شريط "أنا مش معاهم" في مصيدة الإخوان
القاهرة ـ حمدي رزق |
صفحات خاصة
|
في لحظة ما، ربما يصبح السؤال عن العقيدة السياسية ضرباً من التفتيش في الضمائر، وفي لحظة أخرى يتحول هذا السؤال الى احتراز ضروري لفرز الخصم من الصديق. وفي كل الأحوال يستهجن المثقف الغيور على حريته أن تسأله: هل أنت مع هذا التيار السياسي أم ضده؟ هل تعتنق تلك الفكرة أم لا؟ من السهل جداً أن يرميك المثقف بأنك تعقد له "محكمة تفتيش"، ومن الصعب جداً أن تحصل منه على جواب شاف يصنف به نفسه في هذه الخانة أو تلك..! ولكن ماذا تصنع آلة الإعلام في "خبزها اليومي"؟ وماذا في يديها لو كان الشارع السياسي يمر في احتقان واضح، وثمة تيار سياسي ـ دينى يحمل اسم "الأخوان" يصعد بسرعة وسط رفض قطاعات كثيرة من المجتمع له؟ لابد أن يتوجه الصحافيون في هذه الحال للممثل الشاب أحمد عيد بالسؤال: هل أنت من الأخوان؟ ولا بد لعيد أن يرتبك، ويعطى جواباً ربما لا يمثل الحقيقة فيقول: لا أنتمى إليهم لكني متعاطف معهم! كل هذا الإرباك والارتباك لأن عيد صنع شريطاً سينمائياً يعرض في الصالات المصرية الآن يحمل عنوان "أنا مش معاهم"! عيد في هذا الشريط وكاتبه الشاب فضل عبد الصمد ومخرجه أحمد البدري، وبطلته بشرى لا يقصدون بالتأكيد الانتصار للإخوان ولا لتيار إسلامي آخر، بل إن النوايا الحسنة ـ التي قادتهم الى جهنم الإعلام ـ كانت في صنع شريط يمّجد "الوسطية"، والمصادفات التعسة في أحداث الشريط ذاته، ترمي البطل بتهمة الأخوان ـ وربما تهمة الانتماء للجماعات المتطرفة، وهذا أقرب الى الدقة حسب ما رأينا من أحداث الشريط ـ. والمصادفات التعسة كذلك شاءت للشريط أن يعرض هذه الأيام، والعلمانيون من ليبراليين وقوميين وماركسيين ومن كل التيارات، تنتابهم رعدة كلما رأوا ملتحياً أو منقبة في شريط سينمائي أو مسلسل! المسألة تبدو أكبر من "أنا مش معاهم"، وعيد بالفعل "مش معاهم" ـ لا مع الإسلاميين ولا مع خصومهم _ لكنها مسألة تتعلق بنمط من الدراما السينمائية والمتلفزة، تحيك من حوله الشبهات.. أو على وجه الدقة تتضارب حوله الأسئلة في ثلاثة اتجاهات متناقضة: هل ثمة تسلل لتيار "الإسلام السياسي" داخل منظومة الإنتاج الفني في مصر هذه الأيام؟ أم أن ثمة فنانين وفنانات يؤمنون بالفعل بمبادئ هذا التيار ونا زالوا يعملون بالفن ويقدمون هذه الأعمال؟ أم أن المناخ العام يقدم هذه الأعمال بطبيعة الحال.. بمعنى أن يقدمها كأفكار موجودة على الساحة لا يمكن تجاهلها؟ أعراض فنية والحق أن هذه التساؤلات لا تخلو من وجاهة ومشروعية، فثمة أعراض فنية ملموسة تنم عن وجود اتجاه إسلامي ـ سياسي في بعض الأعمال الفنية، أو على الأقل تدل على اهتمام من منتجي الأعمال الفنية بوجود هذا التيار في الساحة! فإلى جوار شريط "أنا مش معاهم" الذي تتضارب الآراء حوله، ربما لاعوجاج في تناوله الدرامي لدى مؤلفه الذي يكتب لأول مرة وبطله أحمد عيد الذي أكد أنه شارك في كتابة الشريط.. ثمة عرض مسرحى يثير جدلاً متصاعداً منذ شهرين اسمه "الشيفرة"، بطله عبد العزيز مخيون.. ومعروف عن مخيون منذ احترافه التمثيل قبل قرابة 40 عاماً أنه ماركسي متشدد، وفي السنين الأخيرة كان في صفوف حركة "كفاية" السياسية، لكن كثافة حضور الأصوليين من الرجال والسيدات لهذا العرض لفتت النظر، وبخاصة مع "الخطاب الإسلامي" الواضح في المسرحية، ومع الشركة المنتجة للعرض.. وهي شركة جديدة غير معروفة الاتجاهات، فضلاً عن أنها تمنع أي استعراضات في المسرحيات التي تنتجها "3 مسرحيات الى الآن"، والغريب