سينماتك

 

العطر: قصة قاتل.. ورحلة البحث عن الجمال المطلق..

رجا ساير المطيري

 

 

 

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

 

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

 

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

 

أرشيف

إبحث في سينماتك

 

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

 

سينماتك

 

العلاقة بين السينما والرواية علاقة شائكة، يعتريها ضباب كثيف، ويشوبها لبس كبير، ذلك أن السينما التي ظلت تقتبس روائع الأدب، منذ نشأتها، وحتى اليوم، لم تفلح بعد في رسم الحدود الواضحة التي ينبغي أن يقف عندها الفيلم كي ينجح في تقديم نفسه باستقلالية تامة بمعزل عن الرواية التي اقتبس عنها، وفي نفس الوقت يحافظ على قيمة وروح الرواية. والأمثلة على إخفاق السينمائيين في تعاملهم مع الروائع الأدبية وتصويرهم المشوه لها، بحسب ما يراه نقاد الأدب وعشاقه، هي من الكثرة بحيث يصعب عدّها وحصرها. لكن تبقى هناك استثناءات رائعة جاءت من مخرجين عرفوا كيف يتعاملون مع الرواية، بعد أن أدركوا خصائصها، وخصائص الفيلم، فأخذوا منها ما يناسبهم، فكانت النتيجة أعمالاً ممتازة، كاملة البناء، وافية المعنى، حافظت على روح الرواية فحفظت مكانتها الجليلة في سماء الأدب. ويأتي فيلم (العطر: قصة قاتل) الذي أنتج السنة الماضية كواحد من هذه الاستثناءات الجميلة.

الفيلم هو أول اقتباس صريح لرواية (العطر: قصة قاتل) التي كتبها الألماني (باتريك زوسكيند) ونشرها عام 1985محققاً من ورائها شهرة واسعة ونجاحاً كبيراً. وقد لفت هذا النجاح أنظار المخرجين الكبار تحديداً (مارتن سكورسيزي) والراحل (ستانلي كويبريك) الذين أعجبا بالرواية فرغبا في تحويلها إلى السينما، لكن طبيعة الرواية وتناولها لأفكار مجردة تسبح في خيال بطلها، جعل من مهمة التحويل مهمةً صعبة بل أقرب إلى الاستحالة، الأمر الذي جعلهما يصرفان النظر عن خوض مثل هذا التحدي العسير. فبقيت الرواية بعيدة عن السينما حتى العام 2001حين اشترى الممثل (داستن هوفمان) حقوقها بمبلغ كبير كان نصيب كاتبها (باتريك زوسكيند) عشرة ملايين يورو. وقد أوكلت مهمة إخراج الفيلم إلى المخرج الألماني (توم تايكوير) صاحب التجربة المتميزة في فيلم (رون لولا رون - RUN LOLA RUN).

التحدي الأكبر الذي تضعه الرواية أمام كل من سيحاول الاستفادة منها وتحويلها إلى فيلم؛ هو أنها تتعامل مع مسارات وهمية وصور ذهنية مجردة يصعب تجسيدها على سطح الشاشة، كالروائح العطرية، كما أن أحداثها تجري في مساحة زمنية واسعة، وفي أمكنة متعددة، وكل مكان منها له خصائصه المميزة والمختلفة، ما يجعلنا أمام رواية شبه ملحمية تغطي مساحة كبيرة من القرن الثامن عشر الميلادي. فإذا رغب أي سينمائي في تحويل الرواية إلى فيلم فإنه سيجد أمامه حشد من التفاصيل الدقيقة التي يكفي الواحد منها لبناء فيلم متكامل، وهنا يأتي التحدي: كيف ينتقي المخرج ما يراه مناسباً من هذه التفاصيل ويتجاهل ما ليس مناسباً؟ وعلى أي أساس يقوم بعملية الانتقاء هذه؟ والمأزق الكبير هو أن صانع الفيلم مرغم على القيام بعملية الفرز والانتقاء لأنه يستحيل عليه أن يقوم بتحويل الرواية بكامل أحداثها وشخصياتها وأفكارها في مدة مقبولة إنتاجياً تتراوح بين الساعتين والثلاث ساعات إلا إذا أراد صنع فيلمه بأسلوب تقريري كما في تجربة (رون هاورد) السيئة مع رواية (شيفرة دافنتشي).

