«ماروك» هو واحد من أحدث الافلام الروائية الطويلة التي انتجت في المغرب خلال الآونة الاخيرة. من ناحية مبدئية سعى هذا الفيلم الى التطرق إلى جانب خفي وغير مطروق من مجتمع عربي في أكثر أبعاده تعبيراً وإيحاء. هو المجتمع المخملي لطبقة شباب غني تتوزعه قوة الواقع المفروض بتقاليده وجاذبية الحرية والإنطلاق، والحب الذي لا يعترف بالعوائق. ويحدث هذا في أرقى أحياء الدار البيضاء كما قد يحدث في الإسكندرية أو في بيروت، أي المدن التي لها كورنيشات. و»الكرانيش» يلعب هنا دوراً اساسياً!

إلا أن المخرجة الشابة ذهبت بعيداً لسبب غير واضح وأدخلت في شريطها معطى جديداً هو العلاقة العاطفية بين فتاة مسلمة وشاب يهودي. ونعرف أن اليهود المغاربة كانوا يشكلون نسبة مهمة في المجتمع المغربي قبل أن يرحلوا، أما من بقي منهم فمعظمهم أغنياء والعلاقات ما بين الأغنياء تحددها الطبقة قبل أن يحددها الدين والجنس كما هو معلوم. وهذا هو ما يتراءى في الفيلم، في مقدماته كما في تطوره.

إن ما يحدد حكاية الشريط في الحقيقة مسرحها وهذا أول ما يسترعي الانتباه. انه هو علامة على أهل الحكاية وعلى عيشهم وهم يتحركون داخل رحاب فيلات فسيحة مشجرة ظليلة في منطقة أنفا الأنيقة التي بناها المحتل الفرنسي على شاكلة ضواحي فلوريدا المخملية.

غيثة بطلة الفيلم ابنة هذه الأماكن ولا تعرف سواها: المسبح، الحديقة الواسعة للفيلات، الشاطئ، الليسيه النخبوية ذات التعليم الفرنسي، وعلب الليل الفخمة. فضاءات تحبل بسينما أخرى، حيث «البؤس» له عنوان آخر وحالات أخرى غير مألوفة في سينما الدار البيضاء التي تعودنا عليها من طرف مخرجين مغاربة معروفين. البؤس هنا في «ماروك» عاطفي وروحي، وليس مادياً فقط. كما أن الشقاء يتسبب فيه غالباً عدم تحقق رغبة الذات التواقة للاختراق والحرية وميول القلب في الحب المختار. ليس هنا بحث عن الخبز والتحقق الشخصي طبقياً. بل فردانية تتأثر بالمحيط لا غير.

بؤس الحب بؤس الروح

التحقق المادي الحي للحب موجود فعلاقات الأجساد توخت المخرجة إظهار بعضها والإيحاء بالبعض الآخر. في هذه الأخيرة يتم ذلك من خلال التجمعات الشبابية الليلية في الغرف أو في العلب الليلية. القبل كثيرة واللباس مكشوف في غالبيته. وهو أمر غير مألوف في السينما التي ينتجها المغاربة. هنا قامت المخرجة بتجاوز عائق الجسد الأنثوي وكشفته كأنما لتتحدث عن الغائر من الأحاسيس والذي غالباً ما يجري القفز عليه والإيحاء به فقط لعدم توافر جرأة عرض الجسد وجعل رؤيته روتينية نظراً لضغط الرقابة الذاتية والخارجية. وبالتالي فما يتبدى في المحصلة الأخيرة هو معركة غيثة مع الواقع الذي يمنعها من عشق من اختارته. فخيارها التعلق بيهودي يحمل مخاطر عدم موافقة المجتمع وبالتالي يعرضها ويعرض حياتها للمشاكل والتي هي ذات طبيعة بائسة عاطفيا. الأمر الذي يؤثر في علاقاتها بالعائلة والمحيط وبنفسها أيضاً. والفيلم يقوم بتتبع منحنى الرغبة الممنوعة والعلاقة المحظورة.

