سينماتك

 

احتفاء بفرانسوا تروفو في عامه الخامس والسبعين

الـســـيــنــمـــائــي الـذي اراد أن يـكـــــون الــلـــــه ومــخــــــلـــوقـــــاتـــه فـي آن واحــــد

هوفيك حبشيان

 

 

 

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

 

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

 

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

 

أرشيف

إبحث في سينماتك

 

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

 

سينماتك

 

هي خطوة واحدة من شارع "بيغال" حيث ولد قبل 75 عاماً، الى باب احدى الصالات السينمائية التي دخلها للمرة الاولى، قلبت وجود فرنسوا تروفو، فأصبح في حياته مرحلتان: ما قبل مشاهدته فيلم "الجنة الضائعة" لأبيل غانس، وما بعدها. كلمة "سينيفيلية" لم تكن ابتكرت بعد، حين كان يهرب من المدرسة لمشاهدة روائع السينما الفرنسية في باريس التي احتلتها القوات النازية. في السنوات الخمس الاولى من طفولته، لم يلق من اهله لا اهتمام الاب ولا حنان الام، ولم يجد من يحتضنه الا جدته. بعد وفاتها أُرغم على العودة الى منزل الوالدين، لكن لم يحظ بالاستقبال الحار، وخصوصاً من والدته التي لم ترد ان تعرف عنه شيئاً. على غرار ما صورّه لاحقاً في أكثر من فيلم، اكتشف تروفو، الذي بلغ عمراً يكاد لا يسمح له بإدراك الفرق بين الخير والشر، ان الرجل الذي كان يعتبره اباً له ليس والده البيولوجي. وجد ملجأ في المطالعة والسينما التي كان يدخلها خلسة، مرة من الباب الخلفي ومرة أخرى من النافذة. طفولته المهمشة التي أمضاها متشرداً في الصالات المظلمة أنارت حياته لاحقاً، وجعلت منه الرجل الذي كانه، والسينمائي الذي ولد من رحم جيل كان يرغب في "قتل الاب". أليس هو من قال ذات مرة "كل شيء يأتي من الطفولة"؟ منذ بداية حياته مشاهدا شغوفاً، كان ثمة لديه ميل الى الاصطدام مع الآخرين ومقارعتهم رأياً برأي، والسعي الى تبديل مواقفهم بالمناقشة الحادة. لطفولته فضل كبير على التكوين الحسي لسينماه. في فيلمه الاول، "الضربات الاربعمئة" (1959)، برر انطوان دوانيل غيابه عن المدرسة، باختلاق كذبة، قائلاً لاستاذه ان والدته توفيت. في العودة الى طفولة المخرج نجد انها حافلة بالقصص المشابهة. على غرار بطله انطوان دوانيل الذي أصبح لاحقاً "الانا الأخرى" بالنسبة اليه، "التهم" تروفو مؤلفات بالزاك، وهرب من المدرسة للمرة الالف، وسرق آلة كاتبة، فقاده والده الى المخفر، حيث بقي سجيناً يومين قبل احالته على مركز لتأهيل القاصرين. في غضون ذلك، كان تروفو أسس نادياً للسينما اسمه "دائرة سينمان" في "الحي اللاتيني"، ووطّد علاقته بكبير النقاد اندره بازان الذي أصبح بمنزلة أب روحي له، وأخرجه من السجن ووفّر له فرصة الكتابة النقدية في مجلته "عمل وثقافة".

