سينماتك

 

مشاهد القتال تنويعات على البطولة والفظائع

"خطابات من إيوجيما" رسالة ضد الحرب

القاهرة - أحمد يوسف

 

 

 

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

 

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

 

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

 

أرشيف

إبحث في سينماتك

 

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

 

سينماتك

 

ربما كان المخرج والممثل العجوز كلينت ايستوود هو أول صانع للأفلام يقدم في عام واحد فيلمين، يمثل كل فيلم منهما الموضوع نفسه من وجهة نظر مختلفة، ولعله أيضا أول مخرج أمريكي يفوز في العديد من الاحتفالات السينمائية الأمريكية عن أفضل فيلم “أجنبي” ففيلمه الأخير “خطابات من ايوجيما” ناطق باللغة اليابانية، كما انه الوجه الآخر لفيلمه الذي عرض من شهور قليلة “رايات أبنائنا”. يحكي الفيلمان عن جزيرة يابانية قاحلة، تغطيها الرمال السوداء والجبال البركانية، انها جزيرة “ايوجيما” التي اتخذت بالقرب من نهاية الحرب العالمية الثانية أهمية كبرى، إذ قررت القوات الأمريكية احتلالها واتخاذها قاعدة للهجوم على الأرض اليابانية.

تقول الوثائق التاريخية انه كان على الجزيرة عشرون ألفا من العسكريين اليابانيين، لم يبق منهم على قيد الحياة بعد الغزو الأمريكي لها سوى اقل من ألف جندي، بينما كانت القوات الأمريكية تتألف من مائة ألف، توقعوا أن اجتياح الجزيرة لن يستغرق إلا ساعات معدودة وبأقل قدر من الخسائر لكن المعركة استمرت أسابيع عديدة فقد فيها الأمريكيون سبعة آلاف من القتلى وعشرين ألفا من الجرحى. في فيلم ايستوود السابق كانت الحكاية تروى من خلال وجهة نظر الجنود الأمريكيين الذين كنا نتوحد معهم، عندما تنهمر عليهم القذائف من جانب الجنود اليابانيين الذين لا نرى وجوهم لأنهم كانوا مختفين في بطن الجبل. وفي هذا الفيلم الأخير “خطابات من ايوجيما” نعيش مع اليابانيين حكاياتهم، ونرى الوقائع من خلال وجهة نظرهم فكأنهم أصبحوا  للمرة الأولى في فيلم أمريكي يتناول الحرب العالمية الثانية  بشرا من لحم ودم، يملكون أرواحا قلقة وأسرا تنتظر عودتهم وذكريات حميمة وآمالا عريضة، لكن الحرب تقضي على ذلك كله في لحظة تفصل من دون سبب بين الحياة والموت.

نقول “من دون سبب” لأن فيلمي ايستوود لم يتطرقا إلى الخلفية السياسية للحرب، وهو لا يريد أن يضع الحق في جانب والباطل في جانب آخر لكن ايستوود كعهده في أفلامه الأخيرة ينظر إلى “الوضع الإنساني” بكثير من الشفقة والتشاؤم معا، إذ يصور الإنسان دائما ألعوبة في يد قوة اكبر، يطلق عليها أحيانا التاريخ أو المجتمع أو حتى الدعاوى الوطنية لكنه يضع ذلك كله في موضع التساؤل، وهو ما بدا واضحا في فيلمه السابق “رايات آبائنا” الذي ألقى فيه الضوء على الطريقة الملتوية التي يستخدمها السياسيون لتحقيق المكاسب، على حساب الأغلبية التي تساق إلى ساحات الحرب كالقطعان التي لا تملك لمصيرها ردا. وبينما كان “رايات آبائنا” يتسم التعقيد في بنائه، إذ يمضي كرحلة بحث عن الحقيقة تنطلق من الحاضر لتقفز إلى أماكن وأزمنة مختلفة، فإن “خطابات من ايوجيما” يتخذ بناء دراميا أبسط، فهو يجعلنا نقيم مع الجنود اليابانيين على أرض الجزيرة الموحشة في هذه الظروف الصعبة، ونعود أحيانا من خلال “الفلاش باك” إلى ماضي بعض الشخصيات وذكرياتها لكي يجعلنا نشعر بعمق الجانب الإنساني لها، لكننا ننتهي دائما على أرض الجزيرة مرة أخرى، حيث لا مفر أمام “الأبطال” إلا مواجهة المصير التراجيدي الذي لم يختاروه وإنما فرض عليهم فرضا.

يحتشد فيلم “خطابات من ايوجيما” بالعديد من الشخصيات، لكن الثورة تتركز على عدد قليل منها، لنرى في البداية الجندي الشاب سايجو “كازوناري نينوميا” مع احد زملائه من الجنود يحفران خندقا، انه لا يعرف إن كان هذا الخندق سوف يكون قبره، ويتساءل في مرارة عن جدوى وجوده وزملائه على أرض هذه الجزيرة. ولأنه لا يرى الأمر إلا من وجهة نظره فإنه يلعن الجزيرة التي لا يهتم بأن يستولي عليها الأمريكيون، فكل ما يهتم به هو أن يعود إلى الوطن: زوجته وطفلته الوليدة التي لم يرها بعد، ومخبزه الذي انتزعوه منه ليؤدي خدمة العلم.

في مقابل هذا الجندي “الساذج” إن جاز التعبير، نرى شخصية الجنرال كوريبياشي “كين واتانبي”، المشهور في فيلم “الساموراي الأخير”. إن الجنرال الذي أتى لتوه إلى الجزيرة يعلم الحقيقة، فقد انقطعت الإمدادات عن “ايوجيما” وتركت القيادة هؤلاء الجنود لمصيرهم، وبكلمات أخرى فإنهم محكمون بالموت الوشيك فور وقوع الغزو الأمريكي، ولكن للجنرال رأيا آخر، فإذا لم يكن هناك بد من الموت فالأفضل أن يكون موتا نبيلا، بالمقاومة حتى النهاية وتكبيد الأمريكيين اكبر الخسائر الممكنة، برغم انه يعلم يقينا أن الهزيمة هي النهاية المحتومة.

للجنرال بدوره تاريخه الشخصي الذي يجعله متفردا، فقد تلقى بعض تعليمه وتدريبه في أمريكا، وله ذكرياته مع بعض “الأصدقاء” الأمريكيين، ولا يزال يحمل معه بعض تذكاراتهم، لكن شرفه العسكري يحتم عليه أن يخوض المعركة الخاسرة، لذلك يقرر أن يتوقف جنوده عن حفر الخنادق، والبدء في حفر شبكة هائلة من الأنفاق والكهوف في بطون الجبال، حيث ينتظرون هبوط الأمريكيين على ارض الجزيرة لكي يحولوها إلى جحيم حقيقي هائل.

وفي لمسة فنية رقيقة يضيف سيناريو الكاتبة اليابانية ايريس ياما شيتا “بمساعدة بول هاجيس” شخصية الفارس بارون نيشي “تسويوشي ايهارا”، الجندي الذي فاز بجائزة الفروسية في الدورة الاوليمبية في لوس انجلوس عام ،1932 وقضى بدوره فترة من حياته في أمريكا حتى انه ينتابه الحزن العارم من ذلك العداء الذي لا يفهمه بين شعبين لم يختارا الحرب.

في معظم مشاهد الفارس نيتشي تلمح أسلوبا سيرياليا هو مزيج من الحلم والكابوس، سواء عندما نراه يركب جوادا على شاطئ الجزيرة كأنه لحن ناعم في هذا الضجيج الصاخب، أو عندما يتبادل حديثا حميميا مع جندي أمريكي جريح عن أصدقائه من نجوم هوليوود. تشكل هذه المجموعة القليلة من الشخصيات البؤرة الدرامية للفيلم، ونسمع  على شريط الصوت  تعليقها على الأحداث من خلال خطابات يرسلونها  أو يفترض أنهم يرسلونها  إلى أهاليهم في الوطن، وأسلوب تعدد الأصوات على هذا النحو يذكرك بفيلم مهم آخر مناهض للحرب هو “الخيط الأحمر الرفيع” لصانع الأفلام تيراس ماليك، وان كان “خطابات من ايوجيما” يبدو أكثر بساطة ومباشرة في رسالته .. في الجزء الأخير من الفيلم هناك طوفان مرعب من مشاهد القتال، نرى فيها تنويعات على “البطولة و الفظائع” معا، خاصة في شخصية الجندي شيمينرو “ريوكيز” الذي يشك زملاؤه في انه يتجسس عليهم لأنه جاء من “الشرطة العسكرية” بما عرف عنها من قسوة، لكن الحقيقة تنكشف عندما نعلم انه أرسل إلى الجزيرة عقابا له على انه لم يمتثل لأمر ضابط أمره بقتل كلب.

يكاد فيلم “خطابات من ايوجيما” أن يكون بالأبيض والأسود، فقد عمد تصوير توم تيسرن إلى تخفيض الدرجات اللونية إلى أقصى حد ممكن حتى بدا الفيلم كأنه جزء من الوثائق الفيلمية للحرب العالمية الثانية، كما زاد ذلك من تأثير مشاهد الانفجارات والدماء  خاصة في العمليات الانتحارية التي يقوم بها الجنود اليابانيون  عندما تنفجر الشاشة بالفعل باللون الأحمر، ناهيك عن قوة تأثير ظهور الإضاءة على وجوه الجنود المغلوبين على أمرهم وسط عالم تخيم عليه الظلال. إن الفيلم يضع عالمه الدرامي كله بين قوسين: البداية عندما نشاهد في الزمن المعاصر عمليات استكشاف للأنفاق التي حفرها الجنود منذ أكثر من نصف قرن وفيها يعثر على كمية هائلة من خطابات الجنود لذويهم، ثم تأتي النهاية عندما نكتشف أن هذه الخطابات لم ترسل أو تصل أبدا إلى من يفترض أن تصل إليه، لكن لعل رسالة كلينت ايستوود المناهضة للحرب تصل إلى الساسة والعسكريين الأمريكيين الذين يحلمون عبثا ببناء امبراطورية أمريكية على أشلاء وأنقاض العالم.

الخليج الإماراتية في 26 فبراير 2007