الساعة بطلاً في العمل السينمائي بقلم : ناجح حسن |
صفحات خاصة
|
يعمد كثير من المخرجين السينمائيين إلى تطوير إبداعاتهم في أساليبهم الجمالية، باستلهام مفردات عينية مستخدمة من بين ثنايا الواقع وتفاصيله، ويبنون على هذه المفردات مسار الأحداث في الفيلم كحالة من الاشتباك اليومي المعاش. وعلى الرغم من البساطة والبراءة الظاهرة التي تتميز بها تلك المفردات، إلا أن الاستخدامات الموفقة والذكية مكنت أولئك المخرجين من الوصول بأعمالهم إلى قطاع عريض من الناس والنقاد بحيث جلبت إليهم الشهرة والفضل بتكريس الريادة نتيجة لجهودهم الدؤوبة في بحثهم المتواصل بغية إيجاد وسائل تعبيرية إضافية لإسباغها على الصناعة السينمائية ومنحها المزيد من الألق والافتتان. وكان من بين هذه المفردات المستخدمة الساعة بما تشير إليه من دلالات تتحكم بمجرى أحداث الفيلم الذي هو أصلا جزء أساسي وحيوي في اتكائه على عنصر الزمن، إذ تشي الساعة بإيحاءات عميقة المضامين، مشرعة على شهادات تتعلق بمصائر الشخصيات وتقلباتهم في لحظة عابرة من ناحية أخرى. وما تزال الذاكرة السينمائية تعصف فيها تلك التعابير الذكية البديعة واللماحة التي قدمها المخرج الاميركي فريد زينمان في فيلمه الويسترن ظهيرة ساخنة العام 1952 الذي أصبح واحداً من بين الكلاسيكيات الشهيرة، عندما وظف عقارب الساعة المثبتة على حائط بعشرات المشاهد متدرجة اللقطات ومن خلالها يسرد زمن حقيقي تدور فيه الأحداث بتزامن فريد ومتواز مع الزمن السينمائي للفيلم الذي يتابعه المشاهد بتشويق وترقب. تتمحور حكاية الفيلم حول شريف البلدة الذي يعمل على فرض الأمن بالبلدة لسنوات ثم يهيئ نفسه للتقاعد بعد أن عثر على عروسه المناسبة، وهما بصدد حزم أمتعتهما والسفر بعيدا.. لكن يحدث أن يعلم أن احد الخارجين عن القانون والشهير بجرائمه سوف يصل البلدة على قطار الظهيرة للانتقام من شريف البلدة بعد أن أمضى فترة محكوميته بالسجن. يأخذ الشريف طوال الفترة التي ينتظر فيها وصول القطار وهي لا تتجاوز الساعة ونصف الساعة بإعداد نفسه لمواجهة مع المجرم رغم محاولات ثنيه عن التصدي من قبل أهالي البلدة الذين يجتمعون في الكنيسة ويقررون تشجيع شريف البلدة على السفر قبل وصول الخارج عن القانون وبصحبته مجموعة من المجرمين.. بيد أن الشريف يقرر التصدي للعصابة وحيدا في الوقت الذي يكون فيه أهالي البلدة قد لاذوا في بيوتهم اتقاء للسلامة دون تقديم أي مساعدة أو عون للشريف في مواجهته المسلحة لزمرة الخارجين عن القانون، وينجح في ذلك، ثم يمضي بعيدا عن البلدة وبصحبته عروسه أمام تساؤلات أهل البلدة الذين كانوا قد خرجوا في محاولة للاطلاع على نتائج المواجهة. سجل فيلم ظهيرة ساخنة سابقة قلما تنبهت إليها السينما العالمية في براعة الإخراج بإقامة نوع من التعادل بين الزمن السينمائي والزمن الذي تدور فيه الأحداث على نحو فاجأ عشاق السينما بحيث اكتشفوا فيه قدرة السينما على سرد الأحداث بتوظيف متين لعقارب الساعة من اجل التأكيد على مضي الوقت وتشويق المشاهد بدنو المواجهة الساخنة بين قطبي الخير والشر، وهو ما وضع العمل في قائمة الأفلام الكبيرة رغم محدودية الاماكن والشخصيات التي اشتمل عليها، وصار اليوم من ابرز الأعمال التي يشار إليها كوسيلة تدريسية وتدريبية في معاهد وكليات السينما بأرجاء المعمورة. على نحو آخر قدّمت المخرجة الفرنسية أنيس فاردا العام 1962 بفيلمها اللافت كيلو: من السابعة إلى التاسعة ما يمكن اعتباره ذروة في الاشتغال على العناصر الزمنية التي تغوص في الجوانب الإنسانية، عندما صورت موضوع فيلمها الذي يناقش الهاجس المرضي الذي تعيشه مغنية شهيرة لها رصيدها الجماهيري وحضورها الإبداعي في الحياة الفرنسية عندما تذهب إلى واحد من المختبرات الطبية في قلب العاصمة الفرنسية للكشف عن نتيجة إصابتها بمرض السرطان، لكن القائمين على المختبر يطلبون منها الانتظار مدة ساعة ونصف الساعة. عند ذلك نجد المغنية تقع فريسة الترقب والانتظار، وبدا كأن الزمن يكاد يتوقف في التسعين دقيقة التي هي مجمل أحداث الفيلم، وتأخذ الكاميرا في تتبعها طوال تلك المدة، إذ تذهب إلى الطبيعة والمتنزهات والمقاهي القريبة، وأيضا إلى صالة سينما، وهناك تشعر بالسعادة والقيمة الحقيقية للحياة وبهجتها وهي التي طالما