سينماتك

 

علاقة صانع الفيلم الوثائقي مع ناس فيلمه كما يراها عمر أميرالاي وعزّة الحسن وماهر أبي سمرا ونزار حسن

المصارحة، التواطؤ، الانحياز.. هل هي الكلمات نفسها؟ وهل الفيلم ملك مخرجه؟

نديم جرجورة

 

 

 

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

 

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

 

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

 

أرشيف

إبحث في سينماتك

 

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

 

سينماتك

 

تتطلّب صناعة الأفلام الوثائقية، من بين أمور عدّة، تأسيس علاقة وثيقة بين المخرج والناس الذين يختارهم المخرج في أفلامه، يُفترض بها أن تنشأ من ثقة تنمو بين الطرفين أثناء التحضير للفيلم، أو أثناء تصويره. والثقة مهمّة، إذ أن الناس يفتحون عوالمهم الخاصّة أمام عينيّ المخرج وعدسة الكاميرا. والعلاقة الوثيقة تعني أن نقاشاً يقوم بين الجانبين، خصوصاً إذا أدرك المخرج استنباط ما يعتمل في ذات المرء ومشاعره، وإخراج انفعال يفيد سياق الفيلم ويغذّي «أنانية» السينمائي و«خبثه» الجميل ومواراباته الخفيّة والظاهرة. لكن، هناك مواضيع تفرض على المخرج استخدام أقصى الالتباسات الفنية والإنسانية مع الناس المختارين، وأقصى الحِيَل الثقافية والفنية الممكنة، كي ينتقي منهم ما يخدم مشروعه السينمائي في صناعة هذا الفيلم أو ذاك. يستحيل على المخرج الوثائقي أو التسجيلي أن يكون صريحاً جداً مع بعض الذين يختارهم، إذا أراد أن يمسّ المحرّم في المجتمع العربي، كالسياسة والجنس مثلاً. لكن، في المقابل، يستحيل على الفنان أن يكون «أخلاقياً» و«شفّافاً» إلى حدّ كبير، في إنتاجه نصّه الإبداعي، الذي يحتاج (قبل أي شيء آخر) إلى حرية مطلقة في تأليف مضمونه.

لا معايير ثابتة

لا يحدّد السينمائي السوري عمر أميرالاي أي اعتبار أو معيار لاختيار ناس أفلامه. يعتبر أن المبدع يجب أن يستند إلى معيار واحد فقط هو ذاك الذي «يرى فيه تحقيقاً لنظرته الفنية، وموقفه من ذاته ومن العالم من حوله»، مشيراً إلى أن كل ما عدا ذلك «ثانوي ولا قيمة فعلية وفنية له»، متوقّفاً عند ضرورة «ألا يكترث لا لصوت الرقابة الداخلية لديه ولا الخارجية، الزائلين حكماً أمام ديمومة العمل الفني وبقائه، بغضّ النظر عن مدى أهمية أو صواب نظرة المبدع أو موقفه». هذا ما أكّدته المخرجة الفلسطينية عزّة الحسن، معتبرة أن لا معايير دائمة، بل «معايير تتغيّر مع تغيّر الفيلم والموضوع»، لأن الفيلم «في النهاية هو الذي يحدّد المعايير وليس أنا. إذا كان موضوع فيلمي الهوية الفلسطينية مثلاً، فهذا لا يعني أنني يجب أن أتوجّه إلى المخيّمات الفلسطينية. ما يحدّد توجّهي هو الحاجة السردية للفيلم». لكن أميرالاي يرى أن هناك آلية معينة في اختيار «الناس» في السينما التسجيلية «الإبداعية تحديداً»، معتبراً أن «بعض مسنناتها موضوعي والبعض الآخر ذاتي»، مشدّداً على أنه «في كلتي الحالتين، تكون طبيعة الموضوع المتناوَل وحدس السينمائي وفراسته «المرجع» الوحيد الذي على أساسه يختار المخرج شخصيات أفلامه عادة». ولأن الناس في الحياة «ليسوا كَمّاً بشرياً متناسقاً، بل أفراد متباينون متنوّعون، لكل منهم هوية وسيرة وخاصية، فإن ذلك من شأنه أن يصعّب حتماً من مهمة المخرج، مثلما يوسّع ويغني في الوقت نفسه مساحة اختياره، وبالتالي يضطره في معظم الحالات، لأن يصوّب بدقّة شديدة خياراته، كي تأتي الشخصية المختارة حمّالة أوجه وعيّنة تكثّف ما أمكن الحالات الإنسانية المشابهة لها». برأيه، لا تختلف هذه الآلية في السينما التسجيلية «عن قرينتها الروائية في مسألة توزيع الأدوار داخل الفيلم (دور أول وثانٍ وظهور إلخ.)، آخذين بعين الاعتبار، في الوقت نفسه، أن هذا التقاطع بين الجنسين السينمائيين، في هذه النقطة كما في نقاط أخرى، لا ينطبق إلاّ على السينما التسجيلية الإبداعية تحديداً، التي تلعب فيها الرؤية الخاصّة والذاتية للمخرج الدور الأساس».

المخرج اللبناني ماهر أبي سمرا يرى أن هناك مرحلة سابقة على بدء تنفيذ الفيلم، «تسمح لي بمناقشة أسئلتي مع ناس كثيرين. بفضل هذه التساؤلات، أعثر على لغة بيني وبين شخص معيّن، ليس بالضرورة أن أتفق معه في رأي أو موقف أو نظرة، بل تنشأ هذه اللغة من استفزازه لي في مسألة معينة، أو من تناقضه معي في مسألة أخرى». ذلك أن الأهمّ، بالنسبة إليه، كامنٌ في أن تفتح العلاقة مع الناس باباً واسعاً للنقاش والتساؤل والتناقضات: «لا أختار شخصاً لا أكون معه في جدل. لا أختار من يُشعرني بأنه يقول كلمات فقط لأنه أدنى منّي. أختار من يتوصّل إلى أن يكون ندّاً لي، سواء اتفقت معه أم لا. لا أتعامل مع الناس على أساس أني أنا المخرج وهو أضعف منّي، لأني أريد نقاشاً سوياً أجدني أحياناً «أحركش» بالناس بحثاً عنه. لا أقول إني أنجح دائماً في العثور على مثل هؤلاء الناس. أجرّب دائماً، لكني أخطئ أحياناً في الاختيار، لأني لم أتوصّل إلى فتح نقاش مع الشخص المختار، ولم أعثر على لغة تجمعنا»، فهو يختار أناساً «أحبّ أن أتحدّث معهم». أما السينمائي الفلسطيني نزار حسن فقال إن اختياره الناس نابعٌ من حقيقة «اعتقادي بأنهم، من خلال تفاعلنا معاً، يحدّدون شكل الفيلم أو إطاره، أو بكلمة أخرى: قصّة الفيلم». وشدّد على ضرورة أن يكون هؤلاء «أفراداً عاديين، لديهم تجارب حيّة اختبروها بعيشهم أحداثاً مفجعة. هكذا أستيطع، كمخرج، أن أرى وأفهم كيف يشعر هؤلاء وكيف يتفاعلون، لأني أدرك، حينها، كيفية تخيّلهم الواقع بطرق مختلفة. بهذا، أحصل على وسائل عدّة لرواية القصّة التي أريدها في فيلمي». أضاف حسن أن المسألة الثانية في هذا الإطار تندرج في أنه يصوّر هؤلاء المختارين بطريقة مختلفة تماماً عن نظرة الآخرين إليهم في حياتهم اليومية: «في حياتهم اليومية، لا يهتمّ أحدٌ بهم، ولا ينتبه أحدٌ إلى أن لديهم أسراراً».

الحياة كتجربة إنسانية

هناك قضية جوهرية مهمّة جداً رأى عمر أميرالاي ضرورة البحث فيها قبل أي شيء آخر هي: «علاقة السينمائي بالحياة عموماً، وبمعتركها كتجربة إنسانية يعيشها المرء كسائر البشر، بفصولها ومحطّاتها، طوعاً تارة وقسراً تارة أخرى». ذلك أن علاقة السينمائي بمهنته، بالنسبة إليه، «مجرّد علاقة مع أداة أتيحت له ليحاول من خلالها أن يسرّج بالرؤية والموقف الفنيين بين فصول هذه الحياة ومحطاتها، لا أكثر ولا أقلّ. والسينمائي التسجيلي، كما أراه وأمارسه، هو الذي لا يتوانى عن اقتحام الواقع وناسه بحثاً عن أي سبب أو مبرّر يبدّد من خلالهما قلقه الوجودي وهواجسه، وما شعارات الذود عن حياض الحقيقة ونصرة قضايا الإنسانية اللتان يلوّح بهما غالباً، سوى عقاقير ومنشّطات لا غنى له عنها للاستمرار في الجري وراء وهم الخلاص من ذاك السؤال المملّ والممضّ عن جدوى الحياة وما نفعله فيها». برأيه، فإن «سائر الأسئلة الأخرى تغدو بعدها «مجرّد تفاصيل عملانية تندرج في خانة ما يطبق عليه عادة «عدّة الشغل»، من أجل أن يحصل السينمائي أو ينتزع ما يراه ضرورة فنية لصنع فيلمه». وتابع أميرالاي مداخلته بالقول إن هذه الأسئلة، وغيرها الكثير «لم تكن تطرح أصلاً على السينمائيين التسجيليين، قبل أن تهبّ علينا رياح طهرانية أنغلوسكسونية مستغربة ومستهجنة جداً، حاملة معها تلك النغمة البائدة العائدة من بعيد حول مسألة «الأخلاق» والشفافية في ممارسة العمل التسجيلي السينمائي. والمؤسف أن هذا الفيروس أصاب بقوة، وبشكل أساسي، جمهور اليافعين من السينمائيين أو المتابعين للسينما التسجيلية، ليس في بلادنا وحسب، بل في أوروبا أيضاً، حيث بات الهاجس الأول والسؤال الأول الذي يطفو على سطح كل نقاش لأي فيلم متحرّر من هذه القيود البالية».

أضاف أميرالاي أن «مردّ ذلك هو التراجع المفجع في الوعي والالتزام السياسي عند قسم لا بأس به من أبناء الجيل السينمائي الصاعد، وذلك لمصلحة إيديولوجيا إنسانوية غيبية متنامية، لا ترى أو لا تريد أن ترى جدلية العلاقة الأبدية بين المصائب التي يتعاطف معها هذا الجيل شعورياً وأخلاقياً والمسبّبات السياسية والاقتصادية التي تقف وراءها، على عكس ما كان عليه الحال في ستينيات القرن الفائت وسبعينياته، حيث كان من بديهيات «الفعل» السينمائي التسجيلي أن يأخذ صانع العمل موقفاً واضحاً ومتحيّزاً، سلباً أو إيجاباً، من الناس الذين كان يصوّرهم في أفلامه، وأي التباس على هذا الصعيد كان يُعتبر سريعاً انهزاماً واتّهاماً لصاحبه بالتواطؤ مع الجلاّد ضد ضحيته». وانتهى إلى القول إنه «بسبب عيشنا اليوم في عصر انتفى فيه على ما يبدو تحقيق العدالة والاقتصاص من الفاعلين، من مفسدين وظالمين ومجرمين في الحياة الدنيا (جلّهم يموت هذه الأيام في فراشه قرير العين وهو يحلم بالجنّة)، فإنه من واجب أصحاب الرأي وأهل الفن أن ينحازوا بلا تردّد أو وجل، بالكلمة والصوت والصورة على الأقلّ، ضد هؤلاء ولمصلحة ضحاياهم، ويزدروهم ويفضحوا أفكارهم وأفعالهم انتصاراً للحقّ والحقيقة».

النقاش أساساً

يُركّز ماهر أبي سمرا على مسألة النقاش الدائم مع الناس. فهو، لرغبته في إشراكهم في صناعة الفيلم، يوطّد علاقته بهم إلى درجة متينة. وهو، بعد أن يبلغ وإياهم تلك المرحلة من العلاقة، يجعل الكاميرا «لغة وأداة لي ولهم». لا ينفي أن إشراكهم في صناعة الفيلم يتمّ في إطار محدّد يضعه منذ البداية، «لأن الفيلم، في نهاية الأمر، لي». لا يرى أن المسألة متعلّقة باحترام الشخص أو بعدم احترامه، فـ«حين تتعمّق بالأمور، وحين تدخل في حياة بشر، تصبح مسؤولاً. ومسؤوليتك تجعلك تأخذ مقتطفات من هذه الحياة وتعرضها بلغتك وأسئلتك. وإذا لم يكن التواطؤ بيني وبين الشخص الآخر موجوداً حول أهمية المشروع والرغبة في النقاش، لا أستطيع التصوير. هذا التواطؤ يساعدني لاحقاً على أن أكون صادقاً وأنا أصوّر بأسئلتي، كي لا يُفاجأ الشخص بما استعملته من حصيلة اللقاءات التي صوّرتها معه. مثلاً: السيدتان اللتان ظهرتا في «نساء حزب الله» لم تتفاجآ برأيي، ولا الحزب تفاجأ، لأني خضت المعركة أثناء العمل على تنفيذ الفيلم. والمعركة تعني البحث عن دوافع تحرّض لفتح النقاش ولتبيان التناقضات. في الوقت نفسه، أحترم هؤلاء الناس وأجعلهم يعرفون ما الذي أفعله. لا أدجّل عليهم. إذا أردت التدجيل (أو بالأحرى «لغة ليست صادقة كلّياً») أصنع فيلماً روائياً وأستعين بممثلين. يعنيني أن يهتمّ هؤلاء المختارون بالفيلم، وأن تثير الأسئلة المطروحة في الفيلم اهتمامهم. لهذا، أحرص على أن يكون العرض الأول للفيلم أمام هؤلاء الناس أنفسهم: العرض الأول لـ«نساء حزب الله» كان للحزب وناسه، و«دوّار شاتيلا» لأهالي شاتيلا». هذا ما يؤكّد عليه نزار حسن، الذي قال إنه يتعهّد أمام هؤلاء «بل أوقّع لهم على رسالة تنصّ على أن أحداً لن يشاهد الفيلم قبل أن يشاهدوه هم. وبعد موافقتهم عليه، أعرضه أمام الجميع. لهذا، لم تقع مشاكل مع أحد لغاية الآن. هذا ساعدني جداً في أن أكسب ثقة الناس المختارين، وسمح لهم بأن يفتحوا حياتهم وقلوبهم لي».

من جهتها، تتحدّث عزّة الحسن مع الناس المختارين عن أفلامها بشكل عام، لكنها تشرح لهم أيضاً ما تتوقّعه في هذا الفيلم: «عندما صوّرت «ملوك وكومبارس» مثلاً، الذي تمحور موضوعه حول البحث عن أرشيف السينما الفلسطينية الذي فُقِد في العام 1982 بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، أخبرت جميع الشخصيات أن الموضوع المفتعل في الفيلم هو البحث عن الأرشيف، لكن الموضوع الأساسي هو الهوية الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو وقيام الانتفاضة الثانية». في مقابل هذا، قال ماهر أبي سمرا إنه طالما يتعرّف على الناس ويثير معهم نقاشات، «فإن الفيلم يكون لهم وليس لغيرهم». ولا يخفي أنه كان صادقاً مع نساء حزب الله مثلاً، فهو أخبرهم أنه لا يصنع فيلماً «تحبون مشاهدته، بل الفيلم الذي أحبّه أنا». قال للنساء: «أنتن تعرفنني جيداً، وتعرفن موقفي. عليكنّ أن تعرفن أيضــاً أني أصنع فيلماً لي». لهذا، يتّخذ تحضير كل فيلــم من أفلامـه وقتاً طويلاً، لأن النقاش ينفتح على كل شيء من دون استثناء.

هناك، أخيراً، إجماعٌ على مسألة أن لا أزمة تنشأ بين هؤلاء السينمائيين وبين الناس المختارين في أفلامهم بعد إنجازها: «لا أبالغ إن قلت إن جلّهم صاروا أصحابي»، كما قال عمر أميرالاي، مضيفاً أن «حتى الذين جُرت عليهم في أفلامي، ما قابلت أحداً منهم بعدها إلاّ ولامني بكل مودّة واحترام، ولم يشهر أحدهم مسدساً كاتماً في وجهي، حتى الآن». واعتبرت عزّة الحســن أن «معظم الناس تتقبّل في العادة فكرة أن الصــورة الموجودة على الشاشة لم تعد ملكاً لها أو للمـخرج، بل جزء من هذا الفيلم المتكامل والقائم بحدّ ذاته»، مشيرة إلى أنها شعرت أحياناً أن بعض الأشخاص لم يكن راضياً عن صورته في الفيلم، «لكن لم يحدث خلاف بيني وبين أحد». أما المشاكل التي واجهت نزار حسن فكانت مع شخصيات ثانوية وليست أساسية، حول أمور «لا علاقة لها بالطريقة التي صوّرتهم بها، بل حول أمور أخرى لا أريد أن أتحدّث عنها الآن».

السفير اللبنانية في 26 مارس 2007