ولكي يفعل يركز على العلاقة غير المنتظرة، أي العلاقة مع أخيها الأكبر. فالأبوان يغيبان تقريباً عن الحكاية وعن حياة المراهقة المتيمة. والحق أن توجيه الكاميرا السردية نحو شخصية الأخ فيه سبق ما، فالمتعارف عليه أن الأخ لا يحضر، سينمائياً وعربياً، في علاقات الأخوات العربيات العاطفية والجنسية. لكن في الوقت نفسه يغتني الفيلم بأحداث ووقائع ذات أهمية تعضد من طرح البؤس الذي صدرنا به نقدنا للشريط.

وبالفعل فالأخ الأكبر يعيش من جهته بؤساً روحياً قوياً يضغط على نفسه بعد أن تسبب بطيش في قتل طفل يصدمه بسيارته، ولكنه لم يلاحق قضائياً بل إرسل من طرف الأب إلى أوروبا لكي ينسى وينسيه الزمن. إلا أن تبكيت الضمير لم يتركه وظلت حالته النفسية متدهورة، وقد اكتشف خلال رحلته إلى الخارج أن الخلاص الوحيد يقوم في التدين تكفيراً منه عن ذنبه. وهكذا نراه في عدد من اللقطات يؤدي الصلوات وهو أمر غير معهود في وسط الحي المخملي للدار البيضاء حيث القاعدة هي العيس بليبرالية متحررة من الدين وضوابطه.

التصادم العقدي صدام الصورة

وطبيعي أن ينتج من البؤس بصورتيه، العاطفية والروحية، وبالشكل الذي توخته المخرجة الشابة، الكثير من العراك والجدل والقسوة حتى، في الشريط كعمل سينمائي روائي، وفي التلقي الجماهيري الذي أعقبه حين عرض على العموم.

لنبدأ بالسينما قبلاً. هنا نرى «يوري» يقع بدوره في عشق الصبية، ويعيش قلق العلاقة غير المألوفة. لكن وضعه عكس وضع غيثة. فبالنسبة لأقرانه اليهود لا تحمل هذه العلاقة أي نقيصة ما دامت علاقة تحابّ وجنس فقط. يوري يحب ويقلق إذن، إلا أن غيثة تحثه على الحب من دون عوائق، والنهل من صبابته كيفما كان الحال وفي هذا تقاوم أخيها الذي تعرض للمز والغمز من أقرانه وابناء دينه ما يجعله يدخل في عراك معهم وفي عراك مع أخته. لكن هذه الأخيرة، وبصراحة قوية، تواجهه وتواجه أبويها بفضح النفاق الذي يغلف تصرفاتهما فتذكرهما بخطيئة قتل الطفل (الذي نشتم أنه فقير ولا حول له ولا قوة لأهله أمام سلطتهم كأثرياء)، وطبعاً يكون الصمت المخجل للذنب هو الجواب. كما تفضح رياء الأخ غير المباشر.

وهناك مشهد الشاب اليهودي وفي علاقته مع فتاة الهوى التي تتفوه بألفاظ جد موحية لا بد من أن تثير استياء الجانب الذكوري في المشاهد العربي خصوصاً. وهناك بالطبع الحوارات الجانبية القوية النبرة المتحدية بخاصة من لدن البطلة غيثة. وهي حوارات تبدو ناطقة بمكنون المخرجة ذاتها. فالفيلم يأخذ من قصة حياتها حين كانت تلميذة بالليسيه الفرنسية «ليوطي» في الدار البيضاء، ومن هنا فهو أوتوبيوغرافي في المحصلة الأخيرة. ولكن جرى تحميله برؤى وأفكار ومواقف تأخذ من الراهن السياسي والاجتماعي العام الذي يتحكم في المعيش اليومي لعالم المسلمين والعرب، والذي يشكل المغرب جزءاً منه. وفي هذا السياق قد نفهم موت البطل يوري في النهاية. موت لا مبرر حكائي له وصور بطريقة سطحية جداً ومرتجلة. لكن رمزية القتل هنا تجر نحو البحث عن الدلالة. لماذا يموت يوري؟ لإنهاء الفيلم وإنقاذ السيناريو بعد أن بينت المخرجة ما بينت؟ ربما فلا نستطيع أن نقول أن المخرجة قتلته سينمائياً لإستحالة العلاقة العاطفية الجنسية ما بين يوري وغيثة. وربما لأن الفيلم هو فيلم البطلة غيثة فقط. وفي الفيلم ما يبرر ذلك. فالشريط من أوله إلى آخره لا تغادر لقطاته غيتة إلا نادراً. هو فيلم لها ولها لا غير. (وقد أدت مرجانة العلوي الدور بكثير من العفوية).

