في حزيران، على مدار أيام خمسة متواصلة، امتدت بين الخامس والتاسع منه، وعلى بضعة عشرات الأمتار مِن خط الفصل، شهدت قرية مجدل شمس السورية المحتلة حدثاً متعدد المضامين والدلالات، محمّلاً أكثر من رسالة، وفي غير اتجاه: "تظاهرة الفيلم السوري" في "مركز فاتح المدرّس للثقافة والفنون في الجولان السوري المحتل". يضمّ المركز مجموعة صبايا وشباب ذوي اهتمامات وميول شتّى، يلتقون على دفع الحراك الفني والثقافي في قراهم المحتلة. ليس لهم من معيل إلا جيوبهم، التي تغذّي نشاطاتهم المختلفة. وكنوع من التواصل الوجداني الأحادي القطب مع وطنهم، اختار القيّمون على المركز تسميته "فاتح المدرّس"، عرفاناً بقيمة الرسام الفنية وميراثه، وإحقاقاً لحقّ لم يفز به في حياته، أسوة بمعظم كبار الوطن، ممّن عاشوا غربة في داخله كما في خارجه. وكان القيّمون، أقاموا ملتقى سمّوه "عود النعناع"، يساعدهم في سدّ جزء من نفقات المركز.

جاء هذا العمل امتداداً لنشاطات فنية وثقافية وعروض مسرحية محدودة، قامت بها جهات مختلفة في الجولان. وهو ثمرة اتصالات عديدة وجهود بين مخرجي الأفلام والقيّمين عليه في الجولان المحتل. ورغم أن الحضور جاء غير موازٍ لأهمية التظاهرة والأفلام المعروضة، إذ لم يتجاوز العشرات يومياً في أحسن الأحوال؛ ومردّ ذلك، قد يكون بعض الارتجال في طريقة الإعلان والترويج، وربما خلوّ قرى الجولان المحتل الخمس مِن أي مسرح أو دار للعرض، وعدم وجود ثقافة مسرحية أو سينمائية من الأصل، فإن مجرد حصول التظاهرة، يعتبر حدثاً تأسيسياً. في مطلق الأحوال، هو أمر من المفترض أن يخضع لإعادة تقويم من إدارة المركز نفسها.

تظاهرة الفيلم السوري، ضمّت اثني عشر فيلماً، موزّعة بين المخرجين أسامة محمد، عمر أميرالاي ومحمد ملص. الأفلام المعروضة، جاءت على النحو الآتي: القنيطرة 74، الذاكرة، صندوق الدنيا، نور وظلال، فاتح المدرس، الحياة اليومية في قرية سورية، خطوة خطوة، فيلم محاولة عن سد الفرات، طوفان في بلد البعث، طبق السردين، وهنالك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء، الدجاج.

البادرة، تزامنت مع ذكرى ضياع الجولان التاسعة والثلاثين. فهل جاء التوقيت نوعاً من الردّ على الهزيمة في عيد مولدها، بطرق التفافية، تنأى عن زواريب السياسة ومفاسدها، وحسابات دهاقنة الرهان على الأحصنة الخاسرة، والقفز تالياً فوق جدار الاستثمار السياسي لقضية الجولان، إلى تواصل فعليّ طال انتظاره مع نخب الوطن ومفكريه وخلاّقيه؟ تأتي أيضاً في وقت، وربما ردّاً عليه، تكثر فيه ثقافة التخوين في الجولان، وبيانات التهديد والوعيد، كشكل آخر للتعبير عن عمق الانتماء للوطن السوري. ألم تكن بضاعة التخوين في سوريا، الأكثر رواجاً وتجذراً وعراقة في بازار الدعوة إلى وحدة العرب، وردع الهجمة الإمبريالية في العقود الأربعة المنصرمة؟

لسنا في معرض تحليل الأعمال المعروضة أو نقدها. فالأفلام، أشبعت نقاشاً ونقداً على صفحات الجرائد وفي المنتديات. فتظاهرة الفيلم السوري في الجولان، لا تستمد قيمتها من نوعية الأفلام المعروضة وسمعة أصحابها فحسب، بل تتعدى ذلك، وللمرة الأولى، إلى نوع من التواصل بين الفرع والجذر، ليس بواسطة مهرجانات خطابية رسمية على "تلّة الصيحات أو الدموع"، خميرتها تفخيم وتعظيم وإشادة، ووعود تحرير مؤجلة، بل عبر كوكبة مِن مبدعي الوطن، ومحاكاة أصلية لواقعه المعيش.

قد تكون هذه التظاهرة الجولانية السورية بداية إعلان لمرحلة جديدة، عنوانها نعي احتكار السياسة قضية الجولان، يعود الفضل الراجح فيها إلى اجتهاد أصحابها، والتكنولوجيا والإنترنت، إذ تمكّنت مِن القفز فوق حقول الألغام والأسلاك الشائكة المكهربة، التي تفصل الجولان عن عمقه السوري والعربي، بعد فشل جميع شعارات "ما أخذ بالقوة لا يستردّ إلا بالقوة"، مروراً بـ"لاءات العرب الثلاث" الشهيرة، ثم "مرحلة التوازنات الإستراتيجية"، فـ"سلام الشجعان العادل والشامل"، في اختراقه أو زعزعته قيد أنملة.

عرض الأفلام السورية بهذا المحتوى، يحمل أكثر من معنى. إنه، ينقل أهالي الجولان إلى بعض أدقّ تفاصيل الواقع السوري غير المنقول عبر الإعلام الرسمي، بطبيعته وعاداته وتنوّع لهجاته وطريقة تفكيره، أو تدجينها إذا صحّ القول. وهو أسلوب آخر لانقلاب الأهالي على "مواطنة نظرية" حكمت علاقتهم بدولتهم طوال سنيّ الاحتلال. وفي الوقت نفسه، رسالة إلى نخب الوطن، لتبنّي قضيتهم وحمل همّهم إلى الشعب السوري والضمير العالمي، عبر محاكاتهم بالريشة والقلم والمؤثر الصوتي والمرئي، ليعود الجولان إلى صدراة اهتمام السوريين، التي كانت خسارته أصل بلواهم، ومفتاحاً لبداية حل أزمتهم في آن واحد.

فقضية الجولان، أكبر من أن تُختصر بضرورة العمل على تحرير بضعة أسرى في سجون العدو، رغم عدالة قضيتهم، أو تحقيق بعض القضايا المطلبية هنا وهناك، على أهميتها. إنها مرتبطة في الدرجة الأولى بطبيعة وأرض ومياه ونزوح، وبأجيال كاملة، خُلقت تحت الاحتلال، وكبرت بعيداً عن وطنها، في ظل قطيعة شبه كاملة. أجيال، يحمل كثيرون منهم أسماء مدن وطنهم وقراه وأنهاره. وطن، يهتفون باسمه ليل نهار، ويتغنّون بانتمائهم إليه، لكنهم مدركون في أعماقهم حجم مأساته وكبر فجيعته. هنا، مكمن الخوف من الأيام المقبلة.

أن يُعرض فيلم "طوفان في بلد البعث" لعمر أميرالاي في الجولان المحتل، بينما هو ممنوع في الداخل السوري، بل طاولت ملاحقته "مهرجان قرطاج"، يشبه كثيراً طريقة أميرالاي نفسها، المستخدمة في فيلمه، أي عرض الشيء لتأكيد نقيضه. وهو، من دون شك رسالة من القيّمين على النشاط في الجولان، شاؤوا الإفصاح عنها أم أبوا، لا يمكن تحميلها الكثير من المعاني، فيما الوطن مهدّد بطوفان من نوع آخر، يحرق الضرع فيه والزرع.

فليس اكتشافاً عظيماً، أن ما تقوم به السلطات السورية من اعتقالات وتضييقات على المثقفين وناشطي المجتمع المدني، يعكس عمق الأزمة التي يعيشها النظام هذه الأيام ويقحم الشعب فيها. وهو في المحصلة، ليس إلا إقرانا لقول "علية القوم" بالفعل، إن الأصوات المعارضة تُحدث تشويشاً وقت الأزمات، وتهديدها بعظائم الأمور.

شكل آخر للأزمة ينذر بالطوفان، تجلّى أخيراً على صورة تديّن غير معهود؛ فعند العرب مظهران، كان كلما استُحضِر واحد منهما حلَّت اللعنة: استحداث رتبة "مشير"، وإقحام الله في معارك خاسرة على الأرض. فتلزيم الله حماية الدولة في هذا الوقت (سوريا، الله حاميها)، لا يشبهه سوى استدعائه على العلم العراقي في "أم المعارك"! لكن الحاصل، أن الله عاشق لسوريا، أكثر مما هو مغرم بحمايتها. وقيل: "إذا أحبّ الله عبداً ابتلاه". وعلى هذا، يبدو سبحانه، أنه محبّ لسوريا كما لم يحبّ دولة قَبلها ومثلها.

مسكُ تظاهرة الفيلم السوري، جاء على شكل اتصال هاتفي بين الجولان المحتل وبيروت، معطياً بعداً إضافياً، لا يقلّ دلالة عن التظاهرة نفسها. تحدّث فيه الحاضرون في مكان العرض مع المخرجين أسامة محمد وعمر أميرالاي، تمّ خلاله "كسر سور وهمي في تعاملهم مع أهلهم خلف الشريط"، على حدّ وصف أميرالاي.

