أيمن يوسف |
صفحات خاصة
|
لعل الصفة الأهم التي تتميز بها السينما المستقلة أنها لا تخضع لشروط وإملاءات الانتاج الضخم الذي تتحكم فيه كيانات مؤسسية كبرى لديها معاييرها المعروفة على صعيد التوزيع ونوعية المواضيع بل حتى التدخل أحياناً في طريقة التنفيذ. في المقابل يمنح الانتاج المستقل الحرية الكاملة لمخرجيه في اختيار مواضيعهم وقضاياهم والتعبير عن همومهم وأحلامهم في صورة صادقة غير سابقة التجهيز، بعيدة من تأثيرات التيار التجاري السائد وقريبة إلى حد التماس مع هموم جيلهم وأحلامه. وهنا نظرة على بعض انتاجات السينما المستقلة لهذا العام. الفيلم الروسي «رجل اللاعودة» للمخرجة الشابة كاتيا غروكوفسكايا يناقش مشكلة انعدام التواصل بين الأجيال المختلفة، والفجوة بين جيل الآباء والأبناء التي تزداد اتساعاً مع صعود تيار العولمة ومعطياتها ومتطلباتها. فالأب هنا، ضابط عسكري متقاعد، لا يستطيع التخلص من روح العسكرية الصارمة حتى في علاقاته الأسرية، فيطالب ابنه الشاب بالسير على خطاه وهو ما يرفضه الابن الذي يريد أن يعيش حياته العادية المتحررة لشاب في مثل سنه ما يدعو الأب لطرده خارج المنزل. الفيلم الياباني «14 سنة» للمخرج هيروسوي هيروماسا يتمحور أساساً حول سوء الفهم السائد بين جيل المراهقين وجيل الراشدين وكبار السن وحول عدم الحساسية التي يتعامل بها الكبار مع هؤلاء البراعم وعدم الانصات إليهم ما يؤدي في نهاية الأمر إلى التمرد والمواجهات الساخنة، فتطعن طالبة في الرابعة عشرة مدرستها المتغطرسة، ويقوم طالب آخر بإطلاق الرصاص على ضابط أمن بعد أن يسرق سلاحه فيما يكن موظف شاب في مصلحة الكهرباء حقداً عميقاً لمجتمع الكبار لأن أحدهم قضى على موهبته وحطم حلمه في أن يصبح عازف بيانو واعداً عندما كان طالباً في الرابعة عشرة ما جعله يفعل الشيء نفسه في طالب موهوب آخر. قهر المرأة ثلاثة أفلام تناولت في مطلع هذا العام وفي صور مختلفة موضوع العنف ضد المرأة: المخرج البرازيلي كلوديو أسيس يقدم في فيلمه «رجال كالحيوانات» نماذج للمرأة المقهورة في منطقة برازيلية نائية أهمها فتاة شابة تعيش مع جدها متصلب المشاعر الذي يسخرها للقيام بأعباء المنزل طوال النهار، أما في المساء فيجردها من ملابسها لتقف عارية تماماً لبعض الوقت أمام عمال في أحد المشاريع المجاورة ويتحصل على مقابل مادي ممن يرغب منهم في لمسها فقط، وذلك في الوقت الذي يمنعها من مقابلة صديقها الذي يحبها بصدق ويريد الارتباط بها. هذا إضافة إلى أن بعض شباب القرية يتصيدون أي امرأة شابة عادية أو محترفة ويعاملونها بإذلال ومهانة وكأن رجولتهم لن تكتمل إلا بهذا الأسلوب المتوحش. الفيلم الفرنسي الإيطالي المشترك «نهاية البحر» للمخرجة الأميركية نورا هوب يتناول الفكرة ذاتها لكن من خلال ظاهرتي الاتجار بالبشر والهجرة غير الشرعية اللتين تفقد المرأة بسببهما كرامتها وآدميتها إذ تُعامل كسلعة مدفوعة الأجر لا أكثر. والفتاة القروية الساذجة التي تغتصب العاصمة براءتها وتعصف بأحلامها البسيطة هي الفكرة الرئيسة للفيلم الماليزي «الحب يقهر كل العقبات» للمخرجة تان تشوي موي الذي تنزح فيه امرأة شابة بريئة إلى كوالا لامبور من أجل البحث عن حياة أفضل فيلتقطها أحد القوادين ويستغل براءتها الفطرية بعد أن يوهمها أنه يحبها بشدة ولا يستطيع العيش من دونها، لتجد نفسها في النهاية عاهرة محترفة تواجه أصنافاً من المهانة والتعذيب السادي من بعض زبائنها. النقد السياسي كان له مكان بين أعمال المستقلين هذا العام، وذلك من خلال الفيلم الأرجنتيني «الهوائي» للمخرج استيبان سابير الذي يدين، في شكل كوميدي ساخر، الديكتاتورية والقمع السياسي والقيم الاستهلاكية السلبية المستجدة وأيضاً التراجع الثقافي. كل هذا من خلال شخصيته