واقعية الزمن في الفن السابع بقلم : عدنان مدانات |
صفحات خاصة
|
يزخر تاريخ السينما العالمية بعدد وفير من الأفلام السينمائية التي تدور مواضيعها في فلك الانتقال عبر الزمن، سواء أكانت الحكاية تتعلق بانتقال أبطال الأفلام من الحاضر إلى الماضي أو من الحاضر إلى المستقبل، وكذلك الأفلام التي تبحث في تأثير الزمن على الشخصيات والأحداث، إضافة إلى الأفلام التي تحاول أن تطابق بين زمن الحدث وزمن الفيلم، وغير ذلك من مقاربات للمواضيع التي تدور في فلك الزمن والسينما. توجد في رواية الصخب والعنف للكاتب الأميركي ويليام فولكنر فقرة تتضمن نصا منطوقا بلسان أحد شخوص الرواية الرئيسيين يحكي فيه عن الساعة التي أهداه إياها والده ذات يوم وهو يقول له: أعطيك هذه الساعة، لا لكي تذكر الزمن، بل لكي تنساه. لو وجهنا هذه النصيحة للمخرجين السينمائيين وطلبنا منهم أن ينسوا الزمن لاستهجنوها، ذلك لأن الزمن عنصر أساسي في بنية الأفلام السينمائية، والأفلام إذ تلجأ إلى تصوير الساعة خاصة في لقطات كبيرة مقربة، فهي تفعل ذلك لأنها لا تستطيع أن تستغني عن الحاجة لتصوير وتوظيف الساعة ككيان مادي، وذلك لأسباب عدة منها ما يتعلق بضرورة التعريف بمسيرة الزمن في الفيلم، ومنها ما يتعلق بخلق حالة من التشويق في انتظار حصول حدث ما. وفي واقع الحال باتت الساعة عنصرا رئيسيا لا يمكن الاستغناء عنه في أفلام التشويق والحركة، إذ يحبس المشاهدون أنفاسهم وهم يراقبون محاولات الخبير فك أسلاك ساعة القنبلة الموقوتة، أو قلق العاشق وهو يسمع دقات الساعة في انتظار قدوم المحبوبة، وغير ذلك من حالات ومواقف. يعدّ الفيلم الأميركي قطار الظهر للمخرج فريد زينمان والذي جرى إنتاجه في العام 1952، نموذجا فريدا ورائدا في تاريخ السينما العالمي في مجال العلاقة مع الزمن وتوظيف الساعة كعنصر أساسي في بنية الفيلم. يتحدث الفيلم عن شريف إحدى البلدات الصغيرة يعلم أن رجال عصابة أشرار كان قد تسبب في اعتقالهم قد خرجوا من السجن وهم في طريقهم نحو البلدة بهدف الانتقام منه. ويحاول الشريف الاستنجاد بأهالي البلدة لكنهم جميعا يتخلون عنه فيقرر الرحيل، لكنه في اللحظة الأخيرة يعدل عن قراره وبعد ذلك يدخل في مواجهة مع أفراد العصابة تنهي بانتصاره عليهم. يحصل كل ذلك خلال ما يقارب الساعة ونصف الساعة، إذ تتطابق مدة عرض الفيلم مع زمن أحداث القصة. ينتمي فيلم قطار الظهر إلى نوع أفلام رعاة البقر، ولكن ما يميز عن بقية أفلام هذا النوع هو مضمونه السياسي، فهو يحكي بين الأسطر عن فترة ماكارثي الذي حاول أن يجبر المثقفين الأميركيين اليساريين على التخلي عن مبادئهم وفرض على العديدين الاستنكاف عن الدفاع عن رفاقهم. كانت وتيرة الأحداث في الفيلم متلاحقة ومتسارعة بطبيعة الحال، لكن المخرج لم يكتفِ بذلك بل أدخل الساعة، ساعات الحائط المعلقات في مختلف الأمكنة التي تجري فيها أحداث الفيلم، كعنصر يزيد في التوتر والتشويق. ويشير الناقد محمود الزواوي في كتابه عن روائع السينما الأميركية إلى: أن المخرج استخدم ساعة الحائط بصورة متكررة كأداة للتأكيد على مضي الوقت بسرعة واقتراب موعد المواجهة بشكل حوّل الساعة إلى إحدى شخصيات الفيلم الرئيسية. وتظهر الساعة في الفيلم بأشكال مختلفة أكثر من 55 مرة ويكبر حجمها تدريجيا مع اقتراب ساعة الصفر. وقد يجد بعضهم في هذه النوعيات المختلفة من الأفلام فرصة لكتابة أبحاث عن السينما والزمن، وذلك من خلال عرض وتحليل مجموعة الأفلام التي تدور أحداثها في هذا الإطار. ومن ناحية، تتيح السينما أيضا فرصة مغايرة للحديث عن علاقتها بالزمن بعيدا عن مواضيع الأفلام، وذلك اعتمادا على الدور المركزي الذي تقوم به عملية المونتاج أثناء سرد الأحداث لغاية تطويل زمن الحدث أو تقصيره، تسريعه أو إبطائه، سرد الحدث على نحو متسلسل أو على نحو متقطع ويتداخل مع أحداث أخرى. في كل هذه الأحوال لا تبدو السينما متمايزة بقدراتها هذه عن الأدب، فالأدب يستطيع فعل ذلك كله. وهذا ما يستدعي السؤال عن ما يميز علاقة السينما بالزمن عن علاقة الأدب بالزمن، وما هو جوهر هذا التمايز ومدى ارتباطه بخاصية السينما. وفي الواقع لم يحظ هذا الجانب المركزي الخاص بالعلاقة البنيوية بين السينما والزمن باهتمام الباحثين السينمائيين على نحو خاص أو حتى بالقدر المطلوب من العناية. ما يقال في هذا الصدد عادة حول علاقة السينما بالزمن هو اعتبار أن السينما تتميز عن غيرها من الفنون والآداب في كونها فنا زمانيا مكانيا في آن واحد. ومن ناحية أخرى هناك توافق عام بين الباحثين على أن السينما تمتاز بكونها تجعل مشاهدي الأفلام أثناء مشاهدتهم لأحداث الفيلم يتعاملون مع تجربة العيش والتفاعل مع الأحداث في الحاضر، بمعنى أن زمن الفيلم لحظة المشاهدة هو على الدوام الزمن الحاضر، وذلك بغض النظر عن كون الفيلم يروي أحداثا تجري في الماضي أو في الحاضر أو في المستقبل. لكن، ثمة جانب آخر أكثر جذرية يرتبط بعلاقة السينما بالزمن من حيث جوهر بنية وطبيعة السينما، وهذا الجانب هو ما سعى للبحث فيه وإن دونما توسع عندما نشر قبل نحو ثلاثين عاما مقالة له، عدّها في حينه بمثابة بيان سينمائي، ووضع لها العنوان التالي: الزمن المسجل. والذي أكد فيه أن السينما قبل كل شيء زمن مسجل، وأنه هنا يجب البحث عن جذور خاصية الفن السينمائية. والمقال المذكور صدر ضمن كتاب خاص عن المخرج أندري تاركوفسكي بعنوان السينما والحياة، وهو من منشورات سلسلة الفن السابع التي تصدر عن المؤسسة العامة للسينما بدمشق. إن السؤال المهم الذي يطرحه الكاتب في هذا الصدد هو التالي: في أي شكل تسجل السينما الزمن، فهل هذا الشكل واقعي، إذ يمكن تصنيف الأحداث والحركة البشرية وأية مادة أخرى بصفة واقعة، ومن الممكن عرض هذه المادة بشكل ساكن غير متحرك، إذ أن السكون موجود في الزمن المتدفق بشكل واقعي. يصف تاركوفسكي في مقالته تفاصيل أول فيلم في تاريخ السينما وهو فيلم وصول القطار إلى المحطة الذي شاهد فيه المتفرجون الأوائل على الصور المتحركة أشخاصا واقفين في انتظار القطار وقطاراً يقترب من واجهة الشاشة، فأصاب المشاهدون الذعر بسبب الخوف من القطار. يستخدم تاركوفسكي هذا الحدث ويضعه في سياق أعم فيكتب: أعتقد أن ولادة الفن السينمائي تمت في تلك اللحظة بالذات، فالأمر لم يكن متعلقا بوجود تقنية سينمائية وأسلوب جديد لإعادة خلق العالم، وإنما بولادة مبدأ جمالي جديد. يتلخص هذا المبدأ بأن الإنسان تمكن، للمرة الأولى في تاريخ الثقافة والفن، من العثور على أسلوب يمكنه، بشكل مباشر، من تسجيل الزمن، وفي نفس الوقت نفسه إمكانية عرض تدفق هذا الزمن لمرات عديدة.
لقد حصل
الإنسان بين يديه على قالب للزمن الواقعي. لقد أمكن الآن حفظ الزمن المرئي
والمثبت داخل علب معدنية ولفترة زمنية طويلة، ونظريا يمكن حفظه إلى الأبد. من هذا المنطلق المستند إلى واقعية السينما يقف المؤلف، والذي صار بعد سنوات من كتابة هذه المقالة/ البيان، يلقب من قبل النقاد السينمائيين في العالم بشاعر السينما، موقفا مضادا للاتجاه نحو ما يوصف بالسينما الشعرية، إذ يؤكد أن بعض النزعات التي تدعو إليها السينما الشاعرية المعاصرة، ومنها الدعوة للانقطاع عن الواقعة و واقعية الزمن، تؤدي بالنتيجة إلى تصنع وتفنن مزيف بالتعبير، ذلك لأن السينما بطبيعتها ملتزمة بإظهار الواقع وليس بطمسه. وبالتالي فإن نقاء السينما وقوتها لا يكمنان في حدة الصور والأشكال الرمزية، بل إن هذه الصور تعبر عن الخصوصية الفريدة للواقعة الحياتية. ويتساءل تاركوفسكي: بماذا يتلخص عمل المؤلف في السينما؟ بشكل افتراضي يمكن تحديده على أنه نحت في الزمن. تماما مثلما يأخذ النحات قطعة المرمر وينقاد بإحساسه الداخلي لملامح عمله المقبل فيلقي بكل ما هو غير ضروري، كذلك السينمائي يتناول صلصال الزمن التي تحتوي على كمية هائلة لا حصر لها من الوقائع الحياتية، ويختار منها، ثم يحذف ما لا ضرورة له ليبقي فقط على ما يجب أن يكون عنصرا لفيلم المستقبل وجزءا من الصورة السينمائية. يعدّ المؤلف أن السينما هي الزمن بشكل واقعة وان السينما قادرة على تشريح واقعة منتشرة في الزمن واختيار ما يحلو لها من الحياة، إذ تتلخص فكرة السينما ومعناها في التعبير عن المواجهة القائمة بين الإنسان وبيئته الأبدية، وفي اختيار الإنسان المحدد من بين عدد لا يحصى من الناس العابرين قربه وبعيدا عنه، وكذلك التعبير عن علاقته بالعالم. وهكذا يتوصل المؤلف إلى تفسير الطريقة التي تتشكل فيها الواقعة في السينما، إذ يعدّ انه إذا كان الزمن في السينما يقدم بشكل واقعة، فإن الواقعة تقدم بشكل الرصد المباشر والمتواصل لها. إن الرصد يمثل البداية الرئيسية المكونة للسينما. وإن الصورة السينمائية، في جوهرها، عبارة عن رصد الوقائع الحياتية المتدفقة في الزمن المنظم بتناسب مع أشكال الحياة وقوانينها العامة. ويخضع الرصد للاختبار لأننا نحتفظ على الشريط السينمائي بما له الحق في أن يكون جزءا من الصورة، وينتج بالتالي أننا لا نستطيع تجزيء الصورة السينمائية أو فصلها عن طبيعتها الزمنية، أي انه لا يمكن إلغاء الزمن المتدفق فيها، والصورة تصبح سينمائية بحق عندما يكتمل هذا الشرط الأساسي بحيث تعيش الصورة في الزمن ويعيش الزمن فيها، بدءا من كل لقطة منفصلة. وأخيرا، يميز تاركوفسكي بين الموسيقى، وهي فن زمني بالمطلق، وبين السينما بالعلاقة مع الزمن، إذ يعد أن الموسيقى أقرب الفنون الأخرى إلى السينما، لأن مشكلة الزمن أساسية فيها أيضا على الرغم من أن العلاقة مع الزمن تحل في الموسيقى بشكل مختلف تماما فالمادة الحياتية في الموسيقى تنحو نحو التجريد، أما قوة السينما فتكمن بأن الزمن يؤخذ في اتصال واقعي ومتماسك مع المادة المحيطة بنا في كل يوم وكل ساعة. * ناقد سينمائي أردني الرأي الأردنية في 16 مارس 2007
|