رواية (العطر: قصة قاتل) تحكي قصة الشاب (غرنوي) الذي ولد في أقذر الأحياء الباريسية، وتعرض فور ولادته لمحاولة قتل على يد والدته، لكنه تمكن من النجاة، فحكم على أمه بالإعدام، ليعيش بعد ذلك يتيماً، ويرسل إلى دارة للأيتام.. وهناك يعي حقيقته، ويدرك ماهية الموهبة التي يمتلكها، وهي أنه ذو أنف حساس، وحاسة شم خارقة، تستطيع تمييز آلاف الروائح بسهولة. وبعد انتقاله للعمل في مصبغة للجلود تتطور موهبته لتتحول إلى مشروعٍ مرعبٍ يتمثل في رغبته امتلاك الرحيق الإنساني الذي تعبق به أجساد العذارى الجميلات. فيبدأ محاولاته لتحقيق هدفه، وتطبيق معاييره الجمالية، ولا يتورع في سبيل ذلك عن ارتكاب الجرائم البشعة. ثم يلتقي بصانع العطور الإيطالي (بالديني)، فيتفق الاثنان على صفقة غريبة، أن يصنع (غرنوي) عطوراً جميلة تنقذ تجارة (بالديني)، بشرط أن يقوم الإيطالي البائس بإرشاد (غرنوي) إلى الطريقة التي يستطيع من خلالها امتلاك رائحة (الجمال المطلق) إلى الأبد. وهكذا تتحول الرواية إلى ملاحقةٍ حثيثةٍ للجمال وسط ركام من القذارة والدماء.

مع هذه الأجواء المثيرة، والهوس المرعب، والشذوذ، والمطاردة البوليسية، يسبح قارئ الرواية في عالم ساحرٍ أبدع الروائي (زوسكيند) في رسم تفاصيله الدقيقة بشكل مدهش، وأشد ما يمكن أن يتوقف عنده أي قارئ، وكل قارئ، هي قدرة (زوسكيند) على وصف (الرائحة) إلى الحد الذي يجعل القارئ يشمّها فعلاً وكأنها موجودة في محيطه المباشر. ووصف (الرائحة) والإحساس الذي تتركه هذه الرائحة في نفسِ القارئ، هو واحد من جملة أسباب روعة الرواية، ولعله العقبة الأكبر أمام أية رغبة في تحويل الرواية إلى فيلم.. لكن تعال لنرَ كيف تعامل المخرج الألماني (توم تايكوير) مع هذه العقبة عندما أخرج فيلم (العطر: قصة قاتل)؟ بدءاً لابد من إدراك الاختلاف الجوهري بين الرواية كعمل مقروء وبين الفيلم كعمل مشاهد، ففي الرواية يتعامل الكاتب مع ذهن القارئ مباشرة مستعملاً الكلمات لرسم صور ذهنية للأحداث والشخصيات، ويعتمد رسم الصور الذهنية على الهامش الذي تفرضه طبيعة القراءة بين الكلمة والقارئ، وفق علاقة تكاملية، يضع فيها الكاتب علامات لما يريد وصفه، فيسترشد بها القارئ ليبني الشكل الموصوف بحرية تامة، فيكون لكل قارئ في النهاية تصوره الخاص للشكل وللعالم الذي تسبح فيه أحداث الرواية. أما الفيلم فهو يتعامل مع الحسّ، ومع البصر، فإذا أراد مخرج ما أن يصور (الرائحة) مثلاً وأن يجعل المشاهد يشعر بها، فعليه أن يصنع ذلك معتمداً على الصورة فحسب.. وأنّى لمخرج أن يفعل ذلك وإمكانات الصورة المألوفة لا ترقى لتجسيد شيء هلامي كالرائحة؟.

