سينماتك

 

«مذكرات كتاب الحرية» وقصة معلمة أميركية

مخرجون يستغلون «المحرقة» ويدخلونها عنوة في أفلامهم

الوسط - نبيل عبدالكريم

 

 

 

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

 

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

 

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

 

أرشيف

إبحث في سينماتك

 

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

 

سينماتك

 

إلى متى يستمر بعض المخرجين السينما الأميركية في استغلال المحرقة (الهولوكست) واستخدامها وسيلة للارتزاق وكسب الشهرة والجوائز؟

هذا السؤال يقفز إلى الذهن خلال مشاهدة فيلم «مذكرات كتاب الحرية». فالشريط السينمائي لا بأس به عموماً. ولكنه أدرج من دون سبب مقنع موضوع «المحرقة» محاولاً الاستفادة منها بأسلوب تجاري رخيص لأغراض قد تكون شخصية.

انطلق الفيلم من حوادث 1992 العنصرية التي شهدتها مدينة لوس انجليس الأميركية وجاءت الدقائق العشر الأولى موثقة وقوية للغاية. آنذاك اجتاحت عاصمة ولاية كاليفورينا موجة من العنف فاندلعت الحرائق وأخذت العصابات تجتاح الأحياء وامتدت الاشتباكات إلى مختلف الشوراع مرتدية الطابع العنصري (اللوني) فحولت المناطق إلى جزر عرقية تحاول كل واحدة منها أن تدافع عن نفسها ضد الآخر.

بداية الفيلم كانت قوية للغاية فهي تتحدث عن أزمة معاصرة حصلت في العقد الأخير من القرن العشرين. وكانت المواجهات عنيفة في حدتها وكشفت أمام العالم الوجه الآخر للولايات المتحدة. فهذه الدولة الكبرى التي تدعي أنها تجاوزت في نموذجها الراقي كل الأنظمة في الكرة الأرضية انكشفت أمام شاشات التلفزة وظهرت للرأي العام عارية بمشكلاتها الاجتماعية والعرقية. وشكلت تلك الحوادث مناسبة لإعادة القراءة في التاريخ الأميركي ومدى نجاح هذه الدولة الكبرى في حل مشكلات التمييز العرقي واللوني والطبقي.

بدأ الفيلم - بصور توثيقية سجلت وقائع الهجمات والمواجهات وظهرت المدينة أنها مجرد أحياء منعزلة عن بعضها ومجموعة جزر لونية. فهذه للبيض وتلك للسود. وهذه للصفر وتلك للحمر. وهذه يقطنها كوريون وتلك صينيون وأخرى لاتينيون وغيرها وغيرها من مجموعات تعيش في مدينة واحدة ولكنها غير متعايشة مع بعضها وتكره بعضها وتخاف من بعضها وتحسد بعضها وتشعر كل مجموعة بالغبن والتمييز الاجتماعي والتفرقة العنصرية.

البداية رائعة وهي مهمة في مقدمة موضوعها ولكن النهاية كانت سخيفة وساذجة وغير مقنعة ولا تتوازن مع خطورة مشكلة معقدة ليس سهلاً تجاوزها.

بعد عشر دقائق أخذ الفيلم ينحرف عن موضوعه الرئيسي ليدخل في قصة اجتماعية عادية. القصة تتحدث عن معلمة مدرسة في تجربتها الأولى. فالاستاذة بيضاء البشرة وتنتمي إلى أسرة مرتاحة اجتماعية ومنفتحة على الناس وخصوصاً والدها الذي يملك تجربة سياسية في مجال أنشطة حقوق الإنسان. وبسبب هذه التربية الخاصة اتجهت الابنة (معلمة المدرسة) في السياق الحقوقي والإنساني وتشكل وعيها في دائرة التعاطف مع المظلومين والمحرومين. فهي كوالدها ضد التفرقة الاجتماعية والتمييز العنصري واللوني وهي تؤمن بالمساواة وإعطاء الفرص للجميع. إلا أنها لا تملك تجربة واقعية ولا تعرف أن الأفكار الصحيحة تحتاج إلى إطار اجتماعي عنده الاستعداد لتقبل تلك المبادئ والمثل.