الرئيسة المرمزة مستر تي. في. الذي يحكم احد البلاد بقسوة ويتحكم في الصوت والصورة فيه. فكل أبناء هذا البلد من دون صوت، لا يستطيعون الكلام أو إصدار أية أصوات، وجميعهم يأكلون وجبات التلفاز التي يصنعها ويبيعها مستر تي. في. الذي لا يكفيه هذا بل يعمل على تصميم آلة تُشغل عن طريق التلفاز تجعل المواطنين خاضعين له إلى الأبد. ويتميز الفيلم بمستوى تقني مرتفع وهو صامت وأبيض وأسود وفيه تأثيرات من أفلام تشارلي شابلن السياسية وكذلك تأثيرات من بعض رواد السينما مثل إيزنشتاين ولانغ. مستقبل أفضل على رغم كل التحديات الاقتصادية والسياسية المعاصرة على المستوى العالمي لن يكون في وسع شباب العالم سوى الاستمرار في البحث عن حياة أفضل والسعي لتحقيق أحلامهم وهذا ما يقوله لنا الفيلم الآتي من جنوب أفريقيا «باني تشو» للمخرج الشاب جون باركر الذي يقدم أربعة نماذج من شباب جوهانسبورغ يكافحون من أجل تغيير وضعياتهم السلبية الحالية وعازمون على أن يوجدوا لأنفسهم مكاناً في هذا العالم اللاهث. يترك أحدهم مهنته القديمة كغاسل للصحون ويسعى لأن يصبح ممثلاً كوميدياً، الآخر يعشق الموسيقى والثالث متسكع غير مبال بأي شيء، يقررون معاً المشاركة في أحد المهرجانات الخاصة بموسيقى الروك في مدينة أخرى في محاولة لتحقيق أحلامهم المختلفة. موسيقى الروك نفسها هي المحفز لبطل الفيلم الفنلندي «الروك أند رول لا تموت أبداً»، لكي يصنع من نفسه شيئاً ذا قيمة، فأثناء فترات الهواية وقبل احترافه التأليف الموسيقي بقليل كاد ان ينزلق في الاعمال التجارية لكنه يتراجع بدافع عشقه موسيقى الروك وغيتاره الثمين الخاص الذي كان على وشك ان يقوم برهنه لمساعدة الأسرة التي واجهت أزمة مالية، وصمم على المضي قدماً في طريقة الصحيح وأصبح بالفعل أحد مشاهير الروك في بلدته. المخرجة المقدونية انيتا لنيكوفسكا تقدم تجربة مماثلة عن الإصرار على تحقيق الحلم من خلال فيلمها «هل الامر يجرح؟» وهو أول فيلم دوغما من البلقان، ويتواكب إنتاجه مع مرور عشر سنوات على إعلان مبادئ سينما الدوغما. المخرجة تصور نفسها وبعض أصدقاء كما هم في الواقع تماماً، فهي مخرجة لا تجد من يمول أول أفلامها أما أصدقاؤها فهم من الممثلين والمخرجين لكنهم هكذا على الورق فقط حتى اللحظة، حيث لم يجدوا الفرصة بعد لمزاولة مهنهم. تكذب انيتا على أصدقائها زاعمة أنها وجدت الممولين بالفعل وتطلب منهم ان يتحدثوا عن مجريات حياتهم أمام الكاميرا كخطوة من التحضير للفيلم، لكن تصبح هذه المشاهد هي الفيلم ذاته. بالقدر نفسه الذي به تنوعت مواضيع هذه الافلام تنوعت أساليب الإخراج بها وتفاوتت درجة جودته وقيمته الفنية من فيلم الى آخر، يأتي الاخراج في فيلم «رجل اللاعودة» ميلاً إلى الكلاسيكية البعيدة إلى حد ما عن أساليب السينما المستقلة، في المقابل تمادى فيلم «الحب يقهي» في الأسلوب شبه التجريبي بمشاهد أطول من الضروري لا نستطيع مساءلة المخرج عن إحساسه لكنها تبعث الملل في المشاهدين بخاصة أولئك الذين لم يعتادوا هذا النوع، فيما استحضر «الهوائي» أساليب عصر السينما الصامته لكن من خلال رؤية جديدة معاصرة. «نهاية البحر» كانت معظم مشاهده أقرب إلى لوحات مرسومة بدقة معتمداً الاضاءة الخاصة والتكوين ومشاهد الطبيعة الرائعة في تلك المدينة الساحلية الهادئة في ايطاليا وحافظ على ايقاع هادئ مناسب للمكان والحدث والشخصيات المحدودة به بينما أفلت الايقاع من صانعي فيلم «روك اند رول» إذ استسلموا للسرد المجاني. لكن اعتماد «باني تشو» لأنواع موسيقية عبر مشاهده منها الهيب هوب والريغي إضافة إلى تصويره الأبيض والأسود مع مشاهد أقرب الى الطبيعية غير المرتجلة، منحه اتجاهاً متجدداً وموفقاً شاركه فيه «هل الأمر يجرح؟». الحياة اللندنية في 29 مارس 2007
|