هل تصلح السينما ما أفسدته السياسة «رسائل إيوجيما».. فيلم أمريكي من وجهة نظر يابانية! د.وليد سيف |
صفحات خاصة
|
صرح المخرج الأمريكي الشهير كلينت إستوود أن فيلمه «رسائل ايوجيما» هو محاولة لأن يقدم الموقعة الحربية الشهيرة من وجهة نظر اليابانيين بعد أن قدمها في فيلمه السابق «رايات الآباء» من زاوية أمريكية.. وهو لم يكتف بتقديم الوجه الآخر للمعركة من الزاوية العكسية بل قدم أيضاً فيلماً ناطقاً في معظم أجزائه باللغة اليابانية ومستعيناً بالطبع بطاقم كامل من الممثلين اليابانيين علي رأسهم ممثل عبقري له قوة تأثير طاغية علي الشاشة في دور كوريباتشي القائد الأعلي في الجزيرة هو كين واتانابي الذي سبق ترشيحه كأحسن ممثل مساعد عن دوره المهم في فيلم «الساموراي الأخير».. كان من الطبيعي أن يشعر إستوود بالتقصير قبل أن يصنع «رسائل إيوجيما» لأنه لا يجوز أن تتحدث عن تلك المعركة دون أن تتوقف عند هذا المقاتل الياباني العظيم الذي استطاع أن يقاوم الهجوم الأمريكي لمدة أربعين يوم وهو ما أدهش الخبراء العسكريين الأمريكان أنفسهم الذين أقاموا حساباتهم علي اعتبار أن المقاومة علي هذه الجزيرة اليابانية من المستحيل أن تستمر لأكثر من خمسة أيام نظراً للفارق الهائل بين حجم الجيشين في الأفراد والمعدات والمؤن ومستوي التكنولوجيا لصالح الولايات المتحدة طبعاً. إحياء جو المعركة في فيلم كلينت إستوود سوف تري الشجاعة المذهلة وصلابة الصمود لهؤلاء الجنود اليابانيين في مواجهة الأسطول والطيران والأسلحة الأمريكية الفتاكة المتطورة الحارقة بعيدة المدي.. كما ستدهشك قدرتهم علي احتمال الجوع والعطش بما يفوق طاقة البشر.. وسوف تتألم بشدة وأنت تراهم يفجرون أنفسهم بالقنابل بعد سقوط موقعهم تلبية لأمر قائد فصيلتهم الذي ينتحر بينهم.. سوف تشعر طوال العرض بأنك في قلب النار والحصار فالمخرج المخضرم يتمكن من صنع أجواء الحرب في فيلمه بصورة غير مسبوقة تجعله يعد أحد أهم الأفلام الحربية في تاريخ السينما العالمية.. وهو يحيلك إلي جو المعركة من خلال الصورة التي يطغي عليها الأبيض والأسود ولا تكاد تظهر فيها الألوان إلا مع انفجار القنابل واشتعال النيران ونزيف الدماء مستعيناً بديكور للخنادق في منتهي الدقة والمهارة والتأثير.. كما ينجح المخرج في أن يضفي إيقاعه علي الفيلم رغماً عن رتابة حركة الأحداث وتكرارها وجو الحصار الخانق وصورة القتلي والجثث المنتشرة طوال الأحداث.. ويؤهله لذلك تميزه ورسم تفاصيل الحركة والأداء والتغلغل داخل المشاعر الإنسانية مما يجعلك لا تفقد التركيز رغم تعدد الخطوط والشخصيات فتتعلق بكل شخصية وتتفهم دوافعها وتتفاعل معها.. وهي شخصيات إنسانية بحق ولا تحيلها الشجاعة والبطولة إلي كائنات أسطورية بل هم بشر عاديون يمرون بلحظات من الضعف والخوف بل وفقدان الإيمان الديني واليقين بوجود الإله أحياناً بل وقد يفر البعض منهم هاربين من قرار الانتحار الجماعي مخالفة