هنا نحن نتحدث عن ميزة من مزايا فيلم (العطر: قصة قاتل)، وهي قدرته على تصوير (الرائحة)، وصنع إحساس مقارب لما صنعه (زوسكيند) في روايته، عبر حلول ممتازة لجأ إليها المخرج (تايكوير) محاولاً إيصال الإحساس بشكل دقيق ومباشر، وذلك بتكثيف الصورِ لمكونات الطبيعة، وعرضها متوالية، يصحبها صوت (الراوي) الذي يؤكد حضور الرائحة، كما قام (تايكوير) برسم (طيفٍ) خفيف يعلو سطح الشاشة عند الحديث عن رائحة النساء الجميلات، وهذا الطيف، رغم عدم وضوحه، يترك في نفس المشاهد إحساساً بنوع الرائحة التي يقصدها بطل القصة (غرنوي). وإضافة إلى هذه الميزة، فالفيلم يتمتع بميزة أخرى، وهي تمكنه من تجسيد كل الأفكار الرئيسية في الرواية بالاعتماد فقط على الخط الرئيسي، وهو بحث (غرنوي) عن الجمال المطلق، مع تجاهل تام للتفاصيل الأخرى غير المهمة. فالفيلم الذي سعى إلى تصوير هوس (غرنوي)، ركز بشكل أساسي على كل ما يخدم هذا الهدف، وتجاوز ما عدا ذلك، ومن هذا تجاوزه لفصول عزلة (غرنوي) في الجبل، وهي من أهم فصول الرواية، أيضاً قفزه على كثير من المراحل المفصلية في الرواية، ورغم ذلك فلن يشعر من يشاهد الفيلم بأن هناك خللاً في بناء القصة، بل لن يشعر باختلاف كبير بين أحداث الرواية وأحداث الفيلم! ذلك أن الفيلم يصنع قصته بشكل متكامل، ويقدم العناصر الكاملة الذي يحتويها جوهر الرواية.

الفيلم ينطلق بمقدمة شبيهة بما في الرواية، لكنه يبدأ في الاختلاف منذ اللحظة التي يلتقي بها (غرنوي) بالعطار (بالديني)، خاصة بعد المشهد الذي يشرح فيه (بالديني) طريقة صناعة العطور، ونظرية الاثنتي عشرة نوتة، والنوتة الثالثة عشرة التي يستحيل الحصول عليها، لأنها تحوي الرائحة الأبدية التي لا تزول، والتي يعني الحصول عليها القدرة على الاحتفاظ برائحة الجمال إلى الأبد، فمن هذه اللحظة، يتحول الفيلم إلى البحث عن كل ما يخدم (غرنوي) في رحلته للحصول على النوتة الثالثة عشرة، ويتجاهل كل التفاصيل الأخرى، ومنها مشاهد الجبل. ورغم أن عملية حذف هذه المحطات المهمة تعتبر جرأة ومجازفة كبيرة إلا أن النتيجة كانت مرضية تماماً، فالفيلم ظهر كاملاً في مبناه ومعناه، ولم يخدش روعة الرواية بإقحام شخصيات أو افتعال أحداث. وما زاد من جمال الفيلم عنايته في عملية اختيار الممثلين، تحديداً اختيار الممثل البريطاني الشاب (بين ويشو) ليلعب دور البطولة المطلقة والذي جسد شخصية (غرنوي) كما لو أنه (غرنوي) فعلاً الذي تصوره كل قارئ للرواية.

