بعد مسلسل «رجل في زمن العولمة» لنفس المؤلف المخرج
وائل الجندي |
صفحات خاصة
|
عند إحدي محطات النفق المظلم الذي دخلته الدراما التليفزيونية المصرية جرت وقائع جريمة فنية اطلق عليها «أسلحة دمار شامل» وهو اسم المسلسل الذي واصل به د. عصام الشماع ممارسة هواية الجمع بين الكتابة والإخراج والتي تأتي نتيجتها عادة بـ«السلب». كذبة بوش يحرص الشماع كما فعل في «رجل في زمن العولمة» علي اختيار عناوين رنانة تتماشي مع القضايا السياسية الكبري المطروحة علي الساحة وهو منهج سطحي تلفيقي غريب دفعه هذه المرة إلي اختيار «أسلحة دمار شامل» بعد ما ظن أن الكذبة الكبري التي ظل بوش - بطل تيتر المسلسل - يرددها قبل وبعد غزو العراق تصلح عنوانا جذابا، بينما المنطق وواقع الحال يؤكدان أنه صار عنوانا محروقا والأدهي أن عمل الشماع - وهو أمر كان متوقعا في ظل فساد منطقه - لم يتعرض أصلا من قريب أو بعيد - باستثناء لقطات التيتر - لقضية أسلحة الدمار!!، لقد بدا لي أن العمل قد مارس معنا - من خلال التيتر والعنوان وكذا المضمون - نفس الخدعة التي مارسها بوش مع العالم وأن هذا الرابط كان المبرر الوحيد لإطلاق هذا العنوان علي المسلسل! البحث عن رواية لا تسل عن رواية المسلسل أو حكايته فالمؤلف - بالأساس - لم يجهد نفسه بنسج رواية متكاملة أو صنع بناء درامي متماسك وإنما اكتفي بعمل كيان فني هش قام علي بطل «رمز» حوله تناثرت شخصيات عديدة تم تخليقها كي تنطق حواراتها - وهو الهدف الأساسي للكاتب - بآرائه وأفكاره بلغة مباشرة فجة، فالنص ومشاهده عبارة عن مواقف مصطنعة خارجة عن المنطق تدور دائما في فلك البطل د. يوسف، عالم النفس وصاحب مستشفي علاج الإدمان، وهو رمز الحكمة والعطاء والمثل الذي ظل يلقي بمواعظه علي الجميع منذ البداية وحتي النهاية وهو نفس الرابط الوحيد بين خطوط العمل المتناثرة وشخصياته المختلفة، وطبقا لهدف الكاتب فقد حرص دائما علي أن تتسع تلك المواقف المصطنعة التي شكلت حكاية النص الهشة لترديد الأحكام المطلقة والرؤي التنظيرية التي لم يميزها سوي تلك الزاوية العبثية التي سخرت من كل الأشياء ودفعت بكل الشخوص إلي «السقوط»، فيوسف - البطل - نفسه يسقط في بئر المذيعة التافهة ملوثة التاريخ «ليالي»، وحين يشفي من حبها نجده يسقط في هوي المطربة المبتذلة «لي لي»، والصحفي الذي يتعاون مع ليالي هو الآخر «ساقط»، فهو حسب النص رئيس تحرير أفاق يتاجر بآلام الناس ويهاجم الحكومة بشراسة علي صفحات جريدته نهارا بينما يتفق بليل مع إحدي المحطات الفضائية علي كتابة برنامج تليفزيوني رخيص وكأنه يجهل أن فعلته هذه ستشوه صورته الملتزمة التي حرص علي رسمها أمام الناس ولو زيفا!، عليك أن تصدق مثل هذه الترهة كي تقبل أيضاً بسقوط د.