سينماتك

 

شريط «300» يستخدم التاريخ مطية للتشهير

قصة صراع الحضارات يعاد إنتاجها في إطار أسطوري

الوسط - نبيل عبدالكريم

 

 

 

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

 

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

 

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

 

أرشيف

إبحث في سينماتك

 

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

 

مقالات ذات صلة

سينماتك

 

الرقم «300» هو عنوان فيلم يعرض في السيف عن تلك المعارك التاريخية التي جرت قبل مئات السنين من ولادة السيد المسيح بين الحضارتين الفارسية والإغريقية.

الرقم يشير إلى عدد الجنود الاسبارطيين الذين تصدوا لهجوم جيش جرار وجبار ونجحوا في إنزال خسائر فادحة به وتوقيف زحفه لفترة زمنية حتى جاءت المساعدات والامدادات من المدن اليونانية كافة.

المشكلة ليست هنا. فهذه الواقعة حصلت تاريخياً إلا أن مخرج الفيلم تناولها في إطار أسطوري استخدم المعركة مادة للتهجم على الشرق وآسيا والشعوب غير الأوروبية في محاولة منه لإبراز جوهر التفوق الذي تمتاز به حضارة ضد حضارة.

هذا التناول البشع لواقعة تاريخية أثار غضب القيادة الإيرانية والكثير من المؤرخين والناقدين لأن فكرة الشريط السينمائي تحولت من سيناريو يستعرض واقعة عسكرية إلى خطاب أيديولوجي يشهّر بحضارة الفرس ويذم شعوب الشرق والحضارات الآسيوية مستخدماً تلك الألفاظ النابية ومصطلحات دأبت الكتابات العنصرية على ترويجها حين تتحدث عن مشكلة أو سوء فهم أو معركة.

سيناريو الفيلم مجبول بتلك المفردات البشعة من نوع «وحوش» و«همج» و«استبداد» و«عبيد» و»تخلّف» وغيرها من شتائم وصولاً إلى سبِّ «الصوفية» و«الصوفيين» و«التصوّف» من دون توضيح للعلاقة بين كل هذه المصطلحات ومعركة حصلت على هامش تاريخ صراع الأمم والحضارات.

لا شك في أن صاحب الفيلم حاول قدر الإمكان استغلال الحاضر لإسقاط تلك الطروحات على ماضٍ سحيق. ثم عاد من الماضي ليشن ذاك الهجوم المبطن على الحاضر انطلاقاً من مفاهيم «استشراقية» تريد الإيحاء أن العقل والعقلانية والمنطق والمنطقية وكل ما له علاقة بالإنسانية والتسامح والانفتاح والإدراك والوعي وحسن التنظيم هي صفات للغرب وأوروبا بدءاً من اليونان إلى الآن. وبالتالي فإن عكس تلك الصفات تعتبر بربرية وتوّحشاً واستبداداً وتخلّفاً وكلها من سمات الشعوب الأخرى التي تقع جغرافيتها خارج نطاق أوروبا.

هذا النوع من التقسيم المانوي للصفات وفرز البشر إلى معسكر خير ومعسكر شر يقصد منه إرسال إشارات راهنة عن استمرار ذاك الفرز حتى وقتنا الحاضر. وبسبب لجوء المخرج إلى هذا الأسلوب السخيف والسطحي في التحريض على الآخر والتأليب على المختلف لاقى الفيلم انتقادات واسعة وملاحظات جمّة من جهات مختلفة.

الفيلم ليس سيئاً في مشاهده التصويرية وبعض اللقطات المؤثرة إنسانياً ولكنه أساء استخدام تلك اللحظات التاريخية حين قام بربط الماضي بالحاضر وتضخيم الماضي إلى درجة أسطورية وعبثية بالغت في الحط من قيمة الخصم ورقيّه وتطوّره.

مشكلة الشريط السينمائي تكمن في قلة معرفة واضع السيناريو عن حضارات الشرق وآسيا وبلاد فارس. كذلك تبدأ المشكلة الأخرى وهي في استخدام ألوان البشرة للدلالة على الرقي والتقدم أو الانحطاط والتخلّف وهذا ما أسقط الفيلم في نزعة عنصرية شريرة وعدوانية.

الفرس عموماً ينتمون إلى العرق الآري (الأبيض) مثلهم مثل الأكراد والأتراك بينما العرب مثلاً ينتمون عموماً إلى العرق السامي مع اختلاط نسبي بالعرقين الآري والحامي (البشرة السمراء).

هذا التقسيم الجغرافي للأعراق فرضته الطبيعة ولا علاقة له بالذكاء والغباء أو التقدم والانحطاط أو التسامح والاستبداد... إلا أن واضع السيناريو استخدم نظرية الألوان العنصرية مادة للتحقير والحط من كرامة الآخر. فهو رسم تلك الحدود اللونية الفاصلة بين شعوب الشرق (آسيا والفرس) وشعوب اليونان فأظهر بشكل مضحك ومقرف الجيش الفارسي في وضعيات مختلفة سواء على مستوى البشاعة (أشكال غريبة) أو على مستوى اللون (سود) أو على مستوى ضعف التنظيم (قوة جرارة بلهاء وغبيّة). في المقابل أظهر جيش اسبارطة قوة صغيرة منظمة ومدرّبة ومنضبطة وواعية وعقلانية وتملك الاستعداد للتضحيّة بسبب أصولها النبيلة مقابل قوة ضخمة تفتقد كل عناصر الرجولة والبطولة وغيرها من مؤهلات تحتاجها الشعوب والجيوش للتفوق والانتصار.

كل هذه الترهات الأيديولوجية غاص مخرج الفيلم في تفصيلاتها مستنداً إلى معلومات ضعيفة ومستخدماً شعارات حماسية تحرّض المشاهد وتحثه على النهوض دفاعاً عن مخاطر جديدة تذكر بتلك المعركة القديمة.

المعركة كواقعة تاريخية حصلت وهي جاءت في سياق حضارة فارسية نجحت في التقدم والانتقال من طور الدولة - المدينة إلى طور الدولة الكبرى (الامبراطورية). وبطبيعة الحال حين تستكمل حضارة ما نموها تضطر إلى التوسع والامتداد في محيطها الجغرافي، وهذا ما حصل في عهد داريوس وابنه. فهما حاولا نقل نفوذ الامبراطورية من دائرة آسيا الوسطى إلى أوروبا التي كانت آنذاك غائبة عن التاريخ في معناه الحضاري باستثناء اليونان.

بلاد الإغريق آنذاك كانت أقل تقدماً من بلاد فارس. فهي مجموعة مدن منفصلة تعيش كل واحدة منها في ظل نظام مختلف عن الآخر. أثينا مثلاً اعتمدت الديمقراطية لذلك كانت المدينة منفتحة ومتسامحة. اسبارطة مثلاً اعتمدت النظام العسكري لذلك كانت مدينة منغلقة وغير متسامحة. بلاد فارس كانت أرقى تنظيماً حين نجحت في توحيد مدنها في ظل نظام قوي ومركزي يعتمد على ثقافات واسعة وممتدة على مساحة الامبراطورية الجغرافية.

هذا الاختلاف في التركيب بين ظروف الإغريق والفرس لاحظه الكثير من المؤرخين الذين تعرضوا إلى تلك الواقعات العسكرية بين الحضارتين وانتهت إلى انتكاسة الفرس وانتصار الإغريق ونجاح المدن اليونانية في الانتقال من مرحلة التفكك إلى مرحلة الوحدة.

كل هذا يعتبر من التاريخ، إلا أن مخرج الفيلم استخدم تلك الفترات مادة سياسية للتهجم والتحريض.

يبدأ الشريط السينمائي جيداً حين يعطي فكرة عن أسلوب المعاش والتربية والتدريب العسكري في اسبارطة واختلافه عن أسلوب أثينا التي تهتم بالفلسفة والشعر والأدب. وتبدأ اللقطات الأولى في تصوير الطرق التي يلجأ إليها الاسبارطيون في اختيار قواتهم من نخبة النخبة.

حتى الآن لا مشكلة مع سيناريو الفيلم الذي حاول المبالغة في تصوير محطات تربية الأطفال ليغطي ذاك التضخيم الاسطوري الذي أظهره المقاتلون (300 اسبارطي) في مواجهة الجيش الجرار.

بعدها ينتقل إلى مقدمات المعركة التاريخية. فالامبراطور الفارسي يوجه وفوده إلى المدن الإغريقية داعياً لها بالتسليم والاستسلام مقابل البقاء على قيد الحياة. مختلف المدن تخاف وتبدي استعدادها للتفاوض والخضوع باستثناء ملك اسبارطة الذي تدرب على عدم تسليم سلاحه أو الخنوع وقبول المذلة مقابل الاحتفاظ بعرشه. فأقدم الملك وبكل بساطة على قتل الوفد الفارسي الذي حمل معه الإنذار.

وهكذا تبدأ المواجهة، إذ يختار الملك 300 مقاتل من ذاك الصنف النادر. وبسبب تفوق الجيش الفارسي عددياً (مليون جندي تقريباً) لجأت اسبارطة إلى سياسة الاستدراج مستخدمة عقلها وتنظيمها واستعداد أبطالها للمغامرة والتضحية وهي صفات يفتقدها الجيش الامبراطوري المضاد كما يرى صاحب الفيلم.

وبناء على هذه الميزة الاسبارطية يضع الملك خطة تقضي ببناء السدود وقطع الطرقات على الجيش الفارسي لإجباره على السير في مضيق بحري ضيق ينتهي به إلى اضطراره إلى الدخول في ممر جبلي ضيق (عرضه بضعة أمتار). هذا الاستدراج استهدف التقليل من أهمية جيش ضخم حين يضطر إلى القتال في مساحة جغرافية صغيرة. وتنجح خطة الملك الاسبارطي حين استخدم المكان واسطة لتشتيت الجيش الجرار. فالقوات الضخمة عادة تحتاج إلى مساحة مفتوحة لاستيعابها وإظهار تفوقها وقدرتها العددية ولكن حين تكون المساحة مغلقة في ممر ضيق يصبح التفوق العددي لا قيمة له. وهكذا نجح النوع على الكم واستبسلت القلة في تكبيد خسائر للكثرة إلى أن تسقط كلها في أرض المعركة.

خلال هذه المواجهات تنتقل أخبار البطولات إلى مدن اليونان فترتفع المعنويات وتتغيّر المعادلات وتتبدل القرارات وخصوصاً حين تصل البعثة الاسبارطية للحث على الوحدة والمواجهة لمنع الخصم (المستبد، المتخلف، المتوحش، الصوفي) من التقدم والانتصار على حضارة عظيمة ومنفتحة ومتسامحة وعاقلة وعقلانية.

صمود جنود اسبارطة (300 مقاتل) ساهم كما يرى صاحب الفيلم في تعديل المعادلة ونقل الغرب من حال الدفاع والضعف والخوف والتردد إلى حال الهجوم والقوة والشجاعة والعزم وهذا ما بدأ يظهر في التاريخ منذ تسجيل ذاك الفوز الساحق على الفرس.

الفيلم إذاً يعتمد الأسطورة لتضخيم واقعة تاريخية ثم ينتهي أخيراً بخلاصات عقائدية وثقافية لتبرير تفوق أوروبا وحضارتها على تخلّف آسيا وشعوبها. وبهذا المعنى افتقد الشريط السينمائي الموضوعية وانتقل من دائرة العرض الدقيق إلى سياق سياسي يحرّض الشعوب على بعضها. هذا النوع من الأشرطة السينمائية ليس جديداً على أوروبا والولايات المتحدة. فهو يظهر دائماًَ في لحظات الشدة أو الهجوم لتأويل خلافات سياسية بطريقة ثقافية سخيفة وضحلة في معلوماتها وضعيفة في مخيّلتها. وفيلم (300) هو من النوع الأيديولوجي الذي اعتمد سياقات ثقافية فقيرة في رؤيتها وضعيفة في معلوماتها فجاءت النتيجة تروّج مفاهيم عنصرية ضحلة وغير واقعية وأقرب إلى الأسطورة منها إلى التاريخ.

الوسط البحرينية في 29 مارس 2007