النقاش، تمحور في شقه الأول حول الأعمال المعروضة نفسها. كان لفيلمي "طوفان في بلد البعث" و"صندوق الدنيا" الحصّة الأوفر فيه، أجاب خلاله صاحبا الأعمال عن استفسارات الأهل وتساؤلاتهم. بينما خاض في شقه الثاني في استعراض المشهد السوري من جوانب مختلفة، وفي أدقّ التفاصيل. عبّر فيه المخرجان عن حزنهما الشديد على "وطنية سورية"، لم تُستنهض ضد إسرائيل، أو ردّاً على هزيمة 1967، وإنما في مواجهة بلد عربي إسمه لبنان! وعلى سيرة أن العرض تمّ في مركز فاتح المدرّس، نقل أسامة محمد عن فاتح المدرس قوله يوماً: "لو وعى السوريون جمال الجولان وطبيعته، لما تمكّن من احتلاله أحد".

·     منير فخر الدين: أرحب بكم بإسمي وبإسم مركز فاتح المدرس وجمهور الحاضرين وأشكركم على إتاحة هذه الفرصة الجميلة لمشاهدة أعمالكم واللقاء بكم هاتفياً.

عمر أميرالاي: مساء الخير، اعتقد أنها لحظة إستثنائية جداً بالنسبة للجميع، وليس من السهل أبداً التعاطي معها بأريحية بعد كلّ هذا الانقطاع الطويل والمفروض علينا للتواصل مع أهلنا وراء الشريط، لذلك أريد أن أقول إننا الآن في حالة انفعالية ووجدانية عالية جداً.

أسامة محمد: هذه اللحظة هي تعبير فني، ويمكن القول إننا نرى الصوت. إحساسي الشخصي أن هذا الصوت هو مثل العدسات، مثل البصر الذي ينتظر سماع الجهة الثانية ليبصر. أشعر بالأسى لقولي الجهة الثانية، ولكن أحيانا عندما تصبح الوقائع كالحكايات وتطول في الزمن تبدأ إثبات أنها حقيقية رغم كونها حكاية.

·     منير فخر الدين: نحن في الحالة الانفعالية نفسها، ونعتبر هذا التواصل جزءا من ممارسة الانتماء الحقيقي والعميق لشيء اسمه المواطنة السورية التي نعيشها عن بعد بشكل غريب تماما، لكنها دائما في أفق أحلامنا. أنا شخصيا كنت أسمع بأسمائكم في الثمانينات من خلال التلفزيون السوري، ومن خلال برنامج "الفن السابع" تحديدا، كنت اسمع عن أعمالكم وأتعجب لهذه الجغرافيا التي جعلتنا بالرغم من قرب المسافات نسمع عن هذه الأفلام من دون أن نتمكن من مشاهدتها. هذا اللقاء بعد عقد ونصف عقد هو بالنسبة لي لحظة تاريخية ووجدانية في آن واحد. أرحب بكم ثانية، وافتح باب الحوار للراغبين بالحديث من جمهور الحاضرين.

وعي الهزيمة

·     نهاد الصفدي حلبي: مساء الخير للمخرجين الكبيرين عمر أميرالاي وأسامة محمد. دائما نلتقي الإعلام السوري بالانزعاج النسبي، كثيرا او قليلا، حسب الجرعة الموجهة، لكننا أصبنا بما يشبه الغثيان لهذه الجرعة المكثفة وتوضحت لنا الصورة كم هي مأسوية، وكم هي ماكنة التدجين البعثية نشطة. وبالنظر للأسباب الواضحة لعدم عرض هذه الأفلام في سوريا، أسأل: إلى أي درجة حاولتم تكثيف هذا الإنتاج الذي يلامس الحقيقة؟ مثلا، إلى الحد الذي لا يدخلكم السجون؟ أتمنى عليكم في أفلامكم المقبلة أن تذكّروهم: كيف سيستطيعون تغيير المستوطنات والمزارع اليهودية في الجولان والتي تنتج الملايين، من الناحية القومية وليس الهندسية، ليجعلوها أكثر حضارية في إشارة إلى وصف النظام لسد الفرات بأنه اجتثاث شعر النهر الأشعث وتحضيره، الذي يرد في فيلم أميرالاي "طوفان في بلد البعث"؟!

عمر أميرالاي: شكراً على سؤالك الذي يتمتع بجرأة طرح موضوع حساس جداً، وبهذين الوضوح والمباشرة، لأننا لسنا معتادين كثيرا على ذلك. لذا إذا تأتأنا وترددنا قليلا، فالسبب أننا نصارع فينا الرقيب الداخلي الذي يسكننا منذ أربعين سنة أو أكثر حتى اليوم. طبعاً لا مشكلة في الإجابة عن هذا السؤال السياسي المباشر، لأننا عاهدنا أنفسنا منذ بداية عملنا في السينما، سواء أنا منذ أول يوم مارست فيه مهنتي كسينمائي عام 1970 (مع بداية الحركة التصحيحية في سوريا)، أو أسامة محمد في ما بعد، ومحمد ملص من قبل في منتصف السبعينات. سينمانا منذ البداية كانت مجبولة بالسياسة، وهذا شيء ليس عظيماً في الضرورة، إلا أنه في مكان ما حدّد خياراتنا. ففي ممارسة أي مبدع أو مثقف أو فنان لمهنته، يكون لديه عادة حرية اختيار توجهه، فإما أن يربط عمله الإبداعي بالسياسة وإما بالمجتمع وإما بالتأمل الذاتي أو الفلسفي،... الخ. نحن مع الأسف أُجبرنا، أو بالأحرى اضطررنا، أن يكون عملنا دائماً مجبولا بالوضع السياسي لبلدنا. خلاصة الكلام: نحن لم نختر هذا الشيء، فوعينا تشكل منذ بداية علاقتنا مع هذه المهنة على هذا الواقع المرّ والصعب.

أنا أفهم تماما ما تحدثت به عن الإعلام الرسمي، وعن التعتيم وكمّ الأفواه، لكن أعتقد أنه منذ بدايات السينما السورية بشكلها المعاصر في الستينات، أي منذ استحداث مؤسسة السينما في سوريا وبداية عودة المخرجين الذين درسوا في الخارج إليها، ارتأينا ضرورة أن نؤسس لهذه العلاقة المتينة بين التعبير الفني وواقع البلد. وكما قلت، نحن في بلد موجود في خضم صراع مرير وربما أزلي بينه وبين العدو الاسرائيلي. نحن جيل نشأ في وجود هذا الصراع، والجيل الذي أنتمي أنا إليه تشكل وعيه السياسي مع هزيمة 1967، وبالتالي وُضعنا منذ البداية على سكة هذه العلاقة مع الاضطراب السياسي في بلدنا ومع الصراع مع إسرائيل. هزيمة عام 1967 هي التي فتحت عيوننا على هذه الحقيقة المرّة، وبالتالي عرفنا، سواء أنا أم سعد الله ونوس أم آخرون، أنّ معركتنا بعد 1967 ليست مع العدو الخارجي، إنما مع العدو الداخلي، الذي هو تخلفنا. هذا التخلف الذي أفرز أنظمة انحصرت مهمتها وكلّ همّها في المحافظة على استمرار هذا التخلف في مجتمعنا. وإذا وُجدت أعمال حاولت الخروج عن طوق هيمنة هذه الأنظمة على المجتمع، والمواطن، وحرية الأفراد، والإبداع الفني خلال السنوات التي تلت عام 1967 (أي على مدى أربعين عاماً)، فإنّ هذه الأنظمة نجحت في المحصلة أن تكمّ الأفواه مع الأسف، وهذا ما نحاول مواجهته ومقاومته داخل أفلامنا.

أسامة محمد: سأبدأ بكلمة استخدمناها اليوم بشكل عفوي، سواء نحن الاثنين أو منير فخر الدين، وهي كلمة المواطنة. المواطنة حرية، وبغض النظر عن الشروط المحيطة، السياسية أو الاقتصادية أو العالمية، فإنها تبقى حرية، وهي ليست موضوعا للنقاش. هي لا تُسلب في حال وجود عدوان خارجي، ولا تُمنح في حال زواله. هي واحد من أسباب العيش، ومن صفات الحياة. وهنا أتحدث أيضا عن نفسي، من المكان النقدي الذي أنا موجود فيه مع أفلامي، لشكل الحياة في سوريا، أو من موقعي المواجه لأسلوب الحكم والنظام السياسي فيها، أقول ببساطة أن منشأي الأساسي هو منشأ أخلاقي يتعارض تماماً مع تعريف هذا النظام للإنسان المقصوص الأجنحة واللسان والعقل. عام 1967، كنت شاباً صغيراً، ولم أقتنع بأنني يجب أن أكون مهزوماً، ووصلت إلى معادلة بسيطة: الانسان مهزوم لأنه غير مسموح له وللمجتمع ان يستخدم كل طاقاته الكامنة أو غير الكامنة. وأن الجزء الأكبر من هذه الطاقات يُهدر أو يُسرق. يُسرق كعمر وكمقدرات. وهذا ما يضع الإنسان أخلاقياً في موقع عدم قبول هذا الشكل من المواطنة.

