«رايات آبائنا» و«الأضاليا السوداء» و«ملاحظات حول فضيحة» الفـن والإنسـان والموضـوع في سبـاق خصـب نديم جرجورة |
صفحات خاصة
|
تبدأ، بعد ظهر اليوم، العروض التجارية اللبنانية لأفلام سينمائية عدّة، أبرزها: «رايات آبائنا» لكلينت إيستوود (تمثيل راين فيليب وآدم بيتش ونايل ماكدونو) في «سينما سيتي» (الدورة) و«أمبير أ ب ث» (الأشرفية) وإسباس (الزوق)، و«الأضاليا السوداء» لبراين دي بالما (تمثيل: جوش هارتنت وسكارليت جوهانسن وهيلاري سوانك وآرون إيكهارت) في «كونكورد» (فردان) و«الزوق» و«أبراج» (فرن الشباك) و«سيتي كومبلاكس» (طرابلس) و«سانت إيلي» (أنطلياس)، و«ملاحظات حول فضيحة» لريتشارد آيير (تمثيل جودي دانش وكايت بلانشـــيت) في «أمبير أ ب ث» (الأشـــرفية) و«إســباس» (جـــونية). في الوقت نفسه، تستمر العروض التجارية لفيلمي «امبراطورية إنلاند» للأميركي ديفيد لينش و«اسم متشابه» للهندية ميرا نائير للأسبوع الثاني: الأول في «سينما سيتي» (الدورة) والثاني في «سينما 6 صوفيل» (الأشرفية)، علماً بأن فيلم لينش حقّق في الأيام الستة الأولى لعرضه 304 بطاقات مباعة، في حين أن فيلم نائير حقّق في الفترة نفسها 212 بطاقة مباعة. هناك حركة سينمائية لافتة للانتباه. هناك أفلام ذات صناعة بصرية مثيرة للاهتمام، ولمُشاهدة ممتعة، ولنقاش نقدي سوي. ذلك أن الأسابيع القليلة الفائتة شهدت إطلاق العروض التجارية لأفلام متحرّرة من سطوة التسطيح والتبسيط والسذاجة، في مقابل كَمّ من تلك النوعية العادية التي لا تزال تستقطب مشاهدين يرغبون في تمضية وقت للتسلية في الصالة. تنويعات بعد رائعتي الأميركي ديفيد لينش «امبراطورية إنلاند» والهندية ميرا نائير «اسم متشابه»، اللتين تبدآن اليوم أسبوعهما الثاني على التوالي، يُمكن للمُتلقّي أن يختار، بدءاً من بعد ظهر اليوم، أحد هذه الأفلام الجديدة، أو كلّها إذا شاء: «الأضاليا السوداء» لبراين دي بالما، «رايات آبائنا» لكلينت إيستوود و«ملاحظات حول فضيحة» لريتشارد آيير. ثلاثة أفلام، يُضاف إليها فيلم لينش، لا تملك المستوى الإبداعي نفسه، بقدر ما تحتفل بالسينما وبقضايا الفرد والذاكرة والعلاقات من خلال جماليات فنية ودرامية وتقنية، تبدو كأنها تمرين جديد لمحترفي صناعة الصورة هؤلاء، وأبرزهم ديفيد لينش الذي يستمر في إغراق مواضيعه الدرامية في الغموض والالتباس، كدعوة تحريضية للتمتّع بالجماليات المصنوعة من الصُّوَر المتحرّكة أمام عينيّ مُشاهد لا يتوانى عن الغرق (بمتعة) في عالم هذا المخرج المختلف. أما براين دي بالما، فبعض تعقيداته نابعة من تشابك الحكايات والعلاقات، في حين أن نصّه البصري يجعل المتلقّي أكثر تنبّهاً للمتتاليات الصوَرية. وإذا بدا لينش أكثر توغّلاً في الالتباسات المتداخلة بين بعضها البعض إلى حدود غير متناهية، على مستوى الحبكة أو القصّة (في حال عثر المتلقّي على حبكة واضحة أو قصّة ذات ملامح مفهومة)، أو أكثر ميلاً إلى ممارسة هوايته الخاصّة في تشكيل المَشَاهد بألوان متضاربة وبقع متناقضة ومتداخلة، فإن دي بالما يبقى أقلّ نزقاً فنياً جميلاً في ابتكار التعقيد المشهدي، كأنه يريد أن يحافظ على خط رفيع من الوضوح، لن يعثر عليه المتلقّي بسهولة. بينهما، يبرز كلينت إيستوود في إطار آخر. إذا اعتمدت القراءة النقدية الذاتية أسلوب المقارنة بين الشكل والمضمون، فإن «رايات آبائنا» ليس تمريناً إبداعياً غامضاً ومعقّداً على كيفية صناعة صورة وسرد حكاية، بل اشتغالٌ على جعل هذه الثنائية في خدمة نصّ إنساني يستكمل المسار الانتقادي الذي يتمسّك به إيستوود في قراءته الذات الفردية وموقعها في الجماعة، وفي نقده الحادّ للسلطة، أي سلطة. بين لينش ودي بالما، لا يختفي إيستوود، بل يكشف عن نسق إبداعي يضع النصف الأول من أي فيلم من الأفلام التي أخرجها في الأعوام القليلة الفائتة (خصوصاً) في إطار عاديّ ومتقن الصنعة في آن معاً، قبل أن يُفجّر السياق الدرامي بلحظة كافية لتبديل المسألة رأساً على عقب، ولدفع الحكايات المتداخلة إلى شكل مغاير لآلية سردها، ولتحويل الشخصيات