الرياض السعودية في 22 مارس 2007

 

الفيلم الياباني (قصة من ناراياما)

 Ballad of Narayama

رجا ساير المطيري 

حاز الفيلم على سعفة (كان) الذهبية سنة 1983للمخرج الياباني الكبير (شوهي إيمامورا) الذي رحل عن الدنيا في شهر مايو من السنة الماضية 2006عن عمر يناهز الثمانين عاماً وذلك بعد أن أنجز آخر أعماله سنة 2002في باقة الأفلام القصيرة التي صنعها هو مع عشرة مخرجين عالميين للتعبير عن مشاعرهم في هجمات سبتمبر تحت عنوان (eptembre 200111).

في فيلم (قصة من نارياما) يذهب (شوهي إيمامورا) إلى الجبال اليابانية القصية ليرسم من هناك شكل الحياة في قرية نائية ومنسية، تعيش على هامش الزمان، بعيداً عن كل المؤثرات الخارجية، ويحيا أفرادها بتقشف شديد وببدائية متوحشة وسط ظروف حياتية قاسية وسيطرة تامة للجهل والخرافة والأسطورة. الأحداث تنطلق من منزل العجوز (أورن) ذات التسعة وستين عاماً التي لا تبغي من هذه الدنيا سوى أن تحج إلى جبل (ناراياما) لتموت هناك بسلام في عيد الموتى بحسب العقيدة البوذية. لكن (أورن) قلقة على ابنها الكبير (تاتسوهي) وعلى حياته بعد أن تموت، فهو رجل بلا زوجة، لذلك تشغل نفسها في البحث عن واحدة له، وهي تمني نفسها بتحقيق ذلك قبل أن يحين موعد حجها إلى (ناراياما).

الفيلم لا يمتلك حدثاً تقليدياً ذي بداية وذروة ونهاية، إنما هو مجرد تأملات ونظرات في الحياة البدائية التي تعيشها عائلة العجوز (أورن) ومن معها في هذه القرية المنسية. لذلك فهناك العديد من الخيوط الدرامية الفرعية التي تقتحم الخط الرئيسي، وهو الحج الأخير إلى ناراياما، لتؤكد القسوة المؤلمة التي تغلف حياة هؤلاء الفلاحين. هنا سنرى هذا المجتمع المنغلق وهو يتعايش مع بيئته ويتكيف مع شرطها القاسي، محدداً قيمه وقوانينه الخاصة. ففي الزواج مثلاً يكفي أن تجلس المرأة إلى مائدة الأكل لتصبح زوجة صاحب هذه المائدة، وهكذا، بمثل هذه البساطة المتوحشة، تكون الحياة في الجبل..

(قصة من ناراياما) رحلة سينمائية فائقة الجمال والشاعرية، تأخذنا إلى عالم بدائي، وإلى عمق الفكرة البوذية، وعقيدة (الكارمن)، لترسم أخلاق ذلك المجتمع المعزول.. هذه الأخلاق التي برغم شذوذها وفظاظتها تملك سحرها وجاذبيتها العسيرة على الوصف!. وقد استلّ (شوهي إيمامورا) ملامح عالمه المتوحش بشكل مباشر وحرفي من رواية كتبها الروائي الياباني (شيتشيرو فوكازاوا) عام 1956بعنوان (دراسة في أغاني ناراياما)، والفيلم لم يغير في الرواية أي شيء، سوى إضافته لبعض الشخصيات كشخصية الأخ القذر. والنجاح الأكبر ل(إيمامورا) في تحفته السينمائية هذه ليست في محافظته على مجرى الأحداث وعلى الشخصيات فحسب، بل أيضاً في قدرته على التعبير عن صميم روح الحكاية، وتصويره الدقيق للبيئة القاسية والحيوانية التي تعيشها القرية التي بلا اسم، وذلك عبر تفجير طاقات الصورة، وإدراج لقطات للحيوانات والطيور والنبات، لزرع الإحساس بالطبيعة المتوحشة في نفس المتفرج، وتأكيد التصاق سكان القرية بهذه الطبيعة ورضوخهم الشديد لشروطها القاسية.

الرياض السعودية في 22 مارس 2007