أن مخيون مستمر في النفي القاطع لأي انتماء أو علاقة له بالأخوان، فيما تواصل الصحافة اتهامه بذلك يومياً! وفي العام الماضي اشتعلت أزمة يعرفها الجميع.. سميت وقتها أزمة "مسلسلات المحجبات"، حين منع التليفزيون المصري التابع للدولة مسلسلات بطلاتها من المحجبات من العرض في الموسم الرمضاني.. وعرضتها الفضائيات، كمسلسل سهير البابلي "قلب حبيبة" ومسلسل سهير رمزي "حبيب الروح" ومسلسل صابرين "كشكول لكل مواطن" ومسلسل أحدث المحجبات حنان ترك "أولاد الشوارع". والحق أن هذه المسلسلات لم تقتصر فيها الريبة على كون البطلات محجبات، بل إنها أيضاً عكست صورة مثالية ـ إسلامية لهؤلاء البطلات، ظهرن من خلالها في صورة أقرب الى ملائكة تمشي على الأرض! وشاع داخل هذه المسلسلات كلها جو من "الخير والشر" و"الحلال والحرام" و"الثواب والعقاب"، وهي الأمور التي تجاوزتها الدراما التليفزيونية المصرية منذ زمن وصارت تعالجها بشكل غير مباشر. ولا تقتصر الأعراض على السينما أو المسلسلات أو المسرح "فنون التمثيل"، بل تمتد الى الغناء. وعلى الرغم من شيوع كليبات وأغنيات المطرب الأذربيجاني سامي يوسف ـ وهي أغان دينية محضة ـ وتحقيقها لملايين الجنيهات كرنات لأجهزة المحمول لدى الشباب، إلاّ أن ما استوقف المثقفين ومحبي الغناء كان كليب واحد لمطرب مصري شاب اسمه هيثم سعيد وكانت الموديل معه في الكليب محجبة، في سابقة هي الأولى من نوعها. والمثير أن الأغنية "هم ما لهم بينا يا ليل؟" حققت نجاحاً واسع النطاق، والأغرب أن مخرجها هو نفسه شريف صبري مكتشف صاروخ الاثارة الغنائية المصري "روبي" ومخرج كليباتها وشريطها السينمائي الوحيد "7 ورقات كوتشينة" الى الآن! صحيح أن الكليب لم يتكرر ثانية، لكنه ظل عالقاً في ذهن الجمهور والمثقفين، في ذات السياق الذي فكروا من خلاله في مسرحية مخيون وشريط أحمد عيد السينمائي أو مسلسلات المحجبات، مفسرين ذلك بتوجه إسلامي سياسي مستجد في الفن! أفكار الفنانين بهذه الأعمال الفنية ـ التي لا يتجاوز حجمها واحداً في المئة من حجم الإنتاج الفنى المصري عموماً خلال عام واحد ـ فسر المتوجسون مخاوفهم من وجود إسلاميين يدعمون بعض الأعمال الفنية ومن خلالها يؤكدون وجود الظاهرة! غير أن أحداً لا يلتفت الى اعتبار آخر: هل يفكر قطاع من الفنانين والفنانات بهذا المنطق حقاً؟ أحمد عيد ـ مثلاً ـ يقول دائماً إنه ضد العري والابتذال في الفن، ويلح على ذكر قراءته المستمرة لابن تيمية، لكنه يلح في الوقت ذاته على مقولة ان الفن ليس فيه حرام سوى الابتذال، وأنه ضد تحريم الفن! وحنان ترك، حتى قبل ارتدائها الحجاب، تكلمت كثيراً عن الالتزام "الاخلاقي" في الفن، وضرورة الابتعاد عن العري والأحضان والقبلات والتركيز على بث رسائل اجتماعية إيجابية الى الجمهور عبر الأعمال الفنية! سهير البابلي عادت الى الفن حاملة نفس شعار حنان ترك، ونفت أنها قالت بتحريم الفن في يوم من الأيام، أما عبد العزيز مخيون فيقول دوماً إنه يلتقي، كماركسي، مع الإسلاميين في معاداة العري والابتذال. وعلى هذا، فإن هؤلاء الفنانين والفنانات كانوا سيقدمون أعمالاً تحمل نفس المضامين، بصرف النظر عن جهات الإنتاج وتوجهاتها الأيديو لوجية، إن كانت ثمة توجهات أيديو لوجية، من الأساس، لهذه الجهات! لا شك في أن ثمة مناخاً عاماً يحكم الأفكار الفنية والثقافية، والإسلاميون أحد روافد المناخ. يظهر ذلك واضحاً في السياسة والمجتمع والفن والثقافة.. ولا شك كذلك في أن هذا المناخ العام ينعكس على الأعمال الفنية، بعد أن