بهذه الذهنية البسيطة بدأت المعلمة ساعتها الأولى في التدريس لتكتشف منذ يومها الأول أن هناك مسافة بين القول والعمل وبين الفكر والواقع. كادت الأستاذة أن تصاب بالإحباط خصوصاً حين سمعت من والدها بعض التوجيهات والإرشادات ومن زوجها بعض الملاحظات ومن رئيسة القسم الكثير من الاعتراضات. فالمعلمة كانت متحمسة لتطبيق الأفكار وتحويل قناعاتها إلى واقع يمكن الأخذ به كإطار للعمل الميداني. وهكذا تدخل في مشكلات كثيرة مع مديرة القسم، ثم مع تلامذة الصف. فالمديرة كانت معترضة على قرار حاكم الولاية الذي طلب من المدارس فتح أبوابها للجميع بهدف دمج الأعراق وخلطهم في تربية وطنية جامعة. وبرأي المديرة أن هذا القرار أدى إلى هرب 75 في المئة من التلامذة وانتقالهم إلى معاهد أخرى، كذلك أدى إلى هبوط مستوى تصنيف المدرسة من الدرجة الأولى إلى درجات دنيا بسبب دخول أجناس وأعراق وأنواع من البشر من بيئات مختلفة لا يهمها الدراسة ولا الشهادة ولا العلم.

الوالد الناشط في مجال حقوق الإنسان كان وديعاً مع ابنته ولكنه حاول أن يقلل من مثاليتها وحماسها لأن الواقع يختلف عن الأفكار المجردة. وطالب الوالد ابنته بأن تكون واقعية وليست مثالية وأن تعمل بالقدر الذي تستطيع من دون أن تقع في أوهام التغيير.

الابنة (المعلمة) رفضت الانصياع وقررت تغيير المجتمع انطلاقاً من تغيير الصف (التلامذة). وهكذا دخلت في تجربة خاصة لجأت خلالها إلى اتباع أساليب جديدة في التعامل مع تلامذتها. فالتلامذة خليط من الشقر والصفر والسود وكل مجموعة منزوية على نفسها لا تتحدث إلا مع جنسها ولونها ولغتها. فالصف نموذج مصغر عن المدرسة والمدرسة تشبه إلى حد كبير مدينة لوس انجليس.

حتى الآن لا مشكلة مع الفيلم. فالمعلمة تلجأ إلى خلط المقاعد وتغيير أمكنة جلوس التلامذة بهدف تقريبهم وجعلهم يتحدثون إلى بعضهم. كذلك بدأت تغير مناهج الدراسة متبعة أسلوب التقرب من مشكلات الطلبة فأخذت تزودهم بكتب ومذكرات وتجارب تتحدث عن قضايا معاصرة وقريبة من معاناتهم. كذلك حاولت تشجيع الطلبة على تفريغ أفكارهم وتسجيلها في دفاتر مذكرات يقولون فيها ما يرد في ذهنهم من دون قلق أو خوف. نجحت الفكرة إلى حد ما. فمذكرات الطلبة كانت غنية بالمعلومات وصادقة ومؤلمة. فالكل يعاني من مشكلات منزلية وأسرية والكل يعاني من التفرقة والتمييز والكل خائف من القتل أو السرقة أو الاعتداء والكل يفكر بأن اللجوء إلى الجماعة هو أفضل سلاح للحماية والدفاع لأن الدولة منحازة ولا تقوم بواجباتها وهي مقصرة في فهم المجتمع وفاشلة في وضع الحلول.