أما أفلامنا، فهي تمرين، وأحب استعمال كلمة تمرين. إنها تمرين مستمر على الحياة وعلى التعبير عما تشعر وتؤمن به. لأن هذا الحقّ لا يمنحك إياه أحد، ويجب ألاّ تقبل أن يمنحك إياه أحد. هنا منشأ المغامرة. ونحن مستمرون بهذه المغامرة، لا نعرف إلى أين. ولهذه المغامرة الفضل بأنها جعلتنا نصنع أفلاما، قادرة، حتى بالمعنى الفني، على أن تدافع عن نفسها قليلا أو كثيرا أمام المتلقي.

·     نهاد الصفدي حلبي: لديَّ تعقيب. نحن ننظر إلى الأمور من وجهة نظر أناس محتلين. وعندما نلتقي بالإسرائيليين تجري بيننا هنا وهناك حوارات تأخذ شكل حرب دونكيشوتية، قد ترضي الشعور، ليس أكثر. يعتقد غالبية الإسرائيليين أننا ننعم بالعيش تحت الاحتلال الإسرائيلي ولا يصدّقون رغبتنا كسوريين بالعودة إلى سوريا، ويفسرونها على أنها خوف من غضب النظام علينا. جوابنا يكون غالبا بما معناه: لنا وطن ننتمي إليه، بنظامه الحاكم أم بغيره، والوطن ليس ملكا للنظام. ومن جهة ثانية، لا يمكننا القبول بمواطنة من الدرجة الثانية أو العاشرة في إسرائيل. ونبقى سوريين بالرغم من معرفتنا الدقيقة بمصاعب الحياة للمواطن السوري. فانتماؤنا هو للوطن وليس لأي نظام كان.

عمر اميرالاي: حول موضوع العلاقة بالوطن، نشكر الأخت على مداخلتها وعلى هذا التوضيح الضروري والمؤثر في الوقت نفسه. إنّ سياسات النظام هي التي أدت إلى نزوح أكثر من 5 ملايين سوري عن وطنهم لأسباب أكثرها طلب الرزق أو الحرية. وهناك التباس يخلقه النظام دائماً بجعل نفسه هو الوطن، كي يصبح المس بالنظام مساً بالوطنية. وهذا ما رأيناه أخيراً في أحداث لبنان بعد خروج القوات السورية منه. لأول مرّة صرنا نسمع بالوطنية السورية التي لم تستيقظ مع الأسف إلا في مواجهة بلد عربي. كنا نتمنى لو استيقظت هذه الوطنية قبل أربعين عاماً في 1967، وأنّ تُستنهض وطنية المواطن السوري اليوم لاستعادة أرضه المحتلة والمغيّبة حتى الآن بقرار سياسي. هكذا غُيّب الجولان حقيقة منذ العام 1967 حتى اليوم في أذهان جيل كامل من السوريين داخل الوطن. وأنا أتحدّى أن يكون الشباب السوري اليوم يعرف شيئاً عن الجولان، أو أن يأتي ذكره على لسانهم. هذه الوطنية في رأيي مشكك فيها عندما تغيّب من ذاكرة الناس أراض محتلة فقدها الوطن في هزيمة عسكرية وسياسية في مواجهة عدو خارجي.

أسامة محمد: كما قالت الأخت: خيارها لسوريا كوطن، هو خياري الشخصي أيضاً، وسوريا هي وطني النهائي. لكنها أبدا ليست سوريا التي تُملى عليَّ، ليست سوريا التي لا أتمتع فيها بحقوقي وهي، بالنسبة لي، شرعة حقوق الإنسان. سوريا الوطن هي سوريا المحررة من الداخل، والتي أشارك أنا أيضاً في تعريفها وفي بنائها. مجرد المنع من المشاركة الفعلية في نقاش مستقبل الوطن وبنائه، هو إساءة الى هذا الوطن، وإساءة الى معنى الوطنية. الفساد الذي يرفع شعارات الوطنية لا يحمي الوطن في رأيي، إنما يدمّره. الفساد مع شعارات وطنية في ظلّ انهيار مستوى التعليم، ومستوى القضاء، و... يؤدي إلى انهيار الوطن. أنا سوري، لكني أبدأ من مستوى ما قبل الصفر في بناء الوطن الذي لا يتناقض مع إنسانيتي. في تاريخ سوريا الحديث الذي أعرف، لا يوجد معتقل سياسي سوري واحد إلا شارك إما بالحرب ضد إسرائيل وإما سقط له شهداء في مواجهة إسرائيل، وهو من أشد الناس معرفة بالجريمة الإسرائيلية التي هي قبل كل شيء عار على المواطن الإسرائيلي ما لم يعترف بها، والتي ارتكبت في حق الشعب الفلسطيني وحق أمته وحقنا نحن.

·     وائل طربيه: أريد القول إن أعمالكم السينمائية قادرة على تعريف جيل لدينا في الجولان، على تاريخه القريب والصميمي والذي من المفترض أن يكون مكونا أساسيا لوعيه، إلا أنه مغيب عنه، ولكن لأسباب مختلفة عن تلك في سوريا. وأقول للأستاذ أسامة محمد: إن الانطباعات لدى من شاهد فيلمك الرائع "صندوق الدنيا" كانت على طرفي نقيض. فقسم من الجمهور كان مبهورا ومعجبا جدا بالعمل ورآه في مصاف روائع السينما، وقسم آخر لم يجد ما يتفق وتوقعاته فخرج غاضبا. وقد تعرفنا خلال هذا الأسبوع على مسائل تلامس عالم السينما السورية ومشكلاتها، ابتداء من المؤسسة العامة للسينما إلى كيفية إنتاج الأفلام ومعاناة المخرجين والسنوات التي تمر في انتظار إنتاج فيلمهم التالي والحصار لبعض الأعمال كـ "طوفان في بلد البعث" سواء في سوريا أو في قرطاج. وهنا أتساءل: أين يقف الفيلم السوري التسجيلي في المشهد الثقافي السوري وعلى مستوى المواطن؟ وهل انحصرت السينما السورية الناقدة في إطار المهرجانات أم تمكنت بطريقة ما من الوصول إلى الناس، والتي أعتقد أن رسالتها موجهة إليهم في الدرجة الأولى؟

أسامة محمد: سأبدأ بـ"صندوق الدنيا". إن انقسام الجمهور قسمين شيء جيد وصحي طالما هنالك حوار. أنا أعي هذا الانقسام، وهو مشابه تماما لما حدث بعد العروض في سوريا، وأثيرت حوله نقاط: هل هو مصنوع للجمهور،... الخ؟ بالنسبة اليَّ، ليس من الضروري في السينما أن تشاهد فيلما وتتمكن من إعادة سرده. لكني اعتقد أن ما تقدمه الصورة، وطريقة الرواية أو السرد أو التعبير، تخاطب مكانا ما في المخيلة الشخصية للمتلقي، لتذهب بحكايته وصوره الشخصية إلى مكان آخر. الفيلم فيه فكرتان: الأولى، أنّ الفيلم أو القصيدة أو الموسيقى تؤسس لطريقة في التفكير، وفي العلاقة مع الذات. الثانية، هي الطموح أو الوهم الشخصي أن هذه الطريقة من السينما تستطيع أن تؤسس لعلاقة جديدة مع المتلقي، فيها شيء من الحرية، وربما من الديموقراطية. فهي لا تملي عليه ما يريد أن يقوله صانع الفيلم، بحيث يتحول المتلقي إلى مشارك رئيسي حين يشاهد الفيلم. إن العرض السينمائي هو في ذاته مشكلة في سوريا، وصالات العرض قليلة، وحضور الأفلام ليس عادة يومية (أو عادة شهرية) في سوريا. إنها طفرات تعتمد على الفيلم، وعلى اسم صاحب الفيلم، ومعظم العروض التي جرت كان الحضور فيها لطلاب الفن، وطلاب الثقافة. أعمالنا لا تصل إلى ما يطلق عليه "الجمهور"، أو "الشعب". وهذا الملف يمكن الحديث عنه مطولا، وهو بالنسبة اليَّ ليس معزولا عن ملف الفساد، الذي أعتبره الباني الرئيسي للمجتمع السوري حاليا. حتى أفلام الزميل عبد اللطيف عبد الحميد، مخرج سوري معروف من مواليد الجولان على ما أظن، التي حظيت بجماهيرية نادرة واستردت تكلفتها الإنتاجية من صالات العرض، لم تعد اليوم كذلك، وهي في أحسن الحالات تسترد نسبة مئوية ضئيلة من تكلفتها الإنتاجية. وهذا مؤشر مهم جدا.