«صهيونية» مدسوسة؟

لكن السؤال الذي يجب طرحه هنا يتعلق بقوة الفيلم كفيلم سينمائي وبمدى وفائه للإبداع كما تعرف السينما القوية كيف تصنعه من حين لآخر. نقول هذا لكي نشترك في الحوار الدائر حول الفيلم والذي اتسم بالتشنج أو الرفض أو القبول أو الشتم إلى حدود منعه ووضعه في خانة الأفلام «الصهيونية» المدسوسة.

والحق أن هذا الكلام كبير جداً على فيلم وظف تقنيات عالية وتصويراً متقناً لكن من دون أن يبلغ درجة ابداع الصورة القوية والفيلم المؤثر الفاعل. حاولت المخرجة عامدة أن تكتب سيناريو «يحبل بما قد يصدم» ويخلخل القناعات، وحاولت عامدة أن تصور من دون حواجز أخلاقية وبلا رقـابة مسبـقة. تعمدت أن تخـرج هـذا الشريط لتعلن عن حضورها السينمائي عالمياً، بما أنه عملها المطول الأول بعد أن لفتت إليها الانتباه بشريط قصير سبق أن عرض في مهرجان «كان» الدولي سنة 2002، وأفلام تسجيلية ذات نزعة غرائبية مثل «نساء في المملكة الشريفة» و «خلف أبواب الحمام».

لا نظن أن المخرجة الشابة ليلى المراكشي المولودة سنة 1975 قد أتت فعلاً سينمائياً كبيراً ومثيراً بمقدار ما حاولت التعبير عبر الصورة السينمائية في شكل صدامي موظفة في ذلك مساعدة تقنية وسينمائية متاحة. لكن هل ربحت السينما المغربية والعربية منه جديداً؟ لنقل هو فيلم آخر... في انتظار الجرأة المفكر فيها والأفلام الروائع المفقودة..

الحياة اللبنانية في 14 أبريل 2006

 

مشروع فيلم لم ينجز... «محمد الماغوط كان هنا قبل قليل»

خليل صويلح 

قبل نحو ثلاث سنوات أقنعت محمد الماغوط بتحقيق فيلم عن حياته. وكان من شروطه ألا يظهر في الشريط، وبعد مماطلة، وافق على تصوير لقطة واحدة صامتة، إذ كان وقتها يعيش عزلة اضطرارية نتيجة المرض والكآبة. خلال تنقيبي في أرشيفه الضخم الذي كان يضعه في «السقيفة»، اعتقدت إنني وجدت بوصلة الفيلم، ففي إحدى مقابلاته القديمة قال جملة مؤثرة «لدي أغنية كيفك أنت» لفيروز أهم من كل شعر البحتري». قلت لنفسي ستكون هذه الأغنية خلفية الشريط بأكمله، على أن يكون عنوان الفيلم «محمد الماغوط كان هنا قبل قليل». وبناء على هذه الفكرة، فإن مهمة الكاميرا تفقد الأمكنة التي كان يرتادها الشاعر، فهو الغائب الحاضر طوال مدة الشريط، وبالنسبة لأغنية فيروز ستتكفل بالموسيقى التصويرية خلال تجوال الكاميرا، إضافة إلى بعدها الفلسفي الذي يختزل رؤية الماغوط نفسه في تسجيل بلاغة الحياة اليومية وليس