لعقيدتهم أو حتي متوجهين لجنود العدو الأمريكي في استسلام رافعين الرايات البيضاء علي أمل النجاة بحياتهم.. لا يمنع الغالبية من الاستسلام سوي اليقين بأن الهرب هو طريق الجبناء ولأنهم يرون قائدهم العظيم كوريباتشي ينطلق دائماً في المقدمة معرضاً نفسه للخطر قبل الجميع وهو يحتمل العطش لأيام طويلة بعد نفاد الماء والمؤن ولا يجد ما يسد جوعه فيأكل ديدان الأرض كأي واحد من رجاله. هل عرفت أمريكيا من قبل؟ في وسط هذه الحالة من المعاناة والذعر والهلع وسط القصف الجوي والبحري والبري الذي لا يتوقف ليل نهار ماذا يمكن أن يفعل هؤلاء الجنود عندما يقع بين أيديهم أسير أمريكي هل يمكن وهم في هذه الحالة أن يمنعوا أنفسهم من قتله ببشاعة وأن يشتركوا جميعاً في توجيه طعنات نافذة إلي كل قطعة من جسده.. يحدث هذا عاد ولكن من الجائز أيضاً أن يستوقفهم أحد قادتهم، بارون نيشي مثلاً- أداه تسويوشو إبهاراً بأسلوب معبر وبليغ- الذي يسأله الجندي الشاب سايجو «لماذا لاتدعنا نقتل الأمريكي الجبان» فينبري القائد مدافعاً وكأنه ينطق بلسان المخرج الأمريكي «هل عرفت أمريكيا من قبل؟».. يتصافح القائد الياباني والجندي الأمريكي وتبدو صورة الكفين المتشابكين مثيرة لتعجب شيميزو الذي يقف في خلفية الصورة حائراً.. وقد يبدو الأمر إلي هذا الحد مقبولاً رغماً عن صعوبة الظرف وهشاشة العلاقة التي يستحيل أن تتصور أنها تحققت بفضل مشاركة بارون نيشي السابقة كرياضي في أولمبياد لوس أنجلوس حيث تعرف علي مشاهير النجوم الأمريكان.. ولكن ما يصعب أن تتقبله هو أن يتأثر شيميزو برسالة أم الجندي الأمريكي لابنها عن كلب العائلة الذي هرب وأثار ذعر دجاج الجيران.. هنا فقط يدرك شيميزو ويا هول ما أدرك أن الجندي الأمريكي أيضاً له أسرة تربي الكلاب وجيران لديهم دجاج مثل جيرانه كما أنه يتمني أن تنتهي الحرب ليعود إلي أهله مثله.. في هذه الأجواء المشحونة بالتوتر والتي تفوح منها رائحة الموت بقوة نفاذة قد يختلط العقل بالجنون وقد يختلف البعض حول خطة المقاومة وجدوي حفر الأنفاق في مواجهة عدو سيسحقهم دون شك وهم يتساءلون «لماذا نضيع الوقت في حفر الأنفاق.. أليس من الأجدي ادخار الطاقة لمواجهة العدو.. فنحن نعلم يقيناً أنه في طريقه إلينا ونتعجل قدومه فوقوع البلاء أهون من انتظاره».. وقد يتشكك البعض في ولاء القائد كوريباتشي ويتهمونه بأنه جبان أو حليف للأمريكان وقد يصل الحال بالبعض إلي مخالفة الأوامر ومعارضة القائد في وسط المعركة ولكنهم يظلون قلة. أحداث قاتمة ومواقف ساخرة وعلي الرغم من مأساوية وقتامة الأحداث إلا أن الفيلم لا يخلو من حس ساخر جميل عندما نستمع إلي قصة الجندي سايجو- أدي الدور بمهارة كازونامي نينوميا- الذي كان خبازاً في الأصل ومعاناته مع قوات السلطة التي كانت تلتهم كل ما يصنعه من فطائر أو خبز مجاناً وعندما أفلس لم يرحموه بل أخذوا الأواني ليصهروها ويستفيدوا من معادنها.. أو حكاية الكلب الذي أمر