عمر اميرالاي: تعقيباً على سؤال الأخ حول موقع أفلامنا في سياق السينما السورية العام، أريد التنويه هنا بتظاهرة حضرناها أخيراً، وأقصد بها تظاهرة نيويورك عن السينما السورية، التي حُشد لها حوالى أربعين فيلماً تمثل حصاد السينما السورية المعاصرة على مدى أربعين عاماً، وقد فاجأتنا فعلاً التعليقات والانطباعات لدى الجمهور الذي عبّر عن دهشته مما رأى، لأنه كان يتوقع أعمالا موالية للسلطة، ومن النوع الذي يأتيهم عادة من الصين الشعبية أو كوريا الشمالية أو كوبا، التي فيها تأييد للنظام ولأيديولوجيته، وتطبيق لشعاراته ومفاهيمه. جمهور نيويورك فوجئ ونحن معه أنّ حصاد السينما السورية في مجمله هو حصاد سينما مقاومة بدرجات متفاوتة. فيها المقاوم والحادّ الذي يقول الأشياء بمفرداتها الصريحة، وفيها البسيط والعادي ولكن الذي لا يخدم مصلحة النظام. ثمة حالة خاصة ووحيدة في تاريخ السينما السورية، وهو فيلم عن حرب تشرين، الذي استنفرت وزارة الثقافة إمكاناتها كلها من أجله على مدى سنوات، وشكلت لجنة خاصة من الاستشاريين ومن الحزب لعمل هذا الفيلم على طريقة الأفلام السوفياتية. ولم تفكر هذه اللجنة بمخرج سوري لسبب بسيط في اعتقادي، هو أنهم لم يجدوا المخرج السوري المناسب الذي يمكن أن ينفذ طلبات الحزب والسلطة. لقد فتحت مكاتب، وصُرفت أموال، واقتنيت معدات، واستحضر خبراء عسكريون وسينمائيون سوفيات، وفي النهاية سقط هذا المشروع. أسوق هذا المثال لأقول إنّ السينما السورية بفضل تراكم تجربة سينمائييها، وعزيمتهم، نجحت في ألا تنحرف عن هدفها الأساسي، وهي أن تكون انعكاسا وفيا وصادقا للواقع السوري، وهذه نقطة شرف لصالحها.

في ما يتعلق بأفلامنا، لا استطيع الحديث عنها إلا ضمن هذا السياق. وقد تكون أكثر نتوءاً من غيرها لسبب بسيط أن بعضنا، وهو قليل، قد ناضل دائماً كي يبقي هذا العصب المشدود والحاد النبرة حاضراً داخل السينما السورية، كي لا تفتر ولا تتحيّد. وأتمنى أن يأتي اليوم الذي يُتاح لكم فيه الاطلاع على السينما السورية بأكملها كي توافقوني على هذا الاستنتاج.

العنف المنتج ذاته

·     بشار طربيه: رأيت أن القاسم المشترك بين هذه الأفلام هو مسألة العنف السياسي والأبوي والاجتماعي الذي شاهدناه بالتحديد في حالة "صندوق الدنيا". وهو عنف تاريخي يمتد من العثمانيين ويعاد إنتاجه في مرحلة الاستعمار وفي مرحلة الاستقلال الوطني ما بعد الاستعمار. وفي حالة "صندوق الدنيا" وقد تكون قراءتي مغلوطة، أرى سوداوية من حيث أن هذا العنف يعيد إنتاج نفسه بسبب هذا العمق التاريخي للتفاعل العضوي بين العنف العائلي والأبوي والتمييز ضد المرأة والعنف السياسي. نسبيا، يمكن القول إن حركة التحرر ضد الاستعمار وبسبب تبنيها للعنف في ممارستها، خرجت عنيفة هي بذاتها. وهكذا يبدو أن هذا العنف تأصل في تفكير حزب البعث والحركة القومية العربية عموماً وممارساتها. وهنا يعود سؤال المواطنة والديموقراطية. وتعريف سوريا على أنها الجمهورية العربية السورية، مبني على استثناءات مجموعات كبيرة من المجتمع السوري. ففي أعمال الأستاذ عمر أميرالاي نرى بالفعل انعكاسا لواقع سوريا، ولكن بدون تعليق. سؤالي لكم: كيف ترون المخرج من هذه الدائرة من العنف الذي يعاود إنتاج ذاته؟

أسامة محمد: دعني أولا أستفيد من هذه العواطف التي نعيشها في هذه اللحظات، لأشكرك على قراءتك، وأشاركك في ما قلت حول "صندوق الدنيا". أريد التوقف عند النقطة السوداوية. هذه النقطة محط جدل نظري وغير نظري بالعلاقة مع الفن أو علاقة الفن بالمجتمع، سواء أكان هذا الفن سينما أم شعراً أم موسيقى أم فناً تشكيلياً. أرى أن النقطة المفصلية هي المعرفة. هل نحن نقدم معرفة من خلال هذا الأسود؟ هنا يكمن السؤال وهنا منشأ المغامرة ومنشأ التجربة. والمغامرة هنا في صناعة فيلم سوداوي، فيلم لا يحوي العناصر المتفق عليها للتشويق أو المتعة أو سهولة القبول. في فيلمي الأول "نجوم النهار" نرى كيف ترشح السلطة من الأعلى إلى الأسفل بهذا الجدري المقيت الذي يسمُ الناس الهامشيين على تعدد درجات هامشيتهم وضعفهم وثانويتهم الإنسانية، وعوزهم ولا حول ولا قوة لهم، وكيف تغويهم السلطة، فتنمو عندهم حاسة العنف، وحاسة التفرد بالسلطة، فيفقدون علاقتهم الإنسانية بأنفسهم ويتحولون إلى شخصيات هزلية ومضحكة. الهدف دائما بالنسبة اليَّ في السينما هو الإنسان والشخصية الإنسانية، من هنا نبدأ بالاتفاق على معنى "الوطن". في "صندوق الدنيا" شعرت بضرورة البحث عن مسؤوليتنا كمواطنين وكمجتمع عن إنتاج العنف، إنتاج السلطة، وإنتاج الديكتاتورية، والاتكاء على العنف بتقاليده الشعبية وثقافته الدينية والاجتماعية، ثقافة البطولة، ثقافة البحث عن البطل الفرد، ثقافة البحث عن الراحة بالانصياع.

قد لا يصحّ الحديث عن السينما بهذه المباشرة، لكني أردت إقفال النقطة التي بدأت منها. فاليوم، كي نحصن أنفسنا وإنسانيتنا يجب أن يبدأ كل من نفسه، يجب أن نطالب المستبد فينا، أيا تكن لغته أو شكله بالكفّ عن الاستبداد. البداية هي في الإمساك بهذا المفصل، بدءاً بالمعرفة والقوة الذاتية التي تتجلى بأنسنة الإنسانية وعدم القبول بخيانتها، وربما لهذا السبب لم أخرج من السوداوية. في المقابل، مشاهد الحبّ ليست سوداوية، وليست جزءاً إلزامياً من سياق التحليل السياسي، لكنها لا تقل أهمية أو قوة عنه، وتبقى متضمنة فيه، وهي ربما القوة المستقبلية.

·         أكرم الحلبي: سؤالي استاذ عمر هو عن فيلمك "طبق السردين". ما منشأ الفكرة؟

عمر اميرالاي: شكراً على سؤالك. سأبدأ بالكتابين اللذين هما من إهداء غاليري أتاسي التي نشرتهما، "تاريخ الفن التشكيلي السوري المعاصر" و"فاتح المدرس"، والشكر يجب أن يوجّه الى السيدة منى الأتاسي التي أعربت عن أمنيتها في أن تقيم معرضاً لأعمال فاتح المدرس بمجدل شمس في يوم من الأيام، وخصوصاً أن المدرس لقي تكريما عندكم لم يلق مثله في سوريا، إذ لم يخطر على بال أحد في سوريا مثلاً أن يسمّي جمعية أو رابطة بإسم فاتح المدرس، وهو بالتأكيد أحد أهم أعلام الفن التشكيلي في سوريا، إن لم يكن أهمهم على الإطلاق.

أما فيلم "طبق السردين" فله حكاية بسيطة، وهي أني التقيت عام 1978 بالمخرج الإسرائيلي عاموس غيطاي في مهرجان المتوسط، وكان يعرض يومذاك فيلمه "البيت" الذي يتحدث عن دار هجرها أصحابها الفلسطينيون عام 1948، وهو فيلم مهم جداً. ومن خلال الحديث معه تبيّن لنا أنّ كلانا خدم عسكريته على جبهة الجولان عام 1973، والمصادفة الأغرب أننا كنا نقوم بالمهمة نفسها تقريبا، كلّ من جهته. أنا كنت مكلفا خلال الحرب على رأس دورية لاعتقال الطيارين الإسرائيليين الذين كانت صواريخ سام السورية تسقط طائراتهم في منطقة الجولان السورية، وهو كان مساعد ممرض ضمن مجموعة تدخل لإنقاذ الطيارين الإسرائيليين الذين كانوا يسقطون في الجولان المحتل. كنا نؤدي المهمة نفسها تقريباً في الوقت نفسه والظرف والمكان. بعد عشرين سنة من حدوث هذا اللقاء، قدّم عاموس لقناة "آرتي" الثقافية الأوروبية مشروع سهرة عن الصراع السوري الإسرائيلي، واقترح اسمي للمشاركة في هذه السهرة التي كان من المفترض أن يروي فيها كلّ منا علاقة جيله بهذا الصراع. السهرة كانت مكونة من شقين: الأول فيلم تسجيلي قصير يحكي قصة سماع كل منا ببلد الآخر (العدو) لأول مرّة، فكان فيلم "طبق السردين" الذي رويت فيه كيف سمعت أنا للمرّة الأولى بإسرائيل، والثاني فيلم تسجيلي طويل يحكي قصة الصراع السوري الإسرائيلي من خلال تجربة كل منا الشخصية، وتجارب مجايلينا مع هذا الصراع. فصورت في البداية شهادتين لصديقين عاشا هزيمة 1967، وعندما وصلت إلى شهادة الصديق سعد الله ونوس، وجدت صراحة أن شهادته قوية الى درجة جعلتني أتنازل عن شهادتي وأستبعد شهادات الآخرين، فكان فيلم "وهنالك أشياء كثيرة كان يمكن المرء أن يتحدث عنها". من هنا أتت فكرة "طبق السردين" والحكاية فيها حقيقية.