المرسومة بحرفية فنان مبدع إلى متاهات صادمة لا تتحرّر منها بسهولة، هذا إذا نجحت في التحرّر منها أصلاً. كأن هذه المتاهات قدر أناس اختارهم إيستوود ليُقدّم دليلاً على بؤس الخاتمة التي تنتظر المرء، أو كأنها عنوان كبير يحمله المرء في يومياته وتمزّقاته الدائمة. اختلافات لا ينتمي «ملاحظات حول فضيحة» و«اسم متشابه» إلى هذا العالم السينمائي. فالأول، وإن اختار مسألة إنسانية مستلّة من حادثة جرت فصولها في المجتمع البريطاني قبل أعوام قليلة، حافظ على قواعد كلاسيكية لحبكة امتلكت تتابعاً معهوداً في سرد الحكاية، بأسلوب مشوّق يتلاءم ومناخ التوتّر والالتباسات القائمة بين صديقتين. والثاني، وإن بدا شبيهاً بتلك القصص المعروفة عن الهجرة والثقافات المتناقضة والصراع اليومي للمهاجرين في البلاد التي يقصدونها لاختبارات إنسانية، نسج تفاصيله بلغة سينمائية هادئة لا تخفي الغليان الانفعالي للشخصيات، ولا تلغي حدّة العيش في بقاع جغرافية غير معهودة. لا يوجد أي تمرين على ابتكار أشكال بصرية وجماليات صُوَرية، على طريقة ديفيد لينش وبراين دي بالما مثلاً، بل تبسيط شكلي يعكس عمق المضمون المستلّ من قضايا الفرد في تحدّياته اليومية. اختار براين دي بالما رواية جيمس إيلّروي «الأضاليا السوداء» مادة درامية لفيلمه. استعاد كلينت إيستوود فصلاً من التاريخ القديم للحرب العالمية الثانية، كي يلتقط نبض العيش اليومي على تخوم الموت، وكي يفضح تداخل السياسة بالمصالح المالية على حساب أفراد «يذهبون إلى الحرب دفاعاً عن بلدهم، فإذا بهم يناضلون فيها من أجل رفاقهم»، كما قال أحد الجنود. واقتبس ريشارد آيير قصّة زوي هلر «بماذا كانت تفكّر: ملاحظات حول فضيحة»، كي يرسم لوحة إنسانية عن معنى العلاقات والعزلة والقلق والارتباك والتمزّق الروحي. لم يكن «الأضاليا السوداء» محصوراً بحكاية تلك الفتاة المثيرة جداً، التي لم تستطع تحقيق حلمها بالشهرة الهوليوودية، فتحوّلت إلى أسطورة بسبب مقتلها الوحشي. بل اختار الفتاة والجريمة البشعة، كي يروي تفاصيل الحياة اليومية لشرطيين ملاكمين يغرقان، بسبب هذه الجريمة، في اتون التمزّقات الداخلية. فإذا بإليزابيت شورت، المعروفة بـ«الأضاليا السوداء»، تتحوّل إلى مفصل درامي أساسي، وليس إلى سرد مفصّل لحياتها القصيرة. أما «رايات آبائنا»، الذي سبق «رسائل من إيو جيما» (يتوقّع إطلاق عروضه التجارية اللبنانية قريباً)، والذي اختار الحكاية نفسها لتلك الجزيرة اليابانية لكن من وجهة نظر الجنود اليابانيين، فتداخل جميل بين الماضي والحاضر، بالألوان الرمادية والغامقة التي تعكس تمزّق الذات وألمها الكبير إزاء هول الحرب وتداعياتها، لكن أولاً وأساساً إزاء قسوة السياسة والمصالح العليا في استغلال أفراد، بتحويلهم إلى منابر متنقّلة خدمة لها. في حين أن «ملاحظات حول فضيحة» استعاد حادثة إقامة معلّمة في مدرسة فقيرة في لندن علاقة بتلميذها البالغ من العمر ستة عشر عاماً فقط، كي يدخل إلى حميمية الأفراد وعزلاتهم وسط الناس وانكسار أحلامهم ومشاعرهم. ثنائيات في خطين متوازيين، تدور أحداث «الأضاليا السوداء»: علاقة الملاكمين الصديقين بين بعضهما البعض، في دائرة الشرطة، وانفتاح أفق تدميري عليهما بسبب جريمة قتل بشعة للغاية تكشف أسراراً وماضياً غريباً لا يزال يتحكّم بأحدهما. وفي زمنين متلاحقين، لحظة المعركة والآنيّ الذي يسعى إلى كشف بعض عوالمها، يغوص «رايات آبائنا» في معاناة أفراد تحوّلوا، بسبب سطوة القيادة السياسية، إلى أبطال استعراضيين، وبات بعضهم غارقاً في ألمه الداخلي العنيف. ومع امرأتين اثنتين، تعاني كل واحدة منهما وجعها الخاص، تنكشف معالم مجتمع وتفاصيل أناس. لكن المسألة ليست هنا فقط: فالشكل السينمائي والتمرين البصري يبقيان الأجمل في فيلمي دي بالما وإيستوود، وإن اختلف مقدار الجماليات بينهما، في حين أن المضمون الدرامي لفيلم آيير مشغول بحرفية فنية وإنسانية ساهمت، إلى جانب أداء لافت للانتباه لجودي دانش وكايت بلانشيت، في منح الشكل بعده الجمالي. السفير اللبنانية في 22 مارس 2007
|