سؤال واحد شغل بال تروفو أكثر من 30 عاماً: هل السينما أهمّ من الحياة؟ اعتبره الاميركيون احد كبار الفن السابع في العصر الحديث، واسند اليه سبيلبرغ في فيلمه "لقاء العنصر الثالث" دور العالم الفرنسي، من شدة اعجابه بأفلامه. اذا كان له انصار في فرنسا، فإنه لم يلق الاستحسان الذي كان يستحقه. افلامه الاولى كانت تفضح سفاهة ما، وتمتلك نبرة جديدة، وحرية تأليفية فرضت نفسها منذ البداية. من فيغو اكتسب تمرده الحنون، ومن كوكتو اندفاعه، ومن رونوار عزمه وحرارته. مع رفاق دربه، غودار، وشابرول، ورينه، اطلق ما سمّي لاحقاً "الموجة الجديدة". كانت علاقته بزملائه على ما يرام الى ان أخرج "الجلد الناعم" و"فهرنهايت 451"، و"العروس كانت ترتدي الاسود". كان لا بد لسوء الفهم هذا، ان ينبثق من مكان ما. ظن بعضهم انه يختار اشكالا سينمائية حاربها حين كان ناقداً في "دفاتر السينما". مع افلام مماثلة، كان يختار الاستعراض البصري، فوجده البعض كلاسيكياً على نحو لافت. في حين كان الاخرون متمسكين بقطع التواصل السردي، كان يظهر انحيازاً الى الخط الدرامي الواضح المعالم. وفي وقت كانت السينما الشابة تؤكد انحطاط الشخصية وموتها، كانت افلامه تمجد الكاراكتير، وكان هو مصراً على اعادة احياء ايقونات ذات مواقع متقدمة في خريطة المجتمع الفرنسي، من اديل ابنة فيكتور هوغو الى انطوان دوانيل، فالولد البريّ.

كانت السينما الفرنسية في الخمسينات من الماضي تنتج سنوياً نحو مئة فيلم، لكن عشرة او اثني عشر منها كانت تسترعي انتباه النقاد وهواة السينما. هذه الاعمال شكلت ما سُمّي "تقليد النوعية"، واستحوذت على اعجاب الصحافة الاجنبية، ودافعت عن العنفوان الوطني والحس القومي في مهرجاني كانّ والبندقية، وكانت تنال الجوائز باستمرار. حارب تروفو ورفاقه ظاهرة "الواقعية الشعرية" بشراسة. كان يؤمن ان السينما الفرنسية تنتحل شخصية السينما الاميركية، ومثالاً على ذلك، فيلم "بيبي لو موكو" الذي قلد "سكارفايس". كانت السينما في فرنسا، قد تجدّدت خلال الحرب وما بعدها، فتطوّرت نتيجة ضغط داخلي وبفعل الواقعية النفسية التي حلّت محل الواقعية الشعرية. أبرز رواد تلك المرحلة: جان دولانوا الذي اخرج "الاحدب"، وكلود اوتان لارا صاحب "السمكري المغرم"، وايف اليغريه الذي انجز "علبة الاحلام". كان تروفو يصف هذه الاعمال بالتجارية: "يجب الاعتراف بأن نجاح هؤلاء السينمائيين او فشلهم مرتبط بالسيناريوات المختارة، ويمكن القول ان افلاماً كـ"السمفونية الراعوية" و"الشيطان في الجسد" و"العاب ممنوعة" و"مانيج"، يعود الفضل فيها الى كتّاب السيناريو. أولا، يُعزى تطوّر السينما الفرنسية الى التجدّد الدائم لكتّاب السيناريو وموضوعات الافلام وجرأتها، وأخيراً الى الثقة بالمشاهدين لتقبّل الموضوعات التي عُرفت بأن من الصعب التطرّق اليها. بعدما اختبر جان اورانش الاخراج في فيلمين قصيرين، عاد وتخصّص في الاقتباس. عام 1936، وقّع مع انوي حوارات "ليس لديكم ما تصرحون به". في الوقت نفسه، اصدر بيار بوست روايات مهمة. تعاون اورانش وبوست للمرة الاولى، حين اقتبسا وكتبا حوار "دوس" الذي اخرجه كلود اوتان لارا. بات اليوم مؤكداً ان هذا الثنائي اعاد الاعتبار الى الاقتباس، فقلب المقاييس حتى بات يقال: "الاقتباس الوفي خائن". اما شهرة الثنائي، فتعود الى الوفاء لروح الرواية المقتبسة والموهبة التي يبثّانها في عملهما. نوّعا في اختيار الروايات التي اقتبساها، ومن أجل المحافظة على روح كتّاب الروايات، كان لا بدّ ان يعرفا نفسيهما جيداً، ويكون لديهما نوع من المرونة الفكرية وشخصية قوية ذات خصوصية شديدة الملامح. يعتبر بيار بوست "التقني"، فيما يعزى الى جان اورانش الجانب الروحي. تعاون هذا الثنائي مع مخرجين متنوعي الاسلوب، من الكاتب الاخلاقي جان دولانوا، الى الخارج على المألوف كلود اوتان لارا.

