضاً ليس إلا موضوعاً للفنتازيا)!.. ها هو الموت، إذاً، يتقدم لكن من دون أن تسمع خطاه.  كانت عيناك مغمضتين بطمأنينة وأنانيَّة احتكار الرؤيا على حدٍّ سواء.

الضباب تجربة وجودية

ترى ماذا كنت ترى في تلك المَشاهد الغائرة، “غير المعقولة”، الضبابيَّة (ما دمت تقول دوماً ان “الضباب تجربة وجوديَّة عظمى”)، والتي لا يجمعها قاسم مشترك سوى السُّخف البديع، والدهشة، وزيادة الأشياء على حدَّها بالمعنى الإيجابي للعبارة، ومنطق السرد غير الخَطِّيِّ؟. أراهن أن مهرِّجي السيرك الذين تعلَّقت بهم منذ طفولتك، وهربت من بيت أسرتك لتلتحق بهم لبضعة أيام في صباك، والذين أصبحوا لاحقاً موضوعاً حنينيَّاً لواحد من أعذب أفلامك، “المهرِّجون” (1970)، قد استأثروا بواحد على الأقل من مشاهد الفيلم الأخير.  لا شك انه مشهد مؤثِّر، بمعنى انه لا يفتقر إلى حساسية الحزن الخالص التي تحضر على استحياء وتورية في أعمالك السابقة، فقد أراد المهرِّجون أن يداعبوا صديقهم ويروِّحوا عنه إذ السُّبُل على وشك الافتراق الأخير، وإذ صالة السيرك السِّحري على وشك الإقفال النهائي، وبطريقة لا تستطيع السُّخرية معها أن تتسلل إلى المشهد حتى عبر الأقنعة ذات الابتسامات الواسعة (أتذكر الآن أنك قَرَنْتَ من يستطيع إضحاك الناس بالقدِّيس).

أثق بالكامل كذلك في ان مشهداً آخر يتعلق بصالة سينما تعرض فيلماً يتكون جمهوره من مشاهدين اثنين فقط: امرأة شبقة (تذكِّرني هذه المرأة، بالمناسبة، بما بحتَ به في أحد حواراتك الصحفية حول مزاجك المتعلق بذلك)، ومراهق ترك كل المقاعد الخاوية في الصالة ليجلس- هكذا بتعمُّد البراءة - على المقعد المجاور لمقعد المرأة وذلك في فيلمك الفاتن “أماركورد” (“أتذكر” 1973)، ولا أدري إن كان لذلك المشهد تحديداً علاقة بتجذِّر شعوري برغبات إيروسيَّة عارمة كلما أطفئت الأنوار في صالة العرض.

ولن يخسر رهاني الثالث على ان مشهداً آخر يخص بالضَّرورة روما القديمة؛ روما الأبديَّة غير الخالدة، غير المقدَّسة، ومُعادة الأسطرة، حيث “الغروتسك” المتجلي في اللحم والرغبات الآدميَّة والبهيميَّة يمتزج بصوتك وأنت تقوم بدور الراوي الغائب، كما في فيلمك “ساترِكون” (1969) الذي أنجزتَه في فترة إعجابك من بُعد بحركات “الهيبيِّين” التي كانت في أوج صعودها السياسي والثقافي في أمريكا وأوروبا، وبعد تجربتك التضامنيَّة الرمزيَّة مع أنواع من عقاقير الهلوسة، لكن تحت اشراف طبيٍّ، وليس كغيرك تحت رحمة الشارع ومطاردات البرد والمطر والشرطة في البرهة المفصليَّة تلك من تاريخ الغرب الحديث (لا أدري، بالمناسبة، لِمَ تحفظتَّ دوماً في الحديث عن تجربة الهلوسة تلك، وأنت صاحب المواقف الساخرة من سائد الأخلاق والقيم).

ربما أسرَّ لك الموت ببضع كلمات كان بعضها يصلك قبل أن يفتح فمه، وأخرى تأتيك بعد أن يفرغ من تلفظه، وذلك انسجاماً مع علاقة اللاتزامن التي أقمتها بين الصوت والصورة؛ ذلك انه حتى بعد أن توفرت السينما الإيطالية على إمكانات تقنية متقدِّمة في التسجيل الصوتي السينمائي المتزامن مع التصوير ظللتَ مصرَّاً - مع قلَّة من سينمائيين آخرين كل لأسبابه الفنيَّة والفكريَّة الخاصَّة- على تسجيل الحوارات الفعليَّة بصورة منفصلة، وبعد الانتهاء من المونتاج البصري أحياناً، وذلك رغبة في الحصول على ذلك التأثير اللاواقعي، الكوميدي بمسحةٍ سوريالية الذي يخلقه اللاتزامن بين الصوت والصورة.

