حليم والسينما دلور ميقري |
صفحات خاصة
|
1 لعلّ فيلم " زوجة رجل مهم " ( إنتاج عام 1981 )، للمخرج المبدع محمد خان، كان متفرداً في تسجيل وثائقيّ، مؤثر، لجنازة الفنان الراحل عبد الحليم حافظ. هذا الأخير، المتوفي قبل ثلاثين عاماً، كان قد فجع محبّيه برحيله المبكر. وقد نقل لنا ذلك الفيلم مشهداً لبطلته ( ميرفت أمين )، وهيَ تتابع عبرَ جهاز التلفاز صوراً حقيقية لبعض المراهقات وهن يقذفن بأنفسهن، منتحرات، وقت مرور جنازة حليم الشعبية، الغامرة، تحت شرفات منازلهن. آهلَ فيلمُ محمد خان، ذاكَ، ذكرى الراحل الكبير من خلال مشاهدَ ضافية ؛ كما في لحظة قيام الزوج ( أحمد زكي ) ـ ضابط المخابرات ـ بإنتزاع شريط مسجل لأغاني حليم، كانت تستمع إليه بطلتنا، ثمّ تمزيقه بحقدٍ وتشفّ : إنه المشهد الميلودراميّ، الفذ، الما فتيءَ يستنهضُ دموع الفنانة ميرفت أمين، كلما أعادت مشاهدته ؛ بحسب إحدى مقابلاتها الصحفية. فنانتنا هذه، كانت آخرَ فاتنات الشاشة الكبيرة، ممن عمل معهن العندليب الأسمر في أعماله، البالغ مجموعها ستة عشر فيلماً. وعودة إلى موضوع جنازة حليم، لنلاحظ أنّ ردّ فعل جمهوره، النسائيّ، كان بالغ الشدة لدى صدمته بخبر الوفاة ؛ كما أثرناه آنفاً بخصوص الإنتحارات تلك. إنها مرحلة رومانسية، ربما إنطوت أبداً من حياة موطن النيل، فيما لو قارناها بحاله الراهنة. فما زال النقاش البيزنطيّ، العقيم، محتدماً حول سبب وفاة الفنانة سعاد حسني، ما دام " الشرع " لا يُجيز للمؤمن هدرَ حياته إنتحاراً ! كذلك أتحفنا حالُ المجتمع المصريّ، حالياً، بخرافة اخرى لا تقل خراقة، شاءَ مختلقوها أن يطعنوا بها ذكرى حليم، بالذات : لقد أعيدَ الآن، بمناسبة الضجة المرافقة للمسلسل التلفزيوني " العندليب "، الحديثُ عن جثمان الفنان الراحل، وأنّ أهله قد " إكتشفوا " أنه لم يتحلل بعد ـ كذا.. 2 حليم، كان ملحمة في حياته ورحيله، على السواء. وإذ إئتلف إسمه بالنغم والطرب والصورة والكلمة، فإن خلوده قد إستمِدّ من تلك الأسطورة، المنسوجة للبقاء والفناء. كان اليتمُ قدَرَ الوليد، الرقيق، الذي سُجّل في نفوس محافظة الشرقية بإسم " عبد الحليم شبّانة ". فما أن فتح عينيه على ضوء الحياة، إلا وغابت أمه، ومن ثمّ والده، في غياهب ظلمات الموت. لقد إبتدهت الأسطورة، الموصوفة، من هنا إذاً. الطريف، رغم مأساة الموقف، أنّ فيلم " الخطايا " ( إنتاج عام 1962 )، هوَ من ساهم في أسطرة جانب من حياة حليمنا : كان يلعب فيه دور " حسين "، الفتى الجامعيّ المتفوق، الحالم، وإبن الذوات، وله شقيق وحيد ( حسن يوسف ) يصغره سناً، يستحوذ لوحده على عواطف الأب الصارم ( عماد حمدي ). مع دخول " سهير " في حياته، كزميلة في الدراسة وحبيبة لاحقا ( نادية لطفي )، يتفاقم الشقاق بينه وبين والده. هذا الأخير، كان مصراً على أن تكون تلك