حتى الآن لا مشكلة مع رواية الفيلم. الضعف يبدأ حين يلجأ المخرج إلى استغلال المحرقة بأسلوب تجاري رخيص فيقحم الموضوع ويدخله عنوة في السيناريو ولمدة أكثر من عشر دقائق انطلاقاً من مذكرات كتبتها أحدى ضحايا الهولوكست. ولا يكتفي المخرج بالحد الأدنى من الإشارات والتلميحات كما عودتنا الكثير من الأفلام الهوليوودية بل يستطرد كثيراً في الموضوع إذ تقوم المعلمة بترتيب رحلة للتلامذة إلى متحف يروي قصة المحرقة محاولة الربط بين عذابات الشعوب كلها بواقعة كارثية ارتكبها عنصري مجنون في ألمانيا في الحرب العالمية الثانية.

هذا الإقحام المصطنع اضعف سيناريو الفيلم وأدرجه في دائرة رخيصة لأنه اختصر قضايا الشعوب وما تعانيه البشرية من أهوال وحروب ومجازر وطرد وسحل وتصفيات في قضية واحدة اختزلتها مذكرات ضحية. فالمخرج افتعل هذا الربط لكسب الجوائز ربما أو لنيل إعجاب النقاد ولكنه ارتكب ذاك الجرم حين تناول كارثة المحرقة في سياق تجاري (دعاوي) رخيص وأيضاً حين اختزل عذابات الشعوب من الهنود الحمر إلى فلسطين وإفريقيا والبوسنة وكل المناطق والثقافات في دائرة ضيقة لا تغني المشاهد ولا تزيده علماً ومعرفة. هذا الافتعال ساهم في هبوط سيناريو الفيلم وتدهوره من مقدمة قوية تعالج مشكلة أميركية راهنة ولاتزال قائمة إلى نتيجة ساذجة ومبسطة مفادها أن المعلمة نجحت في تجربتها في وقت لاتزال أكبر دولة في العالم عاجزة عن حل تلك المشكلات الإنسانية العويصة التي استطاعت أستاذة لوحدها ومن دون مساعدة (حتى زوجها هجرها) على معالجتها. فالمعلمة كما يقول المخرج في نهايته السعيدة استطاعت أن تحول تلامذة الصف إلى عائلة واحدة متحابة ومتعايشة وصادقة وحساسة وعادلة في خياراتها وأحكامها إلى درجة أن تلميذة شهدت ضد والدها في المحكمة.

كل هذه السذاجات نجحت المعلمة (وحدها ومن أموالها المتواضعة والخاصة) في تحقيقها خلال أقل من سنتين من تجربتها الأولى في التدريس. فهي بكل بساطة أقنعت كل لون بالتخلي عن لونه وكل جنس بتجاوز جنسه وكل تلميذ بالارتفاع فوق مشكلاته الخاصة. فهذا صالح والدته وتلك شهدت ضد والدها وذاك أقلع عن الاتجار بالمخدرات. والنهاية كانت أكثر من سعيدة إذ تحول هذا الصف المدرسي إلى نموذج أميركي حين تحولت تلك المذكرات التي سجلها التلامذة إلى كتاب يوزع في المكتبات ويقلد في المعاهد.

هذا النوع من الأفلام موجود بكثرة في السينما الأميركية وخصوصاً تلك الأشرطة التي تركز على دور الفرد في تغيير الجماعة وقدرته الخاصة في ابتكار آليات وابتداع أدوات خارقة تتجاوز إمكانات أكبر وأغنى دولة في العالم. إلا أن المشكلة مع هذا الفيلم (مذكرات كتاب الحرية) مزدوجة فهو يبالغ في سرد تفصيلات تهرباً من حوادث يومية تحصل في معظم أحياء المدن الأميركية، وهو أيضاً بالغ في عملية الربط بين عذابات البشرية ومعاناة فئة واحدة من الناس. فالربط المفتعل اختزل تاريخ الإنسانية إلى واقعة محددة والتهرب من مقدمة الموضوع (حوادث لوس انجليس في العام 1992) دفع السيناريو إلى تسخيف المشكلات وتبسيطها وتحويلها إلى مجرد إشكالات بسيطة يمكن معالجتها بسهولة كذلك يمكن السيطرة عليها بابتسامات واتصالات معلمة متحمسة للتغيير منذ يومها الأول في مجال التدريس.

الوسط البحرينية في 15 مارس 2007