اللقطة المتحركة

دعني أقول لك ان رحيلك كان أشبه ما يكون باللقطة المتحركة (traveling shot) التي تسحرني كثيراً في السينما؛ ذلك انها، ضمن أسباب أخرى، توفر تتبعاً تفصيليَّاً وكليَّاً صارماً لموضوعها.  وبعد استخدامات تروفو Truffaut  الاستثنائية لها في فيلمه “400 ضربة” (1959)، والتي عملت باعتبارها تعبيراً تقنياً عن توق الصَّبيِّ- بطل الفيلم - للحرية والانطلاق، لا أجد استخداماً لها أكثر حنكة مما فعلته في أحد أكثر فيلميك أوتوبيوغرافيَّة وباروكيَّة على الإطلاق، “ثمانية ونصف” (1963)- أحقَّاً، بالمناسبة، انك اخترت هذا العنوان الغريب لأنك “اكتشفت” اثناء قيادتك السيارة خلال فترة عمل الفيلم ان مجموع إنجازك السينمائي حتى ذلك الوقت كان قد بلغ ثمانية أفلام ونصف؟ أعلم ما يفصلك عن تروفو وما يجمعك به، وما يعجبك وما لا يعجبك في سينما الموجة الجديدة الفرنسية.  أدرك كذلك ان استخدامات اللقطة المتحركة في تلك المدرسة ترتبط أساساً بالحرية التوثيقية المطلقة للكاميرا ضمن معطيات مدرسة السينما الحرة وتنظيرات غودار Godard  لاستخدامها في الأفلام الروائيَّة رغبة في الإمساك بالواقع في حركته “المتحركة” أبداً، وفي حرارته.  لكن ما يشدني في استخدامك للقطة المتحركة في “ثمانية ونصف” هو انها عملت باعتبارها معادلاً جمالياً/ تأويليَّاً خلاقاً لثيمة الفيلم، في كونها مثالاً ساطعاً على استحالة الفصل بين الشكل والمضمون؛ ذلك أن ممثِّلك الأثير وصديق عمرك ماستروياني Mastroianni الذي يقوم بدور مخرج سينمائي قَلِقً (نعرف انه أنت في الحقيقة)، محاصَر بعدد هائل من الأفكار والهواجس والأحلام والاستيهامات التي تربكه في اختيار ما يصلح منها لإنجاز فيلم (فيلم في فيلم، مُخْرِجٌ يُخْرِجُ مُخْرِجَاً، الفيلم باعتباره بياناً وتعليقين بصريين بخصوص السينما، بكلماتٍ أخرى، إذاً)، يَجِدُ، من وجهة نظر الراوي، معادلاً لقلقه في اللقطات المتحركة التي تطوف معه ومن حوله وفوقه وتحته، ملتقطة من الواقع والمخيلة ما لذ لها وطاب، وما لا لذَّ للمخرج ولا طاب، من وجوه وملامح وأشكال بشريَّة ومكانيَّة؛ أي انها لقطات ذات حدَّين، فهي، من ناحية، تُقْلِقُ المُخرج وتربكه وتحيِّره (أو انها تفعل ذلك للمُخرجَين، إن شئت).  ومن ناحية أخرى فإنها تشاركه بإخلاص ارتباكه وحيرته و''حركته” في دفق الواقع الفائض المحيِّر، والمتلاطم.  هكذا أسقط في يد الذين يدَّعون ان الشكل شيء بينما المضمون شيء آخر وكأنه يمكن للقلق، مثلاً، أن يبوح بنفسه عبر لغة غير قلقة.

قد لا يعنيك شيء من هذا كله، ولا بأس في ذلك على الإطلاق.  لكن، من جهتي، يعنيني تماماً أن أثير ما يهمني من أسئلة.  وفي الوقت الذي تتحول فيه صورتي ، باعتباري هويَّة ثقافيَّة وحضاريَّة، في ثقافتك إلى نموذج لكل ما هو مضحك، ومخزٍ، وشائن، و”سوريالي” بصورة أبعد ما تكون من “براءة” الإبداع، فإن طرح الأسئلة يغدو أكثر إلحاحاً.