الفتاة ـ وهيَ إبنة صديقه ـ من نصيب الإبن الأصغر. وعلى عادة الأفلام الرومانسية، سرعان ما تتعقد القصة بتداخل القرابة بعضها ببعض ! " حسين "، كما سيتبيّن لنا، كان لقيطاً مستجلباً من ميتم، وقد ظل يملي على البيت حياته، حتى رزقت الزوجة ( مديحة يسري ) بمولود مذكر. وبالرغم من أن قصة " الخطايا " لم تنتهِ هنا، بيدَ أنّ الجمهور كان من التأثر بهذا الفيلم، حدّ أنه حفظ في مخيلته ذلك المشهد، مماهياً إياه بحقيقة أنّ بطله، نفسه، قد نشأ يتيم الأبوين : هكذا ترسخ إعتباطاً في أذهان الكثيرين، وعلى مرّ الأعوام، أنّ عبد الحليم حافظ عاشَ في أحد مراكز الأيتام، وأنه ربما تهيأ له من يتنبناه، فنياً، ويرعى خطاه على طريق المجد، الطويل. وهذا يقود أسطورتنا إلى منحىً آخر. 3 منذ بداية مسيرته سينمائياً، أثبتَ حليمُ مقدرته ـ كممثل قدير. إنّ وجهه المعتل، المتعب، كان يضفي لمسة شاحبة من الرقة، العذبة، على قسماته الوسيمة بحق. وكذا الأمر، فيما يخصّ تعابيره وخلجاته، الرهيفة، والتي ضمنت له أداءَ أدواره جميعاً، من ميلودرامية وكوميدية، على المستوى نفسه من الإجادة والصدق والعفوية. كان مما له مغزاه، فعلاً، أنّ العمل السينمائيّ، الأول، المنذور لبطولة حليم، قد دارت قصته في حومةٍ شبيهة بحياته الحقيقية ـ كفنان مبتديء، سبق أن إكتشفه الملحن كمال الطويل : إنه فيلم " لحن الوفاء " ( إنتاج عام 1955 )، للمخرج محمد عمارة. ففي المحور هنا شخصية موسيقار كهل ( النجم حسين رياض )، تلعب بقوتها وهيبتها دوراً أساساً في إحياء موهبة مطرب ناشيء. هذا الأخير، الذي جسّده حليم في الفيلم، يقع في هوى مغنية شابة ( شادية )، صاعدة بدورها في سلم الشهرة. إلا أنّ ذلك الحبّ، يجد له خصماً، عنيداً، في شخص الموسيقار العجوز، بالذات ؛ هوَ المعاني من عقدة كراهية الأنثى بسبب خيانة زوجية، قديمة. ولكن، إلى الأخير، ينتصر حبّ الشباب، بعدما يعترف عجوزنا بعواطفه المتأججة للمطربة تلك، ويبارك من ثمّ زواجها بتلميذه. أربع سنوات، على الأثر، وعبد الحليم حافظ سيكون على موعد مع أحد أهم ادواره، على الشاشة الكبيرة، في فيلم " الوسادة الخالية ". ما كان مخرج الفيلم سوى صلاح أبو سيف، رائد الواقعية في السينما المصرية ؛ هذا الذي تعامل بحرفيته العالية وموهبته الفذة مع رواية إحسان عبد القدوس تلك، الرومانسية. إنّ عبد الحليم حافظ الآن في دور " صلاح "، الطالب الجامعيّ، المرح، الذي يلتقي بـ " سميحة "، زميلته على مقاعد الدراسة ( لبنى عبد العزيز )، ويهيم بها بشدة ؛ حدّ أنه يتجرأ على الذهاب إلى أهلها لخطبتها. يسخر هؤلاء من الشاب، وينصحونه بالتفرغ لإنهاء دراسته. إلا أنّ أهل الحبيبة، أنفسهم، ما يلبثون أن يكسروا قلب الشاب، حينما يزوجونها لطبيب ناجح. تمضي القصة في أجواء رومانسية، معتادة، فيلتقي " صلاح " بعد