لم أتعاطف معه لأنني أحببت الأصل «الماسة الدامية» معالجة جديدة لرائعة «حطمت قيودي» محمود قاسم |
صفحات خاصة
|
رغم طرافة فكرة فيلم «حطمت قيودي» إخراج ستانلي كرامر عام 1957 فإن السينما الأمريكية نفسها لم تفكر في إعادة إنتاجه، ربما لأن فكرة وجود سجينين هاربين أحدهما أبيض والآخر زنجي لم تعد تصلح لتدور داخل المجتمع الأمريكي الآن فقد فقدت هوية اللون بريقها في الدراما منذ سنوات. هذه الفكرة اقتبستها السينما المصرية مرتين، الأولي في فيلم «الهروب» لحسن رضا والثانية في «السجينان» لأحمد النحاس.
ولم يكن
بإمكان السينما الأمريكية أن تعيد إنتاج الفكرة نفسها إلا إذا اختارت
موضوعا يدور خارج الولايات المتحدة خاصة قارة إفريقيا ففيها يسكن الأبيض ذو
الأصل الأوروبي والزنجي والفارق الأساسي هنا أن الرجلين مرتبطان معا بقيد
آخر، ليس هو القيد الحديدي الذي رأيناه في الفيلم الأول ولكنه قيد المصلحة
والحاجة فمثل «حطمت قيودي» فإن هناك امرأة في حياة الرجل الأبيض تظهر أثناء
الهروب، يأويان عندها ثم تختفي من حياتهم. علي أمل أن يعود بعد إطلاق
سراحه. مصير واحد التفاصيل المختلفة كثيرة بين الفيلمين، لكن ارتباط رجلين معا بمصير واحد بقيدهما هو الأساس في الفيلم، أحدهما زنجي والآخر أبيض، يتصالحان أحيانا ويتخاصمان أثناء المطاردات وقد حاول الفيلم أن يعطي لبطله الرئيسي سولومون الزنجي بعدا إنسانيا عميقا، فهو الذي يفقد أسرته، ويتم اختطاف ابنه من قبل عصابة تجنيد الأطفال للأعمال الإجرامية بواسطة عنف بالغ القسوة..... أما البطل الثاني آرتشر «ليوناردو دي كابريو» فهو مثل أغلب شخصيات هذا النوع من الأفلام، يبدو بلا جذور قدمه لنا الفيلم أحيانا كضابط شرطة، وأحيانا كصحفي هو في مهمة رسمية، يعاون الجيش الأبيض في الحصول علي أسرار قطعة الماس الكبيرة، ويقدم الفيلم واقعة موته أقرب إلي الشهداء الذين يدفعون حيواتهم في سبيل الواجب، رغم أننا لا نعرف هل يسعي للحصول فعلا علي الماسة لنفسه، وأنه يهرب بالفعل من القارة الإفريقية كي يعيش في لندن، أم أن كل هذا كان تمويها بهدف الحصول علي الماسة للمؤسسة العسكرية التي يعمل لصالحها. والرجلان هنا ينتميان إلي إفريقيا الأول أبيض من جنوب إفريقيا فيما يعرف باسم الأفريكان ـ لم يشر الفيلم إلي ذلك ـ والثاني زنجي، والأحداث تدور في بلدة سيراليون، أما الأماكن الحقيقية فهي الجبال والأدغال والصحراء فيما يشبه الفيلم القديم. البعد الإنساني هنا يتمثل في موقف سولومون الذي بدأ تقريبا من مشهد النهاية إنه رفض تسليم الماسة إلي من اشتراها في لندن، مقابل مليوني جنيه استرليني، إلا لو تم إحضار أسرته، وكان قد استطاع الحصول علي ابنه واستعادته، بعد أن حولته عصابة الاختطاف إلي مقاتل متوحش، وهو الذي لم يبلغ العاشرة تقريبا. وقد كسا الفيلم أبطاله بأحداث اجتماعية وسياسية حقيقية دارت في سيراليون في التسعينيات وجعل أحداثه تدور في عام 1998 وامتلأ السيناريو بمعلومات حقيقية عن الصراع من أجل الماس ووضع مصائر مجتمع بأكمله في معسكرات اعتقال دون أن يركز علي التغيرات الحادة التي شهدتها البلاد، فكما ذكرنا فإن المهم هنا هو إعادة تقديم قصة الفيلم الأمريكي القديم مغلقة بأحداث مأساوية واقعية. وفي المشاهد الأولي من الفيلم كان هناك تمهيد للتعرف علي أحوال الأسرة فالأم تطلب من طفلها أن يطيع أباه، هذا الطفل الذي أجبر بعد اختطافه أن يتعلم كيف يكون