مصطفي «مساعد الدكتور يوسف» في بئر الإدمان، ولكي تتابع في استسلام تام السقوط المستمر الذي يمارسه جراح التجميل الأشهر «سراج» الذي يقضي كل ليلة مع امرأة مختلفة في شقة بعيدة عن عيني زوجته المخدوعة «سهام». شيطان العبث! شيطان عابث ظل وحده يحرك الأحداث والشخصيات وبدأ بدفع د.يوسف للارتباط بالمذيعة ليالي والزواج منها سريعا، برغم الفوارق النفسية والقيمية والثقافية بينهما وإذ يقفز ماضي ليالي المشين أمامها تدفع بيوسف إلي الابتعاد عنها بدعوي خشيتها عليه من ماضيها، ثم نجد الشيطان نفسه وقد أوعز إلي يوسف أن يقع في حب مطربة الكليبات إياها «لي لي» وكأن تجربته السيئة مع ليالي لم تعلمه - وهو عالم النفس المخضرم - سوي أن يسقط في تجربة أخري أكثر سوءاً!، كل شباب وشابات المسلسل كانوا - للحق - يتعاطون المخدرات .. وكأن مصر كلها استحالت غرزة كبيرة، وحين تفيق الفتاة المدمنة «دوللي» علي هذا الواقع الخانق نجدها تقرر بإصرار الإقلاع عن تعاطي المخدرات بل وتساعد حبيبها رامي - شقيق ليالي- علي الإقلاع عن التعاطي هو الآخر، وتدفعه في اتجاه الالتزام والاحساس بالمسئولية حتي يبدأ من جديد في بناء نفسه علي المستويين المادي والنفسي، إلا أن الشيطان العابث وقد أبي أن يترك للمنطق ولو فرصة وحيدة للتنفس «الدرامي» يجعل دوللي - ذات الفتاة الصلبة التي صنعت من رامي رجلا - تعود مرة أخري إلي الإدمان لمجرد أن رامي انشغل عنها بعمله الجديد، ثم إذا بالشيطان اللاهي يأخذنا علي حين غرة إلي واحة الرومانسية حيث تسيطر فجأة لغة المشاعر علي الثلث الأخير من العمل فتتقارب ليالي وسراج - طليقا يوسف وسهام - ردا علي تقارب الآخيرين علي الرغم من علم ليالي أن سراج زير نساء، وبرغم أنها - باعترافها- هي التي دفعت بيوسف بعيدا عنها، ووسط أجواء الهيام نفاجأ بصديقنا «العفريت» يدلف بنا في النهاية إلي مسرح جريمة بافتعال حادث مقتل المطربة «لي لي» الذي يأتي كمثير صادم يجعل البطل د. يوسف يفيق علي أصداء سقوطه وهو يطالبنا جميعا بأن نفيق معه، الخطوط الدرامية بالعمل كما تبين تمضي دائما إلي حيث الدائرة العبثية تبدو دوما خطوطا واهية كخيوط العنكبوت التي يمزقها سقوط مجاني يدين كل النماذج والشخوص في تعسف مفضوح، وقد استشعر الكاتب نفسه - وكذا شيطانه - مدي وطأة تلك الإدانة وسوداوية تحولات الشخصيات فقام - ذرا للرماد في العيون- بتطوير خط المدمن رامي، بحيث يصير نقطة مضيئة «استثنائية» بعد إقلاعه عن تعاطي المخدرات واستقلاله ماديا عن شقيقته ليالي واختياره طريق الالتزام والرجولة الحقة، إلا أن ما تناسها المؤلف هو أن هذا الشاب كان يمثل الشخصية الأبعد عن ذلك التطور، وذلك بسبب نشأته المرفهة وتدليل شقيقته الزائد له وكذا تاريخه المشين، أما الفترة التي اقترب خلالها رامي من الدكتور يوسف فلا تصلح مبررا لتحوله، وإلا لكانت بركات د. يوسف قد حلت أولا علي نفسه فحمتها من السقوط، كما أن تشجيع دوللي لرامي لا يكفي مبررا لقبوله العمل كمندوب «دليفري» بأحد المطاعم ! أما الدكتورة نهي - مساعدة