ألف وجه لألف عام
ابراهيم العريس |
صفحات خاصة
|
حقق ستانلي كوبريك خلال حياته عدداً قليلاً – نسبياً - من الأفلام، حيث انه خلال نصف قرن من المسار السينمائي، بين هوليوود ولندن، لم يحقق سوى ثلاثة عشر فيلماً روائياً طويلاً. غير ان كل واحد من هذه الأفلام اعتبر تحفة في مجاله. بل قيل دائماً ان كوبريك إما كان يفتتح في كل فيلم له، نوعاً سينمائياً جديداً، أو يحدث قلبة أساسية في نوع كان موجوداً من قبله. وهكذا كانت أفلام له، مثل «سبارتاكوس» و «خطوات المجد» و «لوليتا» و «دكتور سترانجلاف» و»اوديسا الفضاء» و «اشراق» على سبيل المثال تحفاً أولى واستثنائية في أنواع مثل سينما التاريخ القديم، وسينما مناهضة الحرب، وجنون الحب، وجنون القنبلة النووية، والخيال العلمي وسينما الرعب، على التوالي. أما الكتب الكثيرة التي تتناول حياة كوبريك ومساره السينمائي، فإنها غالباً ما تتحدث عن مشاريعه التي لم يحققها أبداً حتى وإن كان كل منها قد شكل هاجساً لديه داعبه وأقلقه سنوات طويلة. ولعل المشروع الذي كان الأعز على فؤاد كوبريك مشروع حمله منذ البداية وظل حتى النهاية يسعى إلى تحقيقه من دون جدوى، وهو مشروع عن حياة نابوليون وجنون حروبه، كان كوبريك يرى في تحقيقه تتويجاً لسيرته السينمائية، التي قامت هي الأخرى، على مفهوم الحديث عن شتّى أنواع الجنون. وكان كوبريك يرى أن فيلماً يحققه عن نابوليون، سيكون ذريعة لديه كي يطل على القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، اللذين سحراه في شكل خاص أو اعتبر انهما القرنان اللذان عبّرا عن أقصى درجات العقلانية كما عن أقصى درجات الجنون في مسار الإنسان. طبعاً نعرف ان كوبريك لم يحقق هذا المشروع النابوليوني أبداً... لكننا نعرف في المقابل انه تمكن ذات مرة من ان يطل على تلك الحقبة الزمنية إطلالة مميزة، وإن كانت - من ناحيته، - أقل طموحاً مما كان يرتئيه لمشروع عن نابوليون. كان ذلك عبر فيلمه «باري ليندون» الذي اقتبسه عن رواية معروفة للكاتب الإنكليزي ويليام تاكري عنوانها «خط باري ليندون» تدور أحداثها خلال القرن الثامن عشر. هنا، قبل الحديث عن هذا الفيلم لا بدّ من الإشارة الى ان ستانلي كوبريك اقتبس معظم أفلامه من كتب روائية، أو غير روائية... لكنه مع هذا استحوذ تماماً على النص ليدخله، سينمائياً، في منظومته الفكرية الخاصة. وهو لم يشذ عن هذه القاعدة التي اختطها لنفسه في «باري ليندون»، اذ هنا، وحتى إن كان الفيلم يبدو أميناً تاماً للرواية، مناخاً وأحداثاً، وحتى من ناحية المغزى، فإنه – أي الفيلم – يبدو مرتبطاً تماماً بالنسق الفكري – والشكلي حتى – الذي طبع كل سينما كوبريك، بدءاً من التركيز على مسألة جنون الكائنات البشرية، وصولاً إلى لا جدوى كل الجهود التي يبذلها الكاتب البشري ليتجاوز كينونته المفروضة في الأصل عليه، عاطفياً أو فكرياً، أو جغرافياً أو طبقياً. والحقيقة ان هذه الأبعاد كلها نراها مجتمعة في «باري ليندون» تماماً كما يمكننا ان نراها كذلك مجتمعة في كل فيلم آخر من أفلام كوبريك. > تدور أحداث «باري ليندون» اذاً في القرن الثامن عشر، انطلاقاً من ايرلندا، ومنذ البداية تطالعنا معركة حربية وظيفتها المباشرة ان تضعنا على تماس مع شخصيته، ردموند باري، الذي سرعان ما نعرف ان أمه قامت بتربيته بعد مقتل أبيه في مبارزة خاضها. وما إن يشب عن الطوق حتى يقع ردموند في غرام نورا برادي... غير ان ثمة ضابطاً انكليزياً كان هو الآخر مولعاً بالفتاة وتقدم إلى خطبتها. فما العمل؟ يفتعل ردموند خناقة مع الضابط ما يؤدي الى قيام مبارزة قاتلة بينهما، يعتقد ليندون على أثرها أن الضابط قد قتل ولا يكون أمامه إلاّ أن يهرب. ويكون ذلك الهرب بداية لرحلة بيكارية يتنقل خلالها باري من مكان إلى آخر ومن مغامرة إلى أخرى، ولكن أيضاً - وكان هذا منذ البداية إحدى غاياته الأسمى – من طبقة إلى أخرى. والحقيقة ان ما يساعد باري على كل ذلك التنقل، جرأته وانتهازيته. فالشاب، كما يقدمه الينا الفيلم، انتهازي حقيقي تقوده انتهازيته إلى ما يصبو إليه، فيما يقوده حسه المغامر إلى مصير يبدو في معظم الأحيان غير متلائم مع الهدف. وهكذا مثلاً، منذ بداية هرب باري خوفاً من عقاب سيطاوله جزاء «قتل» الكابتن كوين، الضابط الإنكليزي، في المنافسة، تتمكن عصابة من قطّاع الطرق من سلبه كل ما يملك على الطريق، ثم يجد نفسه مضطراً إلى الانضمام إلى القوات العسكرية، وبالتالي إلى خوض حرب لم يكن راغباً أصلاً في أن تكون له أية علاقة بها، هي حرب «السنوات السبع». وخلال المعركة التي يخوضها منذ دخوله القسري إلى الجيش، يعلمه صديق له هو الكابتن غروغان ان كوين لم يمت، بل شفي ثم تزوج من نورا. يشعر هنا باري بحزن شديد، ليس لأنه يحب نورا، بل لإحساسه بأن كل ما فعل حتى الآن انما كان من دون جدوى، وأن هربه ورّطه في ما خاض حتى الآن. وهكذا يتخذ قراره بالفرار من الجيش ويفعل، غير انه ما إن يستعيد حريته حتى يلتقي حليفاً من الجيش البروسي هو الكابتن بوتسدورف. وهو ما إن يأمن لهذا الحليف، حتى يكشف هذا الأخير حقيقته كفارٍ من الجيش ويجبره هذه المرة، على الانخراط في جيشه البروسي. ثم يكلف هناك بأن يتجسس على فارس إيرلندي مثله، هو باليباري، لكنه ما إن يشرع في تنفيذ المهمة حتى يعترف أمام هذا الفارس بحقيقة ما كلف به... فتكون النتيجة ان يرتاح باليباري إليه ويأخذه تحت حمايته. وهكذا يستأنف باري مشروع صعوده الاجتماعي الذي كان دخوله جيشاً تلو الآخر قد أبعده عنه. وإذ يبدأ ممارسة حياة مدنية مدعوماً من حاميه ومواطنه، يبدأ في ارتياد نوادي القمار. وذات يوم في أحد هذه النوادي يتعرف الى الكونتيسة الثرية ليدي ليندون، التي من بعد موت زوجها تتزوجه مانحة إياه اسمها العريق فيصبح اسمه باري ليندون، ويشعر انه خطا خطوة أخرى في طريق الصعود الاجتماعي. غير ان طبيعته الفوضوية الانتهازية، وأصوله الوضيعة، لا تمكنه من ذلك. اذ ها هو، وفي عز اهتمام زوجته الكونتيسة به، يخونها من دون أن يحسب حساباً لغضبها. ثم ها هو، من ناحية أخرى، يصطدم بالفتى ابن زوجته. هو فتى صغير السن، لكنه في السلّم الاجتماعي نبيل ذو شأن ويعرف باللورد بالنغدون. وهذا اللورد الصغير لم يستسغ منذ البداية زواج أمه من ذلك الأفاق الوضيع، لذلك يناصبه العداء ويجابهه في كل مرة غالباً اياه، انطلاقاً من موقعه الطبقي... وأحياناً أمام الآخرين، ما يجعل باري ليندون يشعر في كل مرة بأن طريقه الى أعلى درجات المجتمع ليست بالسهولة التي كان يتصور. وتكون الكارثة حين يموت ابنه، برايان، الذي انجبه في تلك الأثناء. ما يدفعه الى مزيد من اليأس والانطواء على نفسه، مبتعداً أكثر وأكثر عن زوجته التي تحاول الانتحار. وفي النهاية ها هو اللورد بالنغدون قد شبّ عن الطوق ويدعوه الى المبارزة ثم يجرحه. وهنا لم يعد باري يجد أمامه من حل آخر لحياته سوى الابتعاد نهائياً عن انكلترا... فيفعل. > من ناحية ظاهرية تبدو احداث هذا الفيلم خطية متوقعة سلفاً، غير أن الواقع يقول لنا ان هذه الاحداث، لم تعد بين يدي ستانلي كوبريك ( - 1999) سوى ذريعة من ناحية لتأكيد افكاره حول الانسان والحياة والوحدة والجنون، والاخلاق والمجتمع – كما فعل في كل فيلم آخر من افلامه – ومن ناحية ثانية لتأكيد لغته السينمائية القائمة على استخدام الشاشة الكبيرة مصباً، لكل الفنون... فهنا يشتغل التوليف السينمائي، بقوة، عبر موسيقى (استقاها كوبريك من كلاسيكيات القرن الثامن عشر لموزارت وهاندل وشوبرت) تخلق عالماً من السحر ومن الواقع التاريخي في الوقت نفسه كما عبر فن تشكيلي سيطرت عليه أعمال كونستابل، ولغة حوار تتراوح بين السوقية ولغة الشعر، ناهيك بألعاب مسرحية وألعاب اقنعة، اعطت العمل كله مناخاً غريباً، كان همّ كوبريك من خلاله أن يؤرخ لتلك الشخصية الانتهازية، مؤكداً ان باري ليندون هو، بأخلاقه هذه، المفتتح الحقيقي للحداثة الاخلاقية وللعبة الإخفاق التي هي اللعبة الوحيدة التي يمكن شخصية من هذا النوع ان تلعبها. الحياة اللندنية في 19 مارس 2007
|