لعل اكثر ما كان يزعج تروفو في موضوع المساواة بين الرواية والفيلم، القول ان المشاهد لا يمكن تصورها، وكان يثير غضبه الاجماع على ذلك. للمثال، فيلم "يوميات كاهن" لروبير بريسون الذي يحوي مشهد كرسي الاعتراف، حيث يبدأ وجه شانتال بالظهور رويداً. كان جان اورانش يقول، قبل بضع سنوات من تصوير الفيلم، ان هذا المشهد يتعذر إنتاجه، مضيفاً: "مقولة "الابتكار من دون الخيانة" تعني لي القليل من الابتكار مع الكثير من الخيانة".

كان اورانش وبوست يصنعان افلاماً مناهضة للاكليروس. وفي زمن كانت الافلام الدينية رائجة، وافق الاثنان على الاستسلام لها. كانا وفيين لمعتقداتهما واثبتا ببراهين متعددة، بأنهما يعرفان جيداً فن "خداع المنتج"، من خلال ارضائه، وخداع "الجمهور" من خلال ارضائه ايضاً. عن هذين، قال تروفو: "بالنسبة اليهما، الاشخاص في كل رواية هم: "أ" و"ب" و"ج" و"د". في هذه المعادلة ينظّم كل شيء، وفقاً لمعايير يعرفانها وحدهما. فالمضاجعات مثلاً تحصل في تماثل مدروس. اشخاص يختفون وآخرون يظهرون، فيبتعدان رويداً بالسيناريو عن النص الاصلي، حتى يصبح كل شيء متكاملاً، بلا شكل محدّد، لكن بأسلوب ذكي، فيصبح الفيلم جديداً، ويدخل بكل احترام الى "تقليد النوعية". يقال لي: "لنفترض ان اورانش وبوست غير وفيين، لكننا لا نستطيع ان ننكر موهبتهما"، فاقول ان "لا علاقة للموهبة بالوفاء للنص الاصلي، لكني لا اعترف باقتباس ناجح، ما لم يقم به سينمائي. فاورانش وبوست هما، في الدرجة الاولى، معنيان بالادب، وانا ألومهما لاحتقارهما السينما، وخصوصاً انهما "يعاملان" السيناريو كما لو كان فتى منحرفاً يعيدان تأهيله. في الواقع، يحتقر اورانش وبوست الروايات التي يقتبسان منها".

طوال مساره الفني الحافل بأفلام بديعة واخرى اقل ابداعاً ("حورية الميسيسيبي")، عُرف تروفو بطبعه المشاكس، واعطائه التوجيهات الى المشاهد الذي ضلّ طريقه في زحمة افلام كانت تحظى بنقد متمكن ورصين من توقيعه. في مقاله الشهير "ميل ما للسينما الفرنسية" نصح قراءه بمقاطعة الافلام التي لا ترد فيها فكرة: "هم الذين يملكون المال" (او الحظ، او الحب، او السعادة، ما اقسى هذا!). وكتب: "تقوم هذه المدرسة التي تتجه نحو الواقعية، بتدميرها في اللحظة نفسها التي تبلغها، فتسجن الشخصيات في عالم مغلق، مليء بالنظريات والشعارات واللعب على الكلام، بدلاً من ان تتركها على حقيقتها. يجب الا يسيطر الفنان على عمله، فعليه ان يكون تارةً "الله"، وطوراً مخلوقاته".

النهار اللبنانية في 26 فبراير 2007