قائد الشرطة العسكرية بإعدامه لأن نباحه يعطل تنفيذ الأمر الإمبراطوري وعندما يتقاعس الجندي شيميزو عن تنفيذ المهمة يسأله قائده إذا كنت عاجزاً عن قتل كلب فكيف ستحارب الشيوعيين؟.. يدفع شيميزو ثمن تقاعسه غالياً فينال صفعة عنيفة من قائده تطرحه أرضاً كما يطرد من قوات الشرطة العسكرية بكل ما لها من امتيازات ليصبح جندياً عادياً يعيش منبوذاً وسط زملائه الذين يتصورون أنه دسيسة عليهم أرسلته القيادة للتجسس ومعرفة الجنود الذين يبعثون بأسرار الجيش في رسائلهم لأهاليهم.. وتصل ذروة المشاهد الساخرة في ذلك الموقف الذي يخرج فيه الجندي سايجو لتفريغ وعاء المخلفات البشرية بعد تهديد من قائد فصيلته بأنه لو أضاعه سيجعل الجنود يلقون بفضلاتهم في يديه وبالطبع لابد أن يتعرض الوعاء للضياع ويسقط في حفرة عميقة فيبذل الجندي قصاري جهده لاسترداده وسط غارة الأعداء وقصف المدافع والجو العاصف وكلما هم بالإمساك به يفلت من بين يديه لينظر إلي السماء ويتساءل «هل هذه دعابة» ولكنه عندما يتمكن من الوعاء عائداً به بعد أن نجي من موت محقق يعود لينظر للسماء مرة أخري متراجعاً عن دعابته مع آلهته.. وبنفس القدرة علي صنع الجو الساخر يتمكن استوود من تحقيق التأثير التراجيدي في مشاهد كثيرة منها هذا المشهد الجميل الذي يخاطب فيه الخباز جنينه في بطن أمه وهو علي شبه يقين من أنه لن يراه أبداً بعد أن تم استدعاؤه للجيش.. كما تصل المأساة إلي الذروة عندما نري القائد البطل كوريباتشي وهو يوجه آخر أمر لمساعده بأن يخلصه من حياته بعد أن تأكد تماماً من الهزيمة في نفس اللحظة التي تتراءي له فيها صورته عائداً في سيارته في طريقه لأسرته. بلاغة شريط الصوت يقدم إستوود من خلال السيناريو المحكم تتابعاً درامياً متدفقاً لا تعوقه مشاهد الفلاش باك القليلة حيث تتابع المشاهد في إيقاع بصري متناغم.. ونفس الإيقاعية تتحقق في شريط الصوت الذي يتميز بقوة خاصة وإحكام إيقاعي أيضاً لا تخطئه الأذن.. فيصبح لأصوات القنابل والصواريخ والرصاص دلالات درامية مؤثرة مثل صوت رصاصة الانتحار التي يطلقها البارون نيشي علي نفسه بعد أن أمر رجاله بمغادرة الموقع فننصت مع الجنود لصوت الرصاصة بعد أن خرجوا من النفق فيتوحد تأثير الطلقة بين المشاهد والشخصيات.. وكذلك صوت نباح الكلب الذي يفضح كذبة شيميزو بعد أن أطلق رصاصة في الهواء ليوهم قائده بأنه نفذ أمره بقتل الكلب. ينتقي السيناريو مجموعة صغيرة من الشخصيات ولكنه يطرح من خلالها صورة للحياة الاجتماعية والاقتصادية في الإمبراطورية اليابانية في زمن الحرب وينسج العلاقات بين الجنود ببراعة فتتعرف علي ما يمكن أن يدور في كل موقع أو خندق.. وتتحدد العلاقات بينهم وبين قادتهم وبين القادة وبعضهم وفقاً للرتب بصورة تجعل المشاهد يتوحد مع كل ما يحدث أمامه وكأنه يعيش في قلب الحصار وسط الجنوب والضباط.. ولكن أهم ما يقدمه السيناريو هو تلك العلاقة الفريدة بين القائد الكبير كوريباتشي