مقاتلا شرسا بارعا في استخدام السلاح الآلي يقتل كأنه يلعب، والأب سولومون يتحدث مع ابنه عن مستقبله المبهر بعد أن يعرف بمدي تفوقه في الدراسة. وسرعان ما تبدأ الأحداث يأتي المتمردون لمهاجمة القرية التي يسكن فيها سولومون، وهو صائد أسماك ويبدو الهجوم شرسا بالغ التفاصيل حيث تقوم العصابة بسفك الدماء وقطع أيادي الصغار والكبار ـ يشير إلي الاستعمار ـ ويتم العفو عن سولومون من قطع الأيدي في اللحظة الأخيرة، ويقاد الطفل الصغير إلي معسكر للتدريب، وتختفي الأم وابنتهاه لنراها فيما بعد في معسكر اعتقال. ويمشي الفيلم علي مستويين بالنسبة للأسرة لنتعرف عما حدث للأب وابنته في أمكنة مختلفة، ويتصرف الفيلم مع سولومون «جيمون هانسو» علي أساس اللحظة الأخيرة فقبل أن يتم قطع يده يعفي عنه، يتم العدول عن ذلك وعندما يتم اكتشاف سرقته لقطعة الماس وقبل قتله تأتي قوات الحكومة ويتم القبض عليه ويساق إلي سجن يوجد به أرشر بعد أن يكون قد خبأ قطعة الماس في مكان آمن. بين العداء والمحبة أرتشر كما جاء بالفيلم مرتزق وجندي سابق ومهرب ماس ويتم القبض عليه أيضا في السجن بعد أن تم القبض عليه عند الحدود، ويتم إيداعه في السجن، وفيه يعرف أن سولومون يخفي ماسة وردية ثمينة لمصلحة أرشر في هذه الماسة فرصة كي تتغير حياته دون أن نعرف لمصلحة من يعمل آرشر هل لنفسه أم للجيش إذن فنحن أمام رجلين جمعهما مصير واحد، تفيدهما الماسة المخفاة وليست السلاسل والزنجي، ومثل هذا الفيلم القديم فإن علاقة جبرية تتولد بين الاثنين، تبدأ بالعداء والكراهية وتنتهي بالتآلف والمحبة. لدرجة أن سولومون يسلم الماسة إلي أرتشر وهو الذي أحس دوما بأنه سوف يأخذها لنفسه بعد أن يتسلمها منه. ومن خلال مجموعة من القصص المتوازية غير الموجودة في «حطمت قيودي» وهي سمة لأفلام العصر ـ يصور الفيلم مصائر أبطاله، مثل الابن ضيا، والأب وذلك رغم وجود كل هذه المجاميع الكثيرة التي تمثل القوات الحكومية والمتمردين والمرتزقة فنحن نري كيف أرغم هؤلاء القتلة علي تعلم إطلاق النار، وقد توقف الفيلم ليصورتفاصيل القتل، والتغيرات الحادة التي تحدث للأطفال وكيف صار ضيا ذا رتبة عسكرية أعلي لدرجة مناداته بـ «ضيا فاندي». ويدخل الفيلم عنصر المرأة رغم أنه ليس في حاجة إلي ذلك ـ من خلال الصحفية ماري بوين «جينفر كونيللي» التي تقابل الرجلين بعد الهروب إنها معركة بين القوات الحكومية والمرتزقة حيث يبدو العنف في أوجه، وتتصاعد من المدينة كتل النار والحجارة، وتبدأ مرحلة الهروب والبحث عن الماسة وسط وجود مادي مع إصرار السيناريو أن يكشف شراسة الصراعات من خلال الحوار أو التعليق حيث نعرف أن المعسكر الذي اقتيدت إليه الزوجة حاسي وابنتها هو أكبر مأوي للاجئين في إفريقيا، وأنه يضم مليون شخص وهو المعسكر الذي يذهب إليه الأب للاطمئنان علي ابنه، ولا أعرف كيف دبروا إحضار الزوجة وابنتها وسط هذا العدد الكبير دون وجود قوائم أو ما شابه وعلي سور المعسكر، الذي أحضره إليه أرتشي يتم ضرب الزنجي بقسوة وهو يسأل عن ابنه. كما أنه عن طريق الحوار نعرف معلومات عن تهريب الماس بشكل غير شرعي عبر البلدان، واختلاط الماس الطبيعي بالمزيف في الهند، ودور طالبان في عمليات تهريب وامتلاك الماس، كما يتضمن الفيلم معلومات عن أن البلجيكيين، هم أول من قطعوا الأيادي بالسيوف في إفريقيا. وقد أعطي الفيلم لسولومون «هي في الحقيقة سليمان» مساحة للتعرف عليه كإنسان