أعوام، مع حبيبته تلك، ليعلم بانها زوجة للطبيب ذاته، الذي ينقذ إمرأته من ولادةٍ عسرة ! هنا أيضاً، في هذا الفيلم، وجدَ للجمهور أجزاءً اخرى من الأسطورة " الحليمية " : روّج أهلُ الصحافة، المشغولون بالإثارة، حكاية ( الحبّ الأول ) لفنان الشعب، المحبوب، والأكثر شهرة ؛ وأنه كان قد عشق في صباه فتاة ـ إسمُها كذا ـ أضحت من نصيب غيره.. الخ. لقد ضافرَ من تأثير هذه القصة، المختلقة على الأرجح، أنّ " صلاح "، بطل فيلم " الوسادة الخالية "، كان مريضاً بعلة في معدته ؛ مما أوجبَ ذلك الإحالة إلى البلهارسيا، مرض عبد الحليم حافظ، الحقيقيّ المأسويّ. ما من ريبٍ، أنّ فناننا عرفَ الحبّ، كغيره من بني البشر. إلا أنّ معلوماتٍ عن حياته الشخصية، موثقة، لم تصلنا بعد، رغم العقود الثلاثة، المنقضية على رحيله. وفي الفترة الأخيرة، جرى التطرق إعلامياً عن علاقة زواج، عرفية، كانت قد ربطت حليم بسعاد حسني في سنوات الستينات. هذه الأخيرة، للمفارقة، لعبت دوراً سينمائياً، وحيداً، مع العندليب ؛ في فيلم " البنات والصيف " ـ كشقيقةٍ له ! لكأنما تلك العلاقة، المزعومة، بين الفنانيْن الخالديْن، هيَ تتمة للأسطورة المرتبطة بسيرتيْهما، سواءً بسواء. وبكل الأحوال، فإنّ الإشاعات عن عشق هذه الممثلة وتلك، وجدتْ لها دوماً مكاناً أثيراً لدى جمهور عبد الحليم حافظ. ربما أنّ إسم نادية لطفي، النجمة الجميلة، كان الأكثر تداولاً بهذا الخصوص ؛ هيَ التي لعبتْ مع حليم بطولة أهم أفلامه ؛ " الخطايا " و " أبي فوق الشجرة ". الفيلم الأخير ذاكَ، المنتج عام 1969، كان قد إختتم حياة العندليب، السينمائية. إنه أيضاً عن قصة لإحسان عبد القدوس، بالعنوان نفسه، أخرجها حسين كمال. إنها قصة حبّ، عارم، بين طالب جامعيّ وراقصة في ملهى. وعنوان القصة، مستلهمٌ من أسطورة حواء والشجرة المحرّمة، حيث الأب هنا ( عماد حمدي )، يقع في غواية الراقصة نفسها ؛ هوَ من سعى إليها لكي يحاول إقناعها بترك إبنه ذاكَ، الطالب الجامعيّ، والذي كان خطيباً لزميلة شابة ( ميرفت أمين ). كان مما له مغزاه، من ناحية اخرى، أن يُسجّل " أبي فوق الشجرة " أعلى إيراد في تاريخ السينما المصرية : لقد كان فيلمَ النجوم، حقا ؛ فيلمَ الإثارة أيضاً، بما ذخر به من مشاهد غرامية، لاهبة، على مدى مدة عرضه التي تقارب الساعتين ونصف الساعة : وإذا علمنا أنّ إحدى الفضائيات الخليجية، قد عرضت الفيلم نفسه في نصف ساعة فقط ـ بسبب مقصلة الرقابة ـ لأدركنا خراقة تلك القصة المختلقة، عن جسد حليم، المطهّر، الذي لم يتحلل بعد بيولوجياً إثر مرور ثلاثين سنة على رحيله ! هكذا، شاءَ قدرُ فناننا العظيم أن تنتقل سيرته من مراتب الأسطورة إلى مدارج الخرافة، ما دام زمن الإنحدار، حالياً، قد شمل السينما المصرية بسجوفه السميكة، القاتمة. موقع "إيلاف" في 29 مارس 2007
|