وجهه مهشَّم

اسمح لي أخيراً أن أستعين بقدرة السينما الاستثنائية على استدعاء الأزمنة والأمكنة والوجوه وتكثيفها، وذلك لأصمِّم مشهداً يعود فيه ألبرتو مورافيا Alberto Moravia  لإلقاء النظرة الأخيرة عليك. لا شك انه سيتذكر لدى رؤية وجهك انه قبل تسع عشرة سنة من تاريخ وفاتك، عندما هرع إلى المستشفى بعد أن علم بالاغتيال، ورأى وجه بازوليني Pasolini  المختلطة اشلاؤه بعظام الجمجمة المهروسة، صرخ:  “رجال بلا وجوه قتلوا رجلاً ذا وجه”. يكمن عزاء هذه الرسالة في انها لم تُرِد أن تخدش وجهك لأنها، بنفس درجة الإرادة، لا تريد لصورة وجهي أن تُخْدَش.  وعزاؤنا جميعاً انه فيما يتعلق بكل وجوه الحياة والموت، تلك التي تتبادل الملامح بصورة غامضة، لا يمكن فصل أسئلة وهواجس الخلق والإبداع عن أسئلة وهواجس الهويَّة والحريَّة.  لا يمكن ذلك أبداً، أبداً، أبداً.

تقبَّل، أيها السيد العزيز، إعجابي بك، وحزني لرحيلك، واستيائي منك.

لص بغداد

لست هنا بصدد أن أستلَّ سيفي “دفاعاً عن العرض”، غير انه لو كان ذلك واحداً من مشاهد “لصُّ بغداد” (بنسخه الأمريكية والإيطالية المتعددة)، مثلاً، أو غيره من كلاسيكيات هوليوود الرخيصة لهان الأمر قليلاً- قليلاً فقط.  ولكن أن يُراد لنا نحن العرب، ثقافةً وصورةً للثقافة معاً، أن نكون “المسيحيين” المثاليين في عصر هيمنة الغرب “العلماني”، “العقلاني”، “الديمقراطي”، “الحضاري”، وذلك بأن نتلقى صفعة الغرب المحافظ على الخد الأيمن (كما في “علي بابا يذهب إلى المدينة” (إخراج ديفِد بتلر David Butler، 1937 مثلاً) لندير للغرب البديل خدنا الأيسر (كما في “أماركورد”، مثلاً، للأسف)، وأن يكون ذلك مشهداً رئيساً في فيلم من صرَّح مخرجه مرة بأن أكثر ما يشدُّهُ هو البراءة، وأكثر ما يكرهه هو الغباء، فإن الأمر مدعاة لمساءلة لا تقتنع ب”البراءة” بوصفها مبرراً جماليَّاً مجَّانيَّاً، لأنها ببساطة لا تفترض “الغباء” في من يُبَرِّر، ذلك انه حتى ولو لم يتعلق الأمر بأغراض في نفس فِلليني (وفي نفسِ فِلليني أغراض لا يعلن عنها عادة حيث مقولته ونصيحته الشهيرتين هما “لقد وُلِدُّتُ كذَّاباً بالطبيعة” و”عليك ألا تقول الحقيقة أبداً”)، فإنه حتماً يخص أغراضاً في نفس آليات ووسائل خطاب الاستشراق الذي تطوَّعت أن تكون إحدى أدواته الثقافية، إذ انك لم تجد في كل حضارتنا، وثقافتنا، وتاريخنا (السوريالي أكثر من أكثر أفلامك سوريالية، بالمناسبة)- وأنت المغرم بإعادة كتابة التاريخ بصورة جماليَّة وشخصيَّة - سوى ذلك الكلاشيه الفجِّ والمُهين، والذي تتوجه به في اعتباطيَّة لا تليق البتَّة بحساسيتك النقديَّة ونزعتك المعروفة في إعادة قراءة الأشياء، وذلك نحو تَزَلُّف عقليَّة المُشاهد الغربي السائد وذوقه الثقافي والسياسي الذي لم تجبله سوى واحدة من الموضوعات الأثيرة لهجومك الساخر والمرير؛ أعني الثقافة الاستهلاكيَّة التي- يا للمفارقة- صرت تستعطف رضاها في مشهدك ذاك. نعم، إنها نفس الثقافة التي، في ما يخص السينما والإعلام، ليست براء من الإسهام في تحريض الجرائم العرقيَّة والموجة العنصريَّة المتفاقمتين خلال هذه الفترة ضد العمَّال والمهاجرين العرب في إيطاليا وسائر أوروبا.

هذه المقالة/ الرسالة واحدة من مواد كتاب بعنوان “نظرة، نجمة بدويَّة، استشراق، أحلام، وأفلام” الذي سيصدر للكاتب قريباً.

الخليج الإماراتية في 31 مارس 2007