فهو شخص مسالم يعيش في قارة مليئة بالأحداث الدامية يحكي عن اغتيال أمه أمام عينيه، وكيف قتلوا أباه وعلقوه أمام عينيه وهو في التاسعة من العمر «أدركت أن الله ترك هذا المكان منذ زمن طويل» كما أن أرتشر يحكي عن ماضيه كضابط سابق. أما ماري فلم يكن لها أي لزوم ويحسب لهذه الشخصية فقط أن جينيفر كونللي هي التي جسدتها وهي التي بهرتنا في فيلم «عقل متميز» الذي نالت عنه جائزة الأوسكار إلا أنها ظهرت واختفت من الأحداث دون أن تؤثر فيها، ليثبت أن السيناريو يتحرك علي خطي «حطمت قيودي» وذلك كي تبقي الفكرة الأساسية في الفيلم نحو تطور العلاقة بين الرجلين ففي الفيلم القديم نزل السجينان إلي منزل امرأة بيضاء أحبت الرجل الأبيض «توني كيرتس» وهي أرملة تعيش مع ابنها لكن ما لبث الرجلان أن هويا بعد أن تم زيادة الحصارة حولهما. سلومون الملاك ففي «الماسة الدامية» يزداد تعاطف الرجلان أكثر بعد أن تختفي ماري، ويكشف الفيلم ماذا فعلت الثروة بإفريقيا، ويتحدث رجل عجوز إنه يتمني ألا يتم اكتشاف بترول جديد في إفريقيا حتي لا يزداد الصراع الدامي مثلما يحدث من أجل الحصول علي المزيد من الماس. الإضافات في الفيلم هنا هي الجانب الأسري لسولومون الذي يكرس وقته، وصديقه الأبيض من أجل استعادة أسرته، فالابن ضيا ينكر أباه عندما يلتقيه، يبدو متوحشا، إنه التوحش نفسه لكافة الأطراف المتصارعة علي الماسة يردد أحدهم تري ما عدد القتلي الذين ماتوا في سبيل الحصول علي هذه الماسة؟ فمن أجل مثل هذه الماسة أشهر ضيا بندقيته في وجه أبيه، وقام كل هؤلاء الرجال من الرسميين والمرتزقة بالاقتتال وتحاربت الجيوش ووسط هذه الوحشية من كل الأطراف فإن الفيلم يحاول العزف علي ائتلاف عائلة إفريقية تشتت مئات الألوف مثلها وانقرضت وذلك لإعطاء الحياة قيمة حتي وإن بدت مستحيلة ويتصرف الفيلم في نهاية أحداثه إلي تفاصيل العلاقات الأسرية بين الأب وابنه، «أعرف أنهم دفعوك علي فعل أشياء شريرة، أنا أبوك وستعود معي ثانية إلي البيت». والبيت المقصود هنا ليس إفريقيا التي مات فيها أرتشر دون أن تري تفاصيل موته، وهو الذي أصيب فكانت إصابته أشبه بأعمال القديسين وهذه رؤية قديمة متجددة لأبطال السينما الأمريكية، ولعل أشهرهم وفاة القائد اليهودي الذي ساهم في تحرير إسرائيل من العرب والبريطانيين، في نهاية فيلم «ظل العملاق» عام 1966 حيث سيظل مثل هؤلاء الأبطال نموذجا للنبل، رغم كافة أفعالهم المضادة للإنسانية فالفيلم يعطي لأرتشر سمات ملائكية وهو يعطي الماسة إلي خصمه السابق، وهو يتنهد فيردد سولومون حسبك ستسرقها مني، فيردد داني بكل حميمة قبل أن يموت فكرت في ذلك. والشيء نفسه يكسبه الفيلم لسولومون فهو في النهاية لص ماسة عملاقة استباحها لنفسه، وأخفاها كأنها من ممتلكاته وساوم عليها وهو يري أن حرية أسرته هي ثمن الماسة فالفيلم يمزج السم بالعسل وينتقل الفيلم من الخاص إلي العام. فعبر مؤتمر دولي يجعل الفيلم أشبه بمنشور رسمي يردد أحد خبراء الماس «دعونا نسمع صوت العالم الثالث إنه ليس بمعزل عنا» وعن طريق معلومات تقريرية علي الشاشة نعرف أن الصراع لايزال مستمرا وأن ضحايا الماس لايزالون يتناثرون. إنه فيلم يمكنك الاستمتاع به رغم العنف الشديد الذي ينز منه، ورغم توحش شخصياته، رغم ملامحهم الإنسانية لكن المتفرج القديم المعجب بـ «حطمت قيودي» لا يمكن له أن يتعاطف مع «الماسة الدامية». جريدة القاهرة في 13 مارس 2007
|