كانت بعيدة عنها جراء عملها المتواصل والمليء بأجواء الزيف والخداع ومظاهر الاستهلاك.. وفي ذلك كله تكتشف عالما آخر غير ما كانت تعيشه سابقا، خصوصا لدى لقائها الجندي العائد من حرب الجزائر الذي يسرد على أسماعها حجم المقاومة الجزائرية وكلفتها الإنسانية بغية نيل الاستقلال والتحرر. ورأت المغنية في العلاقات القصيرة التي نجحت في إقامتها خلال فترة الانتظار فسحة من السعادة والضحك والاندماج مع أولئك الناس البسطاء، مما قادها في اللحظات الأخيرة من ترقب نتيجة الفحص المخبري إلى مجابهة مصيرها بشجاعة بعد أن تغلبت على الشعور بدنو الأجل ورهبة الموت. على نحو قريب من هذه المعاناة جاء فيلم لا شيء سوى الحقيقة للمخرج الاميركي الشهير اورسن ويلز الذي صور أحداثه في باريس بأسلوبية يختلط فيها التسجيلي بالروائي، وتدور سلسلة أحداثه في ساعة كاملة داخل محطة قطار عندما يتأخر عن موعد سفره، مما يستدعي من المسافرين انتظار القطار التالي، ويأخذ الفيلم في سرد بعض أوجه التزوير والخداع التي تعصف بالأعمال الإبداعية سواء ما كان منها لوحة تشكيلية لبيكاسو أو ما تحمله تلك الشخصية الاميركية ذائعة الصيت في الإنتاج السينمائي، وغيرها من الشخصيات اللامعة إبان أكثر من حقبة زمنية في القرن الماضي. ظل فيلم لا شيء سوى الحقيقة واحدا من الأعمال المجهولة في مسيرة ويلز الطويلة، بيد انه شكل ببساطته عالما مثيرا في قدرة السينما على القبض على اللحظة الزمنية والغوص فيها بأعماق النفس البشرية وتعريتها من الصدأ الروحي، ومن ثم تشكيلها بمضامين جديدة تستند إلى المشهد الإبداعي بأسره. ومن بين الإنتاج الحديث في السينما الاميركية المغايرة للسائد يحضر فيلم الساعة الخامسة والعشرون من توقيع المخرج سبايك لي العام 2002، الذي يتتبع احد تجار المخدرات طوال أربعة وعشرين ساعة قبل أن يسلم نفسه إلى إدارة السجن. وفي الفيلم يبين لي حجم الأحاسيس والمشاعر في شوارع مدينة نيويورك التي كانت تتهيأ للاعتداءات التي أصابتها العام 2001، وكأنه يطلق صرخة تحذيرية لما تنتظره من أحداث جسام تبدو كسمات على وجوه شخوص الفيلم الذي يلتقيهم تاجر المخدرات مودعاً عائلته وأصدقاءه، وُفق لي في تقديمها بعناصر من اللغة البصرية في توالي الساعات على نحو ميلودرامي مميز بعيدا عن الزعيق أو توسل المتلقي بإثارة النموذج الهوليوودي المعهود. وثمة أفلام أخرى عديدة في هذا السياق، منها: وقت محدد لجون بادهام، وحديثا 88 ملم العام 2006 لجويل شوماخر الذي اضطلع بتأديتهما نجمان شهيران (جوني ديب للعمل الأول، وآل باسينو للفيلم الثاني)، وهما يسلكان نهج ظهيرة ساخنة لزينمان، وأيضا فيلم سرعة والعشرات من الأعمال الشبيهة التي اختارت عناصر الزمن والساعة في سرد أحداثها وهي تتحرى وقائع طافحة بالأحداث وعناصر التشويق البوليسي أو تلك الدراما العاطفية في أفلام: ساعات للمخرج ستيفن دالداري العام 2003 المستمدة أحداثه عن رواية أدبية شهيرة لفرجينيا وولف، وهو يتناول قصة ثلاث نساء يتساءلن عن معنى الحياة ووجودهن رغم أنهن يقمن في مناطق وأزمان متباينة، فالأولى هي المؤلفة نفسها في لحظة وجودها للمعالجة من اضطرابات نفسية، والثانية قارئة للعمل الأدبي وتتعمد أن تتخلى عن ثوابتها في الحياة، والأخيرة فتاة عصرية تتشابه علاقتها مع الآخرين مع بطلة رواية السيدة دالاوي. إلى جانب ذلك هناك أفلام قدمتها السينمات العالمية، منها حول العالم في 80 يوما بالعديد من النسخ التي كان آخرها العام 2004 ووقعه المخرج فرانك كوراسي عن رواية جول فيرن المعروفة، إذ تلعب فيه الساعة عاملا تشويقيا مفعلا للأحداث وللحبكة الدرامية. وهناك الفيلم الياباني هوائي لمخرجه كازيوشي كوماكيري العام 2002، وفيلم تحت السحاب للأسترالي ايفان سن، والفيلم الإيطالي الروسي المشترك الاثنين صباحا، وفيلم بعد المغيب لريتشارد وينكلر 2004، إضافة إلى الفيلم الإيراني طهران الساعة السابعة صباحا لأمير شهاب رازمياني 2004، وجميعها تحكي بقالب من الدراما العاطفية قصصا في لحظات زمنية متدفقة بالأحداث، وتنشد إدانة للمفاهيم والسلوكيات الدارجة، كما يتقارب فيها الزمن الفيلمي والزمن الحقيقي، ويجري من خلالها استيعاب الأمكنة والشخصيات والذاكرة. * ناقد سينمائي أردني الرأي الأردنية في 16 مارس 2007
|