وأحد أصغر جنوده «سايجو» الذي يتم إنقاذ حياته ثلاث مرات علي يد قائده ليؤكد علي مقولته «كل الأشياء تحدث ثلاث مرات» وفي حوار بليغ بين القائد الذي يكتب رسائل لأسرته تماماً كما يفعل المجند الشاب يقول له «أنت جندي تمام» فيرد الشاب «أنا خباز.. لم أر طفلتي منذ مولدها حتي الآن.. سوف تستمر هذه العلاقة في وسط أحداث الفيلم المزدحمة وتصل إلي ذروتها عندما يقوم الجندي برد جميل قائده في أحلك الظروف بدفن جثمانه بعد أن انتهي من دفن رسائله ووثائقه وصندوقه العسكري. دعوة للرفق بالأمريكي الغلبان قدم إستوود بلا شك فيلماً مهماًَ تم ترشيحه لأربع جوائز أوسكار ونال منها أحسن صوت وحقق إيرادات ممتازة في اليابان وأوروبا.. وسوف يظل يحسب لإستوود كمخرج أمريكي أنه قدم فيلماً اعتماداً علي سيناريو إيريس ياما شيتا عن حرب كانت أمريكا أحد طرفيها وأنه تبني وجهة النظر الأخري.. ولا أنكر أنه بذل جهداً مضنياً لتحقيق التوازن والصدق والموضوعية.. ولكنه علي الرغم من كل هذا يظل فيلمه يحمل هذا العنصر المشترك بين أعمال أمريكية تزعم الدعوة للإنسانية ونبذ الحروب وتذكرنا- علي اعتبار أننا نحن الذين في حاجة للتذكر- بأن جميع البشر لديهم مشاعر وأحاسيس وزوجات وأبناء وأمهات وآباء وبعضهم لديه خيول أو كلاب يحبها ويحنو عليها، وبالمناسبة كم أصبح سخيفاً موضوع الرفق بالحيوان في تلك الأفلام عندما تشاهدها الجماهير في بلادنا الفقيرة التي أصبح أطفال الشوارع ينتشرون فيها بصورة غير مسبوقة بلا أدني حقوق بفضل السياسات الاقتصادية والنظم الحاكمة التي تفرضها الولايات المتحدة.. مازالت هذه النوعية من الأفلام تسعي لتصوير الآثار المدمرة للمعارك.. وهي تسوي عادة في نفس الوقت بين الجندي المعتدي والآخر المعتدي عليه فكلهم في النهاية بشر لهم عقائدهم وموسي نبي وعيسي نبي ومحمد نبي وحتي بوذا نبي وكل من له نبي يصلي عليه.. ومادام كلنا أولاد حواء وآدم ونتمني أن تنتهي الحرب ونعود لأولادنا فلماذا لا نترفق بالجندي الأمريكي الغلبان الذي لا داعي أن يغريك ما يحمله من أسلحة مدمرة فهو في النهاية إنسان غلبان عنده قطط وكلاب ويمكن كمان حصان في حاجة لمن يطعمه ويسقيه.. لا يا عم جورج بوش.. عفواً أقصد كلينت إستوود العب غيرها.. إن الجنود في جميع أنحاء العالم يدافعون عن أراضيهم ومقدساتهم ويقاومون من داخل حدودهم، أما جنودك جند الشيطان فإن حكامك هم الذين يسوقوهم آلاف الأميال لقتلنا وإذلالنا واغتصاب أراضينا وثرواتنا.. إذا كنت حاداً وموضوعياً فعلاً يا عم إستوود اصنع أفلاماً تدعوا حكامك لأن يوقفوا هذه الحروب وأن يمتنعوا عن الاعتداء علي مواطنين فقراء ومسالمين فعلاً.. إذا كنت محباً فعلاً للسلام لا تطلب من جنودنا أن يرأفوا بجندك فالعالم في أمس الحاحة إلي الرأفة من أسلحتكم الفتاكة المتطورة ومن قنابلكم التي تنطلق وتتفجر في مختلف أرجاء الأرض طيلة قرن كامل دون توقف. جريدة القاهرة في 13 مارس 2007
|