سينماتك

 

"خيانة مشروعة".. صراع بين باطل وباطل

ياسر علام

 

 

 

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

 

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

 

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

 

أرشيف

إبحث في سينماتك

 

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

 

سينماتك

 

لا يكف المخرج المصري "خالد يوسف" عن إدهاش المتابع لتجربته الإبداعية، ولا تمثل أفلامه إلا بإثارة علامات الاستفهام بقدر يكافئ علامات التعجب.. ولا يخرج فيلمه الجديد "خيانة مشروعة" عن هذا لإجماع إلا بكونه على نحو ما امتصاص واعٍ ومسئول لكثير مما وجه لأفلامه السابقة.

وهذا يؤكد أننا في مواجهة مخرج باحث ومقاتل طويل النفس، مخرج لا يعني بتقديم تجربة أو اثنتين لينال بهما حظوة نقدية، أو جائزة مهرجان، يوضع على إثرها في ريبريتوار التعالي النخبوي الفني ودمتم.. بل على العكس.

نحن أمام ممارس وطن نفسه على الحضور والاستمرار مع دفع الضريبة المتحملة لمثل هذا الحضور.. ولعل المتابع لأعمال "خالد يوسف" يكتشف أنها يمكن أن تشكل عمل فني واحد ممتد.. أو بعبارة أخرى هي، تنويعات على مكون صلب يختبر "خالد" على سطحه تكنيكات وأساليب مختلفة لجلي هذا المكون.. وآية ذلك أن التحاور مع أفلامه السابقة ومشاكستها حاضر بالفعل في فيلمه هذا.

وعي بتجاربه

المذاق التراجيدي حاضر دائماً لدى "خالد يوسف"، حاضر للحد الذي يصعب تمرير تجربة من تجاربه، دون المساس بفكرة، اعتداء من لدن من يحمل دمًا على من يحمل نفس الدم.. فإن كانت مأساة إسالة الدم العربي العربي وتمثلها بين أخوين قد عايناها في فيلمه "العاصفة"، وإن كانت مأساة صراع حق في مواجهة حق وصلت بدراما فيلمه "أنت عمري" للحد الذي صنع توترا فنيا مشحونا أبدا، وإن كان خالد قد تصور نفسه الصارخ في برية الرجعية والتزمت والارتداد في "ويجا" -مع اختلافنا مع هذا التصور، ومن ثم النبر المعبر عنه.. أي مع ضفيرة الشكل المضمون بأسرها-.. فإن عمله "خيانة مشروعة" جاء ليعكس وعي مخرجه بنجاحات منتجه الفيلمي السابق وإخفاقاته.

مما يعني أن خالد يراجع جيداً كتابه بيمينه وحتى قبل يساره.. فهو حين شرع في تجربته الجديدة ها هو يعيد تلك المكونات في تحويجة حافظت على مأساوية إثارة الدم الواحد، وبتوتر درامي شحذه هذه المرة الصراع بين باطل وباطل، وبوعي أكثر ثباتاً في التعاطي مع خصوصية مزاج اللحظة المجتمعية الآنية.

مفارقة درامية

تدور أحداث فيلم "خيانة مشروعة" في الدقائق الأخيرة من حياة المتهم "هشام البحيري" المحكوم عليه بحكم الإعدام، نتيجة لقتله زوجته وأخيه بزعم خيانتهما له، غير أن التحقيقات أثبتت كذب هذا الادعاء من جانب، وتضليل المتهم للعدالة بتلفيق حادث الخيانة المزعوم كتدبير من المتهم بغية استرداد حقه من ميراث أبيه من جانب آخر.

والفيلم يدور في تلك الدقائق التي يقرأ فيها المسئول الأمني المنوط به تنفيذ الحكم ملف المتهم قبل اقتياده لتنفيذ الحكم.. وخلال تلك القراءة يعرض المتهم لقصته كاملة ليكون هو الراوي.. لكنه إذ يعرض تلك القصة لا يعرضها في ضوء خبراته النهائية المكتملة، بل إنه يعرض فيها كذلك اكتشافاته بترتيبها الزمني كنوع من التبرير لسلوكياته، طبقاً لما كان يتوفر لديه من معلومات في كل مرحلة.

ولأن اكتشافات المتهم في مسيرته أقل ما يقال عنها أنها مذهلة ومحكمة.. فكان من البديهي أن يصنع غيابها ثم حضورها سيناريوهات تتقاطع وتتناقض وتتكامل.. لتجعل الزيف حقيقة والحقيقة زيفا.. وحين يعتمد البناء الدرامي على قدر من المعرفة وقدر من الجهل نحن إذن في مواجهة المفارقة الدرامية.. تلك المفارقة التي لا تنجلي إلا في آخر لحظات الفيلم.. لكن دعنا نبدأ الحكاية.

شرعية أم مشروعة

اسم الفيلم هو "خيانة مشروعة" وهو معدل عن الاسم القديم "خيانة شرعية"، والحقيقة أن الاسم لا يتحول إلى دال سلبي على واقعة من وقائع الفيلم، أو سلوك أحد شخصياته.. بل يتسع ليستخدم على عدة محاور.

أولها محور علاقة الأب البحيري بابنيه، هشام وصلاح.. البحيري أولاً هو رجل كل المراحل فهو العامل والنقابي المتلون بطلاء اشتراكي في زمن المستبد المستنير، وهو المتلفع بعباءة الرأسمال الوطني في زمن اللص الشريف، ومن البديهي أنه تحول الآن إلى حوت من حيتان البر المعلومين.

وأما ابنيه فأحدهما وهو "صلاح" فيستكمل مسيرة هذا الأب، وينال ثقته في إدارة مستنقعه.. والثاني هو "هشام" الغارق في "كريمة التورتة" نتاج عمل أبيه وأخيه.. وغير المعني بالدخول في ذوارقهما.. وفساد سلوكياته واستهتاره يجعل الأب يلعب عليه لعبته الأخيرة.. فيوصي بالثروة لصلاح.. طالباً منه عدم إعطاء هشام منها إلا بعد أن ينصلح حاله.. وحين يخبره صلاح بما يعتقده من أنه بهذا الفعل يخون أخاه.. يخبره الأب بأن هذه ليست إلا "خيانة مشروعة" يبررها مرماه الذي يستهدفه وهو إصلاح أخيه.

يُستخدم نفس التوصيف "خيانة مشروعة" على المحور الثاني أي في علاقة المثلث هشام البحيري بزوجته وبعشيقته "شهد".. فشهد إذ تثبت لهشام خيانة الجميع له.. خيانة أخيه بقبول شرط الأب بحرمانه من الميراث.. وخيانة زوجته مع عشيق قديم.. تطرح عليه أن يوحي لزوجته باستدراج صلاح لمنزلهما، حيث يقومان بالتحايل عليه وقتله.. ومن ثم يرث هو الثروة إذ يبرأ من اعتباره قاتلا بكونه قتل الشرف ويحق له الميراث.. ويكون بذلك قد ضرب خائنين برصاصة واحد الأخ والزوجة.

تستخدم "شهد" توصيف الفعل إبان استنكار هشام له: بكونه ليس إلا خيانة مشروعة.. لكن ما لا يعلمه هشام أن دليلها في خيانة زوجته ملفق، وبالتالي في سلم أفعال الخداع الذي يخدع هو فيه زوجته التي تخدعه فيتآمر معها بينما هو يتآمر عليها.. يقف هشام نفسه كمخدوع من العشيقة لا الزوجة فهي التي صنعت كل تلك الحبكة.. وهشام الخادع المخدوع لا يقف على أعلى درجات الحبك بل يُستخدم حتى وهو يستخدم زوجته.. و"شهد" تمارس ما تتصوره خيانة مشروعة حتى ضد هشام حتى تنال كل ما تريد.

لكن هناك محور ثالث نجد حضورا فيه لنفس المفهوم "الخيانة المشروعة" وهو محور علاقة صلاح البحيري بريم زوجته وبهشام.. فصلاح يخدع الصحفية الثورية الشابة "ريم".. بإقناعها بخطأ التصور الشائع عنهم كمؤسسة إفساد.. ثم يتزوجها من بعد.. يمارس هذا الخداع الذي ينكشف حين يقتل.. وريم تمارس خداعاً -غير مماثل- على هشام لتكشف جريمته ضد زوجها.. محور هذا الخداع خطة مشتركة مع الضابط تزعم بموجبها عن كونها حاملا من صلاح بوريث لكل تلك الثروة.. ويحاول هشام التودد إليها خادعاً ليقتلها بطريقة أو بأخرى.. غير أنه مع تورطه في حبها يتخلى عن خيانته غير الشرعية.. ويستسلم للحبكة المضادة فينكشف أمره على يديها.

تسويغات "شرعية"

خلال كل هذا التعقيد التآمري فائق الحبك لا يدع خالد خطًّا دراميًّا يفلت من بين يديه.. فلكل خداع ما يبرره دراميًّا.. ولكل كشف في توقيت بعينه ما يبرره دراميًّا.. إلا في موضع واحد وهو اكتشاف هشام للرسالة الحقيقية لزوجته على المحمول الخاص بشهد.. تلك الرسالة التي اجتزأت منها شهد المقطع الذي يرجح تورط زوجة هشام في خيانة مع عاشق قديم.. وهو الاكتشاف الوحيد الذي يتم عبر المصادفة في توقيت بداية ميل هشام العاطفي الحقيقي لأرملة أخيه.. أي أنه مع الميل لهذه يكتشف خيانة تلك في نفس التوقيت وهو يلعب في محمول "شهد" وبالصدفة.. ويزامن هذا أخبار المحامي له بحقيقة اتفاق البحيري مع صلاح.. أي أن هشام يكتشف أن أخاه وزوجته لم يخنه أي منهما مرة أخرى في نفس التوقيت.. حتى هذا الجلاء الذي يورثه الندم ويرميه أكثر في حضن نقاء ريم.. كشف نسبي إذ إنه كشف لجزء من الحقيقة.. فالزوجة الخائنة من قبل والبريئة الآن قد خانته بالفعل وهو ما لم يعلمه حين أجرت عملية ترقيع غشاء بكارة إبان زواجهما وهو ما لم تعلمه سوى "شهد".

إذن الجمهور يعلم هنا ما لا يعلمه هشام، ويرى ندمه فيعطي ذلك رصيدا إيجابيا لهشام. والجمهور هو كذلك من يعرف ما لا تعرفه ريم عن صلاح.. بذهابه إلى أهل أحد قتلى استهتار هشام والذين لا يقلون عنهم ثراء ولا بلطجة.. ليعرض عليهم دية قتل ابنهم.

هكذا يقوم هو بترقيع شرعي آخر حين يدفع الدية في قتل مع أنه ليس قتل خطأ.. هكذا نلمح عزفا على وتر استخدام مقولة (الشرعي) في تسويغ الخيانات.

وسط هذا الركام من معرفة أشياء، والجهل بأشياء أخرى، وادعاء أشياء، وتخبئة أشياء، واكتشاف أشياء، وتحولات مبنية على هذا التعرف من قبل شخصيات.. كان أمام الممثلين ملحمة من مخططات الأداء التمثيلي وفهم طبيعة التحول مع التعرف.. خاض هاني سلامة فيها معركة في دور هشام البحيري لم يخرج منها صفر اليدين كالعادة، وخالف سوء ظننا به كممثل، ونجح في التخلص من الاعتماد المفرط على عينيه في أفعال التبريق التي عودنا عليها.. صحيح أنه استبدل هذه المرة التبريق بالزعيق.. لكن لا بأس ومن غير المنصف إنكار أنه يلتمس طريقه في وجهة صحيحة هذه المرة.

مجاز بصري

نقاط فنية سقطت من "خالد"، مخرج وكاتب، منها ما أسلفناه حول التزامن غير المبرر فنيًّا بين معرفة هشام بحقيقة شهد وقت ميله لريم، أضف إلى ذلك حجم معرفة شهد القانونية التي فاق المحامي المخضرم بكون القتل لحادثة شرف لا تحرمه من الميراث.. قد يبدو ذلك مبرراً بكون الميراث دائرة اكتراثها، لكن كيف وصلت لذلك أو أين مرجعيتها؟!

غير أن نقاط فنية من هذا النوع لا تنفي أننا إزاء تجربة تستحق المشاهدة.. ولحظة تذكر مثل التي يقدمها خالد يوسف في المكتب ويستدعيها هشام..فنراها وراء الشرائح الستائر دون أن تسحب الإحداث الماضية بعد أن تنتهي..لنرى الحاضر في وضوح وجلاء كما أعتدنا.. بل يبقى الماضي على نحو ما ليكون ذلك بمثابة مجاز بصري شعري يؤكد حضور الماضي وجثومه على لحظة الحاضر.. تثبت صحة ما ذهبنا إليه بل ما ذهب إليه خالد يوسف والبقية تأتي..

مسرحي وناقد فني مصري.

العرب أنلاين في 18 فبراير 2007