أسامة محمد: هل سمعتم ما قاله فاتح المدرس ذات مرة عن الجولان؟ قال بما معناه إنه لو أدرك السوريون، أو لو وعوا بمداركهم العميقة، مدى جمال الجولان، لما استطاع أحد على الإطلاق أن يحتله. يمكن أن نضيف إلى هذا أشياء كثيرة نرغب بقولها. فالسينما ليست دائما خطاباً سياسياً، وفي أماكن معينة لها علاقة بالوعي - الذكاء الأعمق - لتشكيل لغة وخطاب جديد نتحاور من خلاله. نختلف ونتفق. لأن علاقة المتلقي بالمفكر، أو الصانع بالمتلقي، تكون معيبة إذا كانت تشبه علاقة السلطات بالجمهور، حيث المتلقي له دور المصفق كما في السياسة. الحوار في رأيي لا يتطلب أبدا الموافقة على خطاب من يحاورك، بل يتطلب الإصغاء والاحترام المتبادل.

·     رياض محمود: لاحظت من خلال فيلم "طوفان في بلد البعث" أن القمع الذي يمارسه النظام يتجلّى في ضرب التربية والتعليم. ما هو دور التعليم في إنتاج النظام السياسي والتلقين الإيديولوجي في الجامعات السورية؟

عمر اميرالاي: المنهاج التعليمي الذي ينتج نمطية كهذه في معظم المدارس السورية، قد تم التقاطه في الوقت المناسب، لأنه قبل أسبوع تماماً صدر قرار بإلغاء معسكرات التدريب الجامعي الإلزامية لطلبة الجامعة الذين كانوا بموجبها يحصلون على علامات اضافية. أعتقد أن الحالة السورية ليست هي الحالة الاستثنائية الوحيدة التي لا تليق بالتربية ولا بالتعليم. لأنها باختصار منتوج رث لمنهاج تعليمي سيئ ورديء جداً كان مطبقاً في دول المعسكر الاشتراكي، وقد ظنّ البعثيون أنهم بشطارتهم سيصنعون كوكتيلا يضاهي في رداءته مناهج التعليم السوفياتية والرومانية والكورية الشمالية والكوبية مجتمعة، فخرجوا علينا بهذه "السَلََطة" التي لا يمكن تسميتها تربية أو تعليما، وإنما تفريغا وغسل دماغ منهجيا للفرد. الجريمة الكبرى هي عندما يستهدف هذا النظام غسل دماغ الأطفال الصغار والأبرياء. حتى اليوم لا يزال الأطفال يهتفون للقائد والحزب خلال الفرص بين الدروس. لن أدخل هنا في التفاصيل، لأني أعتقد أنّ منهاجاً بربرياً من هذا النوع يلغي الحاجة لأيّ تفصيل.

أسامة محمد: قسم من السؤال كان عن التعليم الجامعي. ومع أني لم أدرس في الجامعات السورية، بل في موسكو، إلا أن الجامعات السورية جزء من ملف الفساد. الفساد كلمة لا يمكن الإحاطة بها. هنالك جيل من المدرسين الذين أصبحوا مدرسين على المستوى الجامعي عبر قناة الولاء السياسي، والتقرير الأمني، والموافقة الأمنية. قسم كبير منهم لم تأت بهم كفاءاتهم إلى هذا المكان، فألفوا ما يشبه الألف ليلة وليلة من قصص النجاح بالرشوة المالية أو التحرش الجنسي، أو غيره. هؤلاء المدرسون الذين لا يمتلكون أدوات المهنة التدريسية يهينون تلك المهنة المقدسة.

·     وائل طربيه: شاهدت فيلم "الرجل ذو النعل الذهبي" للاستاذ عمر على شاشة "تلفزيون المستقبل"، وأودّ طرح سؤال تفصيلي نوعاً ما. خلال الفيلم كنت تعود لجلسات حوار مع أصدقائك: الشهيد سمير قصير وإلياس خوري وفواز طرابلسي وتدخل معهم في نقاش ونقد وتحريض على أسئلة في عينها. هل أدخلت في الفيلم نوعا من الارتجال مستقى من الحوار مع أصدقائك، بدون خطة مسبقة أو تصور دقيق لنهاية العمل؟

عمر اميرالاي: يوجد جانب من الصدق في عملية صنع هذا الفيلم، كما يوجد جانب من الخداع المشروع لخدمة قضية الإبداع. فعندما قررت عمل فيلم عن رفيق الحريري حاولت تجميع ما هو متوافر من وثائق ومصادر عنه كالكتب والمنشورات، فكانت المحصلة هزيلة جداً وواهية، ككتاب نجاح واكيم الذي هو تجميع رخيص لتقارير مخابرات وإشاعات وأقاويل وقّعها بإسمه. ووجدت بعد الانتهاء من عملية البحث هذه أن أغلب هذه المصادر كانت سخيفة، ولم تضف جديداً إلى مقاربتي للموضوع. الحريري منذ اللحظة الأولى التي ظهر فيها اعتبر منتوجا مشبوهاً لتفاهم عربي إقليمي دولي لوقف الحرب الأهلية، وقد أسقط بالفعل على الواقع السياسي اللبناني بالمظلة، فاستفزّ هذا الجميع، من اليمين اللبناني إلى يساره إلى البورجوازية السنية التقليدية إلى الشيعة... أي في جو من العداء العام له. لقد استقبل بهذه الطريقة لأنه شخص غاب سنوات عن بلده وظهر فجأة على مسرح الاقتتال السياسي في لبنان ليلعب دور المخلص. هذا لا يعني أن ليس هنالك جوانب مهمة يُنتقد عليها الحريري، كمشروعه لإعادة إحياء لبنان، وبناء بيروت، ورهانه على موضوع السلام مع إسرائيل بعد مؤتمر مدريد، لإعادة إعمار لبنان،... الخ. لكن التاريخ والأحداث مع الأسف أجهضت توقعاته. من هذه الخلفية المعرفية رحت أتعاطى مع موضوع الحريري، فلجأت إلى أصدقاء مقربين لي كالياس خوري، وسمير قصير، وفواز طرابلسي وغيرهم، في اعتبارهم مثقفين لبنانيين عارفين للشأن اللبناني ولهم مواقف وآراء أحترمها جداً. وبالفعل حاورتهم وسألتهم عن كيفية التصدي لموضوع شائك ومعقد مثل موضوع الحريري، فزودوني يومذاك اقتراحات ونصائح ثمينة. لكن الحريري وفي أول اتصال مباشر لي معه أبدى تحفظاً شديداً عن قبول المشاركة في الفيلم لأن سمعتي السيئة كانت سبقتني إليه بسبب أفلامي الأخرى. وفي المقابل كانت والدتي اللبنانية الأصل والموالية للحريري تطاردني هي الأخرى بدعواتها ومناشداتها بألا أؤذي الرجل. بصراحة بعد مضي فترة على التصوير شعرت بانجذاب نحوه، خلق عندي تياراً ايجابياً جداً، ونسيت أني أصنع فيلماً عنه. فهو في مثل عمري تماما، لأننا ولدنا في العام نفسه، ومن منشأ اجتماعي مشابه لمنشئي. شعرت أني أعرف هذا الرجل منذ زمن بعيد، لاسيما أن علاقته مع سوريا كانت مجردة من أي مواقف مسبقة. كأننا من بلد واحد. لذلك وقعت بما لا أريد أن أسمّيه إغواءً، لأن الشيطان وحده هو الذي يغوي. ولكن لمَ لا إذا كانت الغاية هي الوصول إلى الحقيقة. عادة يُتوقع من المثقف اليساري الا يقرّ بهزيمته، وأن ينتصر دوماً على خصومه، وهذا السلاح كان في يدي، لأني أنا الذي يقرّر في النهاية مصير المواد التي صورتها، وكان في مقدوري طبعاً استبعاد أي مادة لم تكن في مصلحتي خلال السجالات والحوارات التي كانت تدور بيني وبين الحريري، وبالتالي الخروج منتصراً من الفيلم، وهذا ما يمارسه عادة السينمائيون الذين لا يتمتعون بالحدّ الأدنى من الفروسية والصدق مع الذات. أنا قررت أن هذا المثقف اليساري العنتر يمكن أن يخسر جولة، ويمكن أن يضعف أحيانا أمام ما تخبئه له الحقيقة من مفاجآت. كنت في الواقع أمام خيار صعب: إما أن أنتصر لنفسي كمثقف يساري وإما أن أخسر نفسي كسينمائي، أي إما أن أصنع فيلما فيه الحدّ الأدنى من الصدق والإخلاص للحقيقة، وإما أن أنتصر للمثقف فأنقذ كبرياءه ولا أسمح لرجل السلطة أن يغلبه. بصراحةً أنا ضحيت بعنترية المثقف اليساري لأؤدي الدور الذي يضمن ديمومة العمل، وهو دور المبدع.