انعكس على حياة الفنانين الخاصة. فلا يمكن فصل ظاهرة اعتزال الفنانات وارتدائهن الحجاب عن وجود أعمال فنية تحمل مضامين مثالية دينية في السينما والمسرح والغناء. وإذا كان قطاع من الفنانين يفكر بهذا المنطق، ويصر في الوقت ذاته على الاشتغال بالفن، متأثراً بهذا المناخ العام، فإنه من الطبيعى أن تخرج للجمهور هذه الأعمال، التي لا يلتفت أحد الى كونها ذات جذور بعيدة! منذ الأربعينات قدمت السينما المصرية شخصية المتدين والمتدينة في كثير من أعمالها الفنية، ولكن صورة المتدين في هذه الأعمال كانت متجانسة الى حد بعيد مع المجتمع المصري بتغيراته السياسية والاقتصادية! ففي الأربعينات، وحين كان المجتمع المصري يحيا في علمانية وليبرالية نقيتين تماماً ـ على غرار المجتمعات الأوروبية ـ كان المتدين في السينما المصرية رجلاً يمارس الوعظ الاجتماعي.. ولا سيما بشأن الأغنياء ممن ينفقون بسفاهة على حفلاتهم وليالي لهوهم، وأشرطة الممثل الراحل حسين صدقي مثال نقي لهذه الشخصية الدينية العصرية التي تلعب دور الواعظ الاجتماعي لبلد رأسمالي علماني، وهي شخصية توحي باغتراب كبير عن هذا المجتمع، وتظهر بصورة أقرب الى "نصير الفقراء". ومع دخول مصر في المرحلة الاشتراكية في العصر الناصري، صارت شخصية المتدين أقرب الى واعظ اشتراكى يحث المجتمع على تخطي ما فات والسير قدماً، والحض على قيم العمل والمساواة و"الرأسمالية الوطنية".. وكانت أدوار يحيى شاهين الأكثر تعبيراً عن هذه الشخصية! التيار الارهابي ومنذ أواخر السبعينات ظهرت شخصية المتدين المتشدد نوعاً ما، ومع تصاعد المد الدينى في المجتمع فيما بعد ذلك، كان طبيعياً أن تظهر أعمال تدين الإرهاب والتيار الإسلامي السياسي ككل _ مثل شريط "الإرهابي" لعادل إمام 1995 أو مسلسل "العائلة" لليلى علوي 1994 وغيرهما ـ وأعمال أخرى كالتي ظهرت في العامين الأخيرين، يمكن القول بأنها تتماشى الى حد بعيد مع أفكار هذا التيار! هكذا، إذن، يمكن القول ان الزوبعة المثارة الآن حول هذا الشريط أو ذلك المسلسل أو تلك الأغنية، أكبر من حجمها الحقيقي.. فالمسألة الأصلية أن ثمة فنانين وفنانات تأثروا بمناخ عام يتصاعد فيه المد الديني على الساحة، وأن شخصية "المتدين" ـ المتاحة دائماً على الساحة الفنية بصور مختلفة ـ جنحت مع هذه العوامل الى شيء من التشدد، جرت مواجهته بحساسية متزايدة من مجتمع يتوجس من تيارات وجماعات بعينها تحمل الشعار الدينى في الساحة السياسية! وإذا كان الأمر كذلك، فإن الحديث الذي يدور الآن في الصحف والإعلام وفي أوساط المثقفين عن "حرب بين العلمانيين والمتدينين" من خلال الأعمال، يبدو حديثاً عن حرب وهمية لا وجود لها! فالسينما والغناء والمسرح في مصر، لم تقطع صلتها بعالم المتدينين في وقت من الأوقات، والدين فيها ظل حاضراً معظم الوقت.. وكان حضوره إيجابياً لا سلبياً. صحيح أن هذا جرى باعتدال واضح، لكن الاعتدال هنا لا ينفى الحضور ! في الوقت ذاته... فإن هذا التناول يجري في إطاره طوال الوقت، من دون تعمّد، لكنه الآن يحظى ببعض التصعيد وبشيء من التشدد في عدد الأعمال الفنية. ولا يعني وجود هذا العدد المحدود من الأعمال المحسوبة على التيار الإسلامي، إن صح حسابها عليه أصلاً، أن ثمة حرباً بين الفريقين، فالفنون المصرية تسير في طريقها للتطوير التقني والإنتاجي، والمنتجون لا يفكرون في دخول هذا المعترك، لأن ذلك الطريق لا يفضي الى الأرباح ولا يدور صناعة السينما، وهذا هو الأساس، تلك الحرب الوهمية! المستقبل اللبنانية في 25 مارس 2007
|