يوسف - فقد تميز تطور خطها الدرامي بالمنطقية، حيث كان من الطبيعي في ظل ظروف تنشئتها وسمات أسرتها المحافظة أن تستجيب في البداية لمواعظ خطيبها الأصولي، كما كان طبيعيا أيضا أن تميل في النهاية إلي الخيار العقلاني العصري بفضل علمها وعملها والرؤي المستنيرة لأستاذها - د. يوسف - وكذا إيمانها برسالة مهنتها التي طالما سفه خطيبها من قيمتها، إلا أن هذا الجدل دائما ما تجسد - فقط - في إسار حوارات فكرية مباشرة وليس عبر مواقف درامية تمنحه الحياة والمصداقية، وبشكل عام اتسمت حوارات المشهد بالمباشرة وكانت أكثر المفردات ترددا - خاصة في مشاهد يوسف هي «الفساد، الفوضي، الأخلاق، التلوث» إلي آخره من المفردات ذات المدلولات الأخلاقية والقيمية الواسعة التي تثير امتعاض المشاهد خاصة مع تكرارها بشكل ممجوج، الاصنطاع غلف حوارات عدة مثلما جري في «ماستر سين» ضبطت خلاله سهام زوجها متلبسا بخيانتها مع «لي لي»، حيث جاء حوار سهام مع زوجها وعشيقته أشبه بخطبة مسرحية عصماء ضمن ملحمة مؤثرة، بينما كان المفترض ببساطة أن تنفجر الزوجة المخدوعة في وجه زوجها بكلمات قاسية مكثفة تلقائية دون تكلف، وبرغم ذلك اعجبتني بعض الحوارات بين نهي وتامر - خطيبها - حيث جسدت مدي التناقض بين دعاة العصرنة وأنصار الظلامية وكشف عمق الحوار في تلك المنطقة تحديدا عن تعمق المؤلف في دراسة وتحليل تلك المنطقة الفكرية. إيقاع رتيب وآداء محير اتسمت مشاهد العمل بإيقاع شديد الرتابة بفعل تقليدية الكادرات والقطاعات وبطء حركة الكاميرا وكذا - وهو المذهل - غياب «الميزانسين» أي حركة الممثلين تقريبا عن معظم المشاهد بدليل مشاهد مكاتب وحجرات المستشفي، ومشاهد نهي وتامر، ومشاهد العوامة وغيرها، أما فيما يخص الآداء فأتوقف أمام حالة هالة صدقي التي شعرت - ولأول مرة - بأنها كانت تعاني من «توهة» محيرة وغابت عنها في الكثير من مشاهد المسلسل تلك الروح الفريدة التي طالما ميزت اداءها الرشيق وأهمس في أذنها - بالنظر إلي مستوي هذا العمل - بضررة تدقيقها بشدة في خياراتها القادمة لأن خطوتها الفنية التالية ستحدد إلي مدي بعيد آفاق تواجدها الفني ومساحته، أما توفيق عبدالحميد فكان كعادته مجتهدا بصدق، ويستحق محمود البزاوي تقديرا خاصا علي ادائه لدوره الأصولي، بينما يستحق د. الشماع تحية علي اختياره للوجه الجديد لؤي عمران، وأدي حسين الإمام ومنال سلامة دوريهما باتقان في حدود النص، وإذ اثني علي ديكورات المسلسل - وخاصة - منزل ليالي وشقة سراج، أهنيء راجح داود علي موسيقاه العميقة الثرية الأوركسترالية التي أعدها أبرز النقاط المضيئة بالعمل، ويتبقي تساؤل وجب توجيهه إلي المدينة «الفاضلة» للإنتاج الإعلامي وهو.. علي أي أساس تمت الموافقة علي نص هذا المسلسل؟ وكيف سمحتم بهدر ملايين الجنيهات من عرق المساهمين والمشاهدين في إنتاج مثل هذا العمل ؟! جريدة القاهرة في 27 مارس 2007
|