·     وهيب أيوب: الأخ عمر أميرالاي، في أحد أفلامك تتحدث عن التشققات والتصدعات في السدود في سوريا. وسؤالي لكما: هل هنالك أمل في الأفق القريب بانهيار تلك السدود؟

أسامة محمد: سأجيب من مكان آخر. لا أعتقد أن الأمل هو في انهيار السدود، بل ببناء السدود. في السينما نحاول ذلك بالحوار، وهو المساهمة في بناء ثقافة القبول بالآخر. هذا المشروع مشروع سد عال وصعب جدا، وحجارته بحاجة لحزم وتواضع وجهد كبير. هكذا يمكننا أن نبني مشروعا مغايرا وبديلا ومناقضا للمشروع السياسي القائم، مشروع استبداد السلطة القائمة، بدل الجلوس متأملين منتظرين انهيار السدود الموجودة. وإذا انهارت قبل أن يكون لدينا أساس لسدود ثقافتنا ستظهر لنا بدائل مشابهة لسابقاتها. وأعتقد أن ما قاله عمر عن لحظة الخيار الأخيرة في فيلم "الرجل ذو النعل الذهبي" هي لحظة القبول بالآخر. ليس المهم الانتصار عليه، المهم القبول بوجوده. سأعطي الكلمة لعمر لأسمع فتواه في السدود لأنه مهندس سدود.

عمر اميرالاي: السؤال طبعاً فيه مجاز وفيه ذكاء لا شك، وهو من وحي المجاز الموجود في الفيلم كما أظن. ما حاولت تلخيصه في الفيلم عبر الترميز، أو بشكل أدق عبر المجاز أو الاستعارة، أن الموضوع ليس انهيار السدود، وإنما كيف يهيئ نظام استبدادي السرير لبديل استبدادي آخر. وهذا ما أردت قوله في فيلم الطوفان. السؤال هو هل أننا محكومون بأن تتوالى علينا إلى الأبد أنظمة الاستبداد، جيلاً بعد جيل، كي لا ننعم يوماً بلحظة حرية حقيقية خارج هذا الاستبداد الذي هو من صنع هذه المنطقة كما نعلم، ويبدو أنه يستهويها لآخر عمرها؟ الحلّ في رأيي ليس بسقوط السدّ الحالي، لأنّ خلف هذا السدّ تراكما هائلا من الكبت والحرمان والغضب ورفضا للفساد ولانعدام الأخلاق والكذب والشعارات، الخ. فهذه المياه التي يزداد ضغطها على هذا السدّ لا أحد يستطيع، سواء أنا أو أنت أو أي شخص آخر، أن يتصوّر إلى أي منقلب أو جحيم أو جنون سيأخذنا إليه انفجارها في حال وقوعه. هذا هو السؤال المرعب والمخيف الذي ألمحت إليه في الفيلم، والذي أحاول أن أغتاله كل يوم في مخيلتي لأنه مرعب بالفعل.

أسامة محمد: في أدبيات السنوات الأخيرة للخطاب السوري المعارض نلاحظ كلمة "السلم". إحدى مواصفات الخطاب المعارض السوري اليوم هي تأكيد السلم في إطار الثقافة الجديدة التي إذا تمكنّا من بنائها فلن تنهار السدود على رؤوسنا.

·     منير فخر الدين: أعتقد أنه لا داع لأي نهاية رسمية لهذا اللقاء، لأننا كما أشعر أصبحنا أصدقاء. أتمنى لكم التوفيق وأتمنى أن نلتقي قريبا في مركز فاتح المدرس في مجدل شمس وفي كل الجولان، ونستضيفكم في بيوتنا ونتواصل بعيدا عن الحدود الصادمة وغير الطبيعية، فأشكركم .

النهار اللبنانية في 9 يوليو 2006

«نعم ... حللت ضيفاً على الضيف»...

الفلسطيني اياد الداود يصور فيلمه معصوب العينين

دمشق - فجر يعقوب

«وأنا معصوب العينين كنت مخرجاً يبحث عن جوهر إنساني غير مزيف في انتظار لحظة ربما لن تتكرر أبداً، وربما تحمل أخطاراً من الجيش الإسرائيلي لا تحمد عقباها، وبين قناعتي ان من يريد الإنجازات غير العادية عليه أن يخوض الصعاب».

يقترب المخرج الفلسطيني اياد الداود بحديثه هذا من «إثارة وتشويق» لم نعهدهما من قبل في أفلامه («دير ياسين... الوجع»، «مآذن في وجه الدمار»، «جنين»، «فن الحياة»). ها هنا ظهور من نوع مختلف يقول عنه في حوار مع «الحياة»: «بالنسبة لظهوري في الفيلم لم يكن هذا خياراً استراتيجياً، لكن فكرة الفيلم، وربما إحدى قيمه الرئيسة تنبع من اسمه «في ضيافة البندقية»، فنحن ضيوف على بندقية هذه التنظيمات، وكاميراتنا حلت في مقام الرصد والمراقبة في شكل رئيس».

وعن سؤال عما اذا كان ظهوره في الفيلم يعكس نوعاً من التعاطف مع مقاتلي حركة حماس يقول الداود: «أعتقد بأن الصورة أكدت أنهم ليسوا في حاجة لأي نوع من التغزل أو التعاطف، ولكن ربما أضفى ظهوري صدقية عالية في أجواء وظروف أمنية أقل ما يقال فيها أنها معقدة، ولكن مجرد تصويرها إنجاز، فكيف اذا كان يتم بهذه الطريقة التي «أزعم» أنها تتراوح بين السينما والتلفزيون كما هي حال أفلامي دائماً، وتحاول أن تقدم رواية مشهدية من الميدان، وتضيف أحياناً عليها روح الأفلام الإخبارية كما حدث مع «في ضيافة البندقية» من خلال حديثي المباشر للكاميرا واقفاً وماشياً وقارئاً للنص، لأن هذا باعتقادي يتوافق مع القليل من معايير الأخبار إذ لا يجب أن ننسى أن هذا الفيلم هو من إنتاج قناة «الجزيرة» الإخبارية.

إذاً... يذهب اياد الداود الى معاقل حركة حماس في قطاع غزة، وهناك ينفتح المشهد على مقاتلين مقنعين بالكامل يشكلون العصب «الأسطوري» لكتائب عز الدين القسام، وهم من يقوم بتعصيب عينيه (المخرج) الذي يقول انه حاول أن يكون جزءاً طبيعياً وليس لصيقاً بالفيلم وموضوعه، وبالتأكيد من دون منافسة الشخصيات على دور البطولة الذي يستحقونه من دون منازع.

وعن هذه اللحظة التي تم فيها تعصيب عينيه من جانب مقاتلي حماس يقول الداود في حوارنا معه: «ربما لم أفكر كثيراً في تلك اللحظة كما سأفكر الآن، او كما بدأت أفكر حين سمعت رد فعل المشاهدين، فما كان يقود تفكيري في تلك اللحظة هو هاجس الكشف والتعرف عن قرب على أناس يملأون نشرات الأخبار موتاً وتفجيرات، وكان الاقتراب من مثل هذه النماذج البشرية بمثابة تجربة لا يمكن أن أنساها، فقد اختبرت فيها شيئاً من جرأتي ومداً غزيراً من إنسانيتهم التي يحاربون بها قبل أي شيء آخر».

لا شك في ان اياد الداود وبخياره هذا يعطي لفيلمه الجديد «في ضيافة البندقية»، والذي بثته محطة الجزيرة أخيراً قيمة تبتعد عن حيثيات الفيلم التسجيلي الذي اشتغل عليه من قبل عن قصدية واعية بغية التقدم واكتشاف العالم التحتاني لحركة حماس، فباستثناء وجه أحمد الجعبري – أحد القيادات العسكرية البارزة في كتائب عز الدين القسام - ليس ثمة وجه آخر قد تحددت ملامحه في الفيلم الا وجه الداود الذي أثقلت عليه العصابة السوداء وهو يتنقل بين معسكرات الحركة وأنفاقها ومصانع صواريخ القسام وقواذف الياسين، وصولاً الى محمد الضيف المطلوب رقم واحد لإسرائيل الذي ظهر أمام الكاميرا مقنعاً ليكشف عن دراية مذهلة بالاحتياطات الأمنية ولما يدور حوله(...).

عن مغزى ظهور الضيف أمام الكاميرا الآن، وعما إذا كان ظهوره يحمل رسائل في اتجاهات عدة يقول الداود: «ليس سراً أن أي مخرج يتمنى أن يظفر بسبق إعلامي، إلا أنني وكما قلت في الفيلم وحتى آخر لحظة لم أتوقع أنه سيتاح لي يوماً أن ألتقي مثل هذا الرجل الذي أعترف أنه فاجأني بمستوى احتياطاته الأمنية وثقافته. وظهوره يحمل رسائل عدة بالطبع، فهو نوع من استعراض القوة والتحدي الهائل لكل الوسائل التكنولوجية والبشرية الاسرائيلية التي تلاحقه في كل مكان ولا تظفر منه ببحة صوت أو بخيال صورة. محمد الضيف بهذا المعنى هو أمل يوزعه على أبناء شعبه بعد الانسحاب الاسرائيلي من غزة في رسائل واضحة للضفة، وهو تأكيد على أنه ورفاقه بشر وليسوا أشباحاً».

اياد الداود الذي يشغل الآن موقع رئيس قسم الانتاج والعمليات الفنية (انتاج - مونتاج - غرافيك وترويج) في قناة «الجزيرة»، يؤكد أنه في غاية الحرص ليقدم نفسه في كل مرة في شكل فني جديد فاتحاً الباب على مصراعيه للتجريب الدائم في بناء السيناريو والصورة والمونتاج على وجه الخصوص. ويضيف: «في ضيافة البندقية» هو من «أقل أفلامي التي استخدمت فيها مدرسة الدوكيودراما وتقنية إعادة تجسيد الأحداث، وذلك باختصار لأنني كنت موجوداً في الميدان وقد أشبعت أشرطتي من كل ما أردته من لقطات ومشاهد. وأما روحياً، ولأن الفيلم كان في دأب دائم للغوص في بحرين اثنين هما: أولاً التأسيس والتنظيم والهيكلية والعمليات والتصنيع والدعم والتمويل، وثانياً الانسان بكل ما لديه من مشاعر وإرادة. ولهذا بدا المحور الثاني وكأنه يشد الفيلم الى نمط روائي يسعى وراء التفاصيل الإنسانية.

الحياة اللبنانية في 10 يوليو 2006

 

"قوس قزح"

عندما تثير الكاميرا الشعور بالخجل

بشار إبراهيم 

على الرغم من الوشاية الأوَّلية التي ينبئ بها فيلم "قوس قزح"، والتي تُوحي بأنه يريد الانتماء إلى نسق أفلام "البورتريه الشخصي"، وذلك من خلال الانطلاق من صورة مخرج الفيلم عبد السلام شحادة، ذاته، وهو منغمس بالكتابة، في مشهد متقن التنفيذ، على الرغم من أن صوت المخرج يتدفق من خارج الكادر، ليشكو إلينا تزاحم الصور في مخيلته، ويبدو وكأنه يريد أن يقصّ لنا حكايته مع الصور، وإلى أين تقوده.

أقول، على الرغم من ذلك، نجد أن فيلم "قوس قزح" سرعان ما يشقّ دروباً غير منتظرة، ويقصُّ حكايات غير متوقعة، حتى ليبدو في وهلة أولى أن ليس ثمة من جامع لها سوى الشريط الفيلمي الذي استقر عليه المخرج، بمشيئته هو، وبالصيغة التي سنراها.

والمخرج عبد السلام شحادة، المولود في رفح عام 1961، هو أحد محترفي التصوير السينمائي والتلفزيوني في فلسطين، خصوصاً في قطاع غزة، إذ عمل في التصوير ومراسلة المحطات التلفزيونية العالمية، فكان المصور الرسمي لوكالة NHK الفضائية اليابانية، ومصوراً لصالح محطة BBC البريطانية، كما عمل لصالح وكالة رويترز، والتلفزيون السويسري، وأبو ظبي، و"آر تي إل"، و"أي تي إن"، و"إس آر دي".. قبل أن يصبح مدير الإنتاج في وكالة الأنباء الفلسطينية، عام 1999، وقبل أن يصبح مديراً عاماً لقسم الانتاج في وكالة أنباء "رامتان".

وفي الوقت الذي عمل مصوراً مع العديد من المخرجين السينمائيين الفلسطينيين، وفي العديد من الأفلام، فإن خياره نحو الإخراج السينمائي كان واضحاً منذ أن عمل في فيلم "يوميات فلسطينية" (1991)، بالاشتراك مع سهير إسماعيل ونزيه دروزة، والذي كان نتاج ورشة عمل، استمرت ستة أشهر، نظمتها "مؤسسة القدس للإنتاج التلفزيوني"، وتم خلالها التدرُّب على كيفية استخدام الكاميرا، وطرق التعامل معها، ثم تمّ تطوير السيناريو الذي استفاد من كون ثلاثتهم يمثلون القطاعات الرئيسية للمجتمع الفلسطيني، في مدينة وقرية ومخيم فلسطيني.

عبد السلام شحادة، ابن مخيم الشابورة، في رفح، والمقيم في غزة، عرف كيفية استخدام الكاميرا منذ البدء لرصد واقعه، ونقله إلى العالم عبر شاشات المحطات التلفزيونية، وقنوات الفضائيات، ومن ثم عبر السينما، وبالتالي كانت كاميرته مرصودة للعمل على تسجيل الحالة الفلسطينية وتوثيقها، فتميزت أفلامه بالتعاطي مع الواقع، والابتعاد عما هو روائي أو تخييلي.

من هنا جاءت أفلامه: "البيئة" 1994، "حقوق المرأة هي حقوق الإنسان" 1995، "الأيدي الصغيرة" 1996، "بالقرب الموت" 1997، "الماء.. التحدي الحقيقي" 1998، "الظل" 2000، "حجر بحجر" 2000، "العكاز" 2000، "ردم" 2001، "نحن نسمعكم، من فضلكم اسمعونا.. شكراً لكم"، ومن ثم "قوس قزح" 2005، لتتناول موضوعات مختلفة من الحال الفلسطيني، في علاقتها مع الذات الفلسطينية، أو المصير الفلسطيني، أو في انخراطها في الصراع مع جيش الاحتلال، أو مع المستوطنين.

في لحظة مبكرة من عمر السينما الجديدة، انتبه عبد السلام شحادة إلى أهمية موضوعات كالبيئة، والصراع على المياه، في منطقة تشكو من شحّ الماء. كما انتبه إلى حقوق المرأة، وإلى المعتقدات الخرافية الشائعة، وارتباطها بالوعي، أو غيابه، مثلما ناقش عمالة الأطفال، وخطر المستوطنات، والاعتداءات على المدنيين.

ومن المفارقة أنه إذا كان الإسرائيليون يصنعون "قوس قزح" بدباباتهم، وطائراتهم، ويجعلونه موتاً يحيق بالفلسطينيين، خصوصاً تلك العملية المدمرة التي جرت في أيار 2004، وحملت الاسم نفسه: "قوس قزح"، وانجلت عن مقتل 50 فلسطينياً، وتدمير 400 منزل، وأعادت الفلسطينيين إلى حال شهدوها قبل 56 سنة، في أيار من عام 1948 وبقوا منذ حصولها يسمونها "النكبة".. فإن مخرجاً فلسطينياً سوف يحاول رسم "قوس قزح" آخر، بكاميرته السينمائية، محاولاً القول: "إن الحياة ستستمر".

لا مجال للمقارنة بين هذين القوسين، وربما كانت الأقدار الدامية، بحضورها، أو بمفارقاتها، هي التي تجعلنا ذاهلين أمام الكاميرا، لنرى ونستمع إلى تلك القصص التي التقطها عبد السلام شحادة، وهو يحاول الانتقال من مدينة غزة، حيث يقيم، إلى مخيم رفح، حيث تقيم أمه، المفجوعة دائماً، بالغيابات المتتالية، والمقيمة على جمر انتظار.

يعترف عبد السلام شحادة أنه بات يشعر بالخجل وهو يراقب ما يجري من عين الكاميرا. إنه يظهر لنا جالساً فوق الركام، مع كاميرته، ويقول: "تعبت.. حاسس بالخجل، وأنا بتفرج ع الناس بكاميرتي".. والناس ما هم إلا أهله، وجيرانه، ومعارفه، وأولئك الذين ستكون الكاميرا طريقته الخاصة في التعرّف إليهم.

من الفنان إبراهيم المزين، صديقه منذ الطفولة، إلى رائد مطر الذي فقد أسرته كاملة بضربة واحدة، كانت تريد النيل من صلاح شحادة، فأحالت عمارة من عدة طوابق ركاماً، وكان رائد الناجي الوحيد من أسرته، ربما ليقصّ علينا تتمة الحكاية، أو ليحلم باحتفاله بعيد الميلاد الذي لم يتمّ، لأن صاروخاً زنته طناً كاملاً، حلَّ ضيفاً قاتلاً على الأسرة المجتمعة حول سعادة سرعان ما انطفأت..

وفي حين نرى اللُّعب والأشياء، والكنزة التي لم يسنح الوقت لـ"محمد"، ولده الصغير، أن يلبسها، ولو لمرة واحدة، فقط.. ينحت الفنان إبراهيم المزين تلك الوجوه الناهضة من بين الركام، ليشكّل منها عملاً فنياً يتضمَّنه معرض تشكيلي بعنوان "وجوه من رمل"..

الفلسطينيون الراغبون في أن يُعرَفوا بأنهم من محبي الحياة، لا من هواة الموت، يستخرجون من المآسي المتلاحقة عصارات إبداع، في الفن التشكيلي، كما في السينما، وقد سبق أن فعلوا ذلك شعراً.

ولكنه الموت الذي لا يشبع، فإذ يستذكر عبد السلام شحادة أحد أفلامه "يوميات فلسطينية"، يحضر المخرج المصوّر نزيه دروزة الذي استشهد برصاصة قاتله، وهو متأبط كاميرته.. كما تحضر الطفلة "روان"، وتدمير بيوت العصافير الصغيرة، على الأسطح الواطئة، واستشهاد الطفلين أحمد وأسمى.. في حكايات موت لا تنتهي..

يتحوَّل فيلم "قوس قزح" من رصد معاناة المخرج في التنقل بين غزة ورفح، إلى الحديث عن رفح، ولقاء المخرج بأمه، وحديثه معها عن علاقته بوالده المتوفى.. ومن ثم الحديث عن جارته "عندليب" التي تفتحت عيناه على الدنيا، وعليها، ومن ثم أصبحت زوجته.. فيما يبلغ الفيلم واحداً من ذراه بحكاية صاحب مزرعة الورد، والثلاجة المخصَّصة للحفاظ على نضارة الزهور، ريثما يتم تصديرها إلى أوروبا.. فكان أن تحوَّلت الثلاجة إلى برَّاد يضم العشرات من الجثث البشرية المدماة، والتي تنتظر الدفن، ريثما يصمت القصف، وتهدأ المجنزات..

"لم أكن أتخيل أنني سأمضي الوقت في تصوير الموت والدمار.. كنت أرغب في تصوير حياة وحب وأمل".. يقول المخرج عبد السلام.. وهو الذي انتبه إلى أن فيلمه صار محشواً بالكثير من قصص الموت والدمار، وكفّ عن أن يكون مجرد "بورتريه شخصي" لمخرج أنه أراد أن يحكي حكاية حب وانتماء..

فيلم "قوس قزح" للمخرج عبد السلام شحادة، كانت له المشاركة في مسابقة رسمية، حملت عنوان Earth Vision في العاصمة اليابانية، طوكيو، وكان أن فاز بالجائزة الأولى، متجاوزاً في التصفيات الأولى قرابة 1200 فيلم، من شتى أنحاء العالم، ومتفوقاً على 17 فيلماً في المرحلة الأخيرة، لينال الذهبية، موقداً الأمل بأن "الحياة سوف تستمر"، رغم كل شيء..

المستقبل اللبنانية في 9 يوليو 2006

 

السينما المصرية امرأة سيئة السمعة

سعد القرش  

القاهرة (رويترز) - يتهم باحث مصري السينما في بلاده بأنها في كثير من الفترات كانت "امرأة سيئة السمعة" لا تهتم برفع الوعي العام لدى الجماهير ولهذا يجد تفسيرا للتناول الذي يعتبره سطحيا لقضية البغاء باعتباره محصلة لعوامل نفسية واجتماعية واقتصادية أكثر تعقيدا مما قدمته كثير من الافلام. وقال خالد بهجت المدرس بالمعهد العالي للسينما بالقاهرة في كتابه (البغاء على شاشة السينما المصرية 1975 - 1985) ان الافلام التي أنتجت خلال عشر سنوات ابتداء من منتصف السبعينيات "لم تهتم بمشكلة البغاء لاهتمام الواجب رغم معدلات الظاهرة المرتفعة." وأضاف أن بعض الافلام لعبت دور "البغي" ضمن ثلاثية كان فيها الجمهور هو "العميل" وبعض جهات الانتاج قامت بدور "القواد". وأشار الى أن دور البغي الذي قال ان بعض الافلام لعبته كان "وصمة انحدرت اليها السينما المصرية بدءا بتدخل الاجانب في الانتاج وانتهاء بتدخل جهلاء (شركات) المقاولات وتحكم التوزيع وغيبة الدور والرسالة" عن كثير من الافلام التي أطلق عليها سينما المقاولات وهي من انتاج من لا علاقة لهم بالسينما من المستفيدين بسياسة الانفتاح. وصدر في مصر قانون عام 1949 باغلاق بيوت الدعارة واعتبار البغاء جريمة.

وقال بهجت ان الحملة الفرنسية على مصر (1798 - 1801) ساعدت على انتشار البغاء وفرضت عليه ضرائب ألغيت عام 1837 ثم أعاد الاحتلال البريطاني للبلاد عام 1882 الظاهرة باصدار لائحة عام 1905 تنظم عمل بيوت الدعارة وتمنح من تمتهن البغاء ترخيصا وتلزمها بكشف دوري. وأشار الى أنه في الثلاثينيات ورغم التصريح بالبغاء فانه يصعب وجود فيلم مصري يتناول الظاهرة تناولا مباشرا لكن السينما نفسها منذ تلك الفترة "قامت بدور البغي الذي عادة ما يمثله رأس المال الذي يسعى الى الربح بأي وسيلة وعن أي طريق" في اشارة الى غياب الدور الاجتماعي.

وقال المؤلف ان عقد السبعينيات شهد ما اعتبره تشكيلات وأبعادا جديدة لظاهرة البغاء "لم تكن متفشية في تاريخ الظاهرة في مصر الا بعد ظهورها على استحياء بعد هزيمة 67 ثم استشرائها كنتيجة حتمية للمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية وللبنيات الجديدة التي تفاعلت مع واقع جديد." وعرفت مصر منتصف السبعينيات سياسية سميت بالانفتاح الاقتصادي واجهت انتقادات كثيرة لخصها الكاتب المصري أحمد بهاء الدين (1927 - 1996) بأنها "انفتاح السداح مداح" أي بلا ضابط. ويصدر الكتاب الذي يقع في 375 صفحة كبيرة القطع يوم الاحد في سلسلة (الرسائل) عن أكاديمية الفنون بالقاهرة. وكان الكتاب أطروحة علمية حصل بها الباحث عام 1992 على درجة الماجستير قبل أن يتجه الى اخراج المسلسلات التلفزيونية ومنها (رياح الشرق) و/درب ابن برقوق/ و/ملفات سرية/ و/أمس لا يموت/ و/الاقدار/ عن رواية (عبث الاقدار) للروائي الحائز على نوبل نجيب محفوظ كتبها قبل أكثر من 60 عاما مستلهما التاريخ الفرعوني.

وقال الدكتور مدكور ثابت رئيس أكاديمية الفنون في مقدمة الكتاب انه اثر ألا يبقى شيء من البحوث والدراسات "الاكاديمية في العتمة بل لابد من الخروج الى النور" وحتى لا تظل صفة الجمود مقترنة بكل ما هو أكاديمي. وأضاف أن نشر هذه الدراسات يمنح مساحة من التفاعل والتشابك مع ما تثيره من قضايا قبولا ورفضا من خلال جدال يؤكد التفاعل الحي بدلا مما اعتبره موتا سريريا لبعض الدراسات الاكاديمية مشيرا الى أن قانون التطور يفرض نفسه "فاذا ما تحولت الاكاديمية الى جبهة قتال ضد الجديد أصبحت معقلا للتجمد." واعتبر السينما ثورة في وظيفة الفن ورسالته الاجتماعية خاصة في المجتمعات التي تزيد فيها نسبة الامية كالمجتمع المصري مشيرا الى أن السينمائي في معالجته للبغاء وهو من أقدم المهن في التاريخ الانساني ينتهج أحد مسارين اما التعمق في فهم القضية استنادا الى رصيد علمي سابق أو استهداف النجاح التجاري باثارة حواس المشاهد من خلال أفلام "رخيصة لا تهتم بالعلم ولا تلقي بالا للدور السينمائي في المجتمع ومن ثم تصبح هي الاخرى أفعالا بغائية." وقال ان بعض الافلام المصرية في مطلع السبعينيات حاولت ربط البغاء والجنس والفساد بالحالة العامة للبلاد "بعد هزيمة 1967" كما جاء في (حمام الملاطيلي) لصلاح أبو سيف و/ثرثرة فوق النيل/ لحسين كمال "أكثر من قدم أفلاما بها شخصيات لبغايا أو شخصيات تتحول الى بغايا".

قدم في ست سنوات ستة أفلام" منها (أبي فوق الشجرة) و/نحن لا نزرع الشوك/ و/أنف وثلاث عيون/ و/دمي ودموعي وابتسامتي/ والجديد في الفيلم الاخير "هو نوعية القواد اذ صبح من رجال الاعمال حيث المستوى الاقتصادي والاجتماعي الرفيع والذي يدفع زوجته لطريق البغاء كما أن الدافع للبغاء نفسه لم يكن من أجل الحصول على المال لمواجهة قسوة الحياة وانما هو لمزيد من الثراء ومزيد من السلطة." وأضاف أن السينما المصرية شهدت موجة أفلام الانفتاح "بصخبها الاجوف الذي يستثمر معاناة الجماهير بأكثر ما يحلل أو يتناول الاسباب" خلال السنوات العشر موضع الدراسة حيث أنتج 542 فيلما بمعدل 54 فيلما في العام الواحد منها 29 فيلما ناقشت البغاء مثل (دائرة الانتقام) و/أمواج بلا شاطئ/ و/عندما يسقط الجسد/ و/السقا مات/ و/شفيقة ومتولي/ و/لا عزاء للسيدات/ و/المشبوه/ و/حب في الزنزانة/ و/خمسة باب/ (شوارع من نار).

وقال ان معظم هذه الافلام واكبت المناخ الاجتماعي الاقتصادي "السائد الذي حمل شعاره.. اكسب واجري.. فكان شباك التذاكر هو بغية صناع الفيلم في المقام الاول واثارة غرائز المتفرج هو الهدف الاسمى بالعديد من المشاهد الجنسية العارية والرقصة والقبلات الحارة والنكات الجنسية." وأشار الى حرص بعض الافلام على تصوير البغي نموذجا للنبل بل أشرف من الاخريات مع امتهان نموذج رمز العلم المتمثل في أستاذ الجامعة كما في فيلمي (درب الهوى) و/المذنبون/ الذي تعرض رقباء صرحوا بعرضه للعقاب بحجة ما أثاره انذاك مصريون يعملون في الخليج قائلين انه يشوه صورة مصر. واستبعد بهجت أن يكون عقاب هؤلاء الرقباء بسبب تصريحهم بعرض فيلم به بعض المشاهد الجنسية "فما أكثرها في العديد من الافلام الاخرى بل كان الاعتراض بالتأكيد على ما يعري البناء الفوقي لمجتمع حقبة الانفتاح."

موقع "إيلاف" اللبنانية في 9 يوليو 2006

 

سينماتك

 

أهالي الجولان يحاورون عمر اميرالاي وأسامة محمد

والسينما السورية تستردّ الهضبة المحتلة

حسن شمس – من الجولان السوري المحتل

 

 

 

 

سينماتك

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك