الخصوصية التراثية في السينما العربية بقلم : عدنان مدانات |
صفحات خاصة
|
احتلت إشكالية البحث عن ما يسمى مجازاً لغة سينمائية عربية ذات خصائص فنية تراثية قومية حيزا كبيرا من نقاشات السينمائيين العرب لفترة طويلة من الزمن. وقد عرفت السينما العربية بعض المحاولات لإنتاج أفلام روائية طويلة تقترب بهذا الشكل أو ذاك من التراث سواء من حيث الموضوع أو من حيث الشكل. وتبرز بشكل خاص ومبكر في هذا المجال تجربة المخرج المصري الراحل شادي عبد السلام في فيلمه القصير شكاوى الفلاح الفصيح، وكذلك فيلمه الروائي الطويلالمومياء اللذان انتجا في ستينيات القرن العشرين ويستفيد موضوعهما من التراث الفرعوني. وتجدر الإشارة أيضا إلى فيلم المخرج الجزائري مرزاق علواش مغامرات بطل (1974) الذي استفاد أسلوبيا من ألف ليلة وليلة، وكذلك يتميز الفيلمان التونسيان من إخراج الناصر خمير الهائمون (1984) وطوق الحمامة المفقود (1988)، بأجوائهما ومواضيعهما التراثية. على المستوى النظري، فإن مسألة الاستفادة من التراث في الفنون العربية المعاصرة من اجل تأسيس أو ترسيخ خصائص فنية عربية الطابع، تراثية الجوهر والشكل، فرضت نفسها على الإبداع العربي المعاصر بعناد كما لو أن القضايا التي تجابه الإبداع الفني المعاصر لا يمكن أن تحل من دون الإجابة عن سؤال الخصوصية الثقافية وأصولها التراثية منعكسة في الشكل الفني. ومن الواضح أن نقاش هذه المسألة على المستوى النظري المفهومي لم يستطع أن يحسم أو أن يجد إجابة وافية عن أسئلة أولية من نوع: أين يبدأ التراث، وأي تراث نريد، وما هي خصوصية هذا التراث بالمقارنة مع تراث الشعوب الأخرى؟ والأهم من ذلك: كيف يمكن الاستفادة من التراث فيما يخص كل حقل فني على حدة؟ وفي حين يعد بعضم أن التراث يعني الماضي (دون تحديد زمن هذا الماضي بدقة)، يرى بعضهم الآخر أن التراث ليس الماضي فقط، بل هو أيضا الحاضر بما هو امتداد للماضي وتأثر به، ولكن مع أخذ كل ما جرى من تطورات في الحسبان. كما إن هوية التراث بقيت دون إجابة واضحة، فهل هو فقط التراث العربي خاصة ، أم العربي الإسلامي عامة، أم هو خليط الثقافات التي تفاعلت تاريخيا في هذه المنطقة من العالم؟ وتكمن المعضلة الأساسية في كيفية الاستفادة من التراث (هذا إن تم تحديده والاتفاق عليه) في المجالات الإبداعية في حال عدم توفر خبرة تاريخية في المجال الإبداعي المقصود. بالنسبة للسينما بالذات، فإن الإشكال الأكبر يتجسد في أن هذا الفن معاصر ويقوم على أساس تقنيات علمية معاصرة نتجت في ظل العالم الرأسمالي، أو بالأحرى في ظل حضارة القرن العشرين، كما إن هذا الإشكال يتجسد في أن السينما اتخذت منذ بدايتها طابعا كونيا وطرحت نفسها كمشروع لغة عالمية خارج الخصائص القومية المستقلة. وهذه الإشكالية المطروحة أمام السينما العربية أكثر صعوبة وتعقيدا منها في مجال الفنون الأخرى، بالنظر إلى أن حداثة هذا الفن وتميز وضعه من حيث قوة تأثير التقنية الخاصة به على وسائله التعبيرية. وفي الواقع، فإن هذه القضية المثارة في مجالات الأدب والفن في العالم العربي أنتجت الكثير من المحاولات والاجتهادات المختلفة ذات الطابع التجريبي. فإذا ما تقصينا هذه القضية في مجال الرواية كمثال، فإننا سنجد أن المحاولات المتحققة تدور في محورين، الأول منهما هو محور اللغة، والثاني محور أسلوبي وبنائي. فعلى مستوى اللغة، فإن المصدر التراثي الأساسي هو الأساليب اللغوية والبلاغية في الأدب العربي القديم كما في استعمالات اللغة في نصوص القرآن الكريم. وعلى المستوى الأسلوبي العام، فإن تلك الروايات التي لجأت إلى التراث استمدت مصادرها من أدب المقامات وبنية حكايات ألف ليلة وليلة ومن بعض السير التراثية الشعبية. ووجد المؤلفون المسرحيون أمامه العناصر نفسها التي استخدمتها الرواية في بحثهم عن الشكل التراثي، واستكمل المخرجون المسرحيون هذه العناصر في تقديمهم للعرض المسرحي من خلال أشكال مستعارة من الاحتفالات والمواسم الشعبية والدينية وجلسات الحكواتي، إضافة إلى تراث مسرح الأراجوز. كما استمد الرسامون العرب المعاصرون تراثهم من الأشكال الزخرفية وفنون الخط العربي، فيما عمد آخرون إلى ملء لوحاتهم برموز معمارية وتشكيلية من نوع الكف والعين والخرز والهلال والقباب والمقرنصات وغيرها. أما السينما، فتجد الوضع أمامها أكثر صعوبة في محاولتها العثور على نموذج تراثي خاص بها وملائم لطبيعتها، يمكن أن يعطيها خصوصيتها القومية. ومع ذلك، يحاول بعض الباحثين في مجال السينما في العالم العربي إيجاد صلة وصل بين فن السينما المعاصر وبين شكل فني وتقنية قديمة شاعت في التاريخ العربي (مع أنها معروفة في حضارات آسيوية أخرى)، ألا وهي فن خيال الظل استنادا إلى واقع أن الشكل النهائي للعرض متشابه. ففي الحالتين يجد المتفرجون (أو النظارة، حسب المصطلح التراثي)، أنفسهم أمام عرض مرئي فيه خيال ممثلين يتحرك على الشاشة. وهذا الخيال يروي لهم وبمساعدة من الصوت البشري حكاية ممثلة. غير أن أولئك الباحثين يعجزون عن إيجاد صلة أعمق وأشد أصالة تجمع بين هذين الفنين، التراثي والمعاصر، ويمكن الاعتماد عليها لتطوير وسائل تعبير سينمائية تراثية الخصائص. هذا مع ملاحظة أن أوجه الاختلاف بين هذين الفنين هي أكثر بكثير من أوجه التشابه فيما بينهما. وأبسط مثال على الاختلاف أن السينما تقدم صورا شبيهة بالواقع إلى درجة الإيهام بحقيقتها. ويلاحظ أن المحاولات القليلة التي تمت في السينما العربية لإنجاز أفلام تستفيد من أشكال تراثية ارتكزت في أساس محاولاتها على التراث الأدبي بالدرجة الأولى، فبعضها استعار أسلوب ألف ليلة و ليلة في السرد، حيث تمتزج الخرافة والواقع، وحيث تقود الحكاية القارئ إلى حكاية جديدة تتداخل معها فيما يشبه التوالد الحدثي المتسلسل، كما استفادت محاولات أخري من صيغة الراوي في القص الشعبي، فيما اكتفت محاولات أخرى باستعارة الموضوع، أو الحكاية، من التراث. كما نجد في بعض الأفلام محاولات لتوظيف الموسيقى التراثية أو فن العمارة الشرقي. وهذا كله لا يتناقض مع إمكانيات السينما، بل على العكس من ذلك، فهو يتلاءم مع طبيعة الفن السينمائي من حيث هو فن تركيبي يستفيد من الفنون والآداب الأخرى السابقة عليه ويطوعها لصالح تقنيته وخاصيته الأساسية، خاصية الحركة في الزمان والمكان، وخاصية الإيهام بالواقع. وهذا يعني أن بإمكان السينمائي الباحث عن أشكال تراثية أن يستفيد من كل ما يمكنه من أشكال تراثية منفردة أو مجتمعة. غير أن حقيقة المشكلة وجوهرها لا يكمنان في إمكانية الاستفادة من الأشكال التراثية بحد ذاتها، بل في أن هذه الاستفادة لا يجوز أن تقتصر على استعارة الشكل التراثي، بل عليها أن تستنبط من الشكل التراثي عناصر جزئية بنائية تعبيرية دلالية تستمد قيمتها من كونها يمكن أن تتحول إلى رموز وعلامات تساعد على أن تطبع بطابعها المميز وسيلة التعبير السينمائية بخصوصيتها التراثية، أي أن الفيلم ككل وليس بعض عناصره فقط يعكس التميز الفني الثقافي. * ناقد سينمائي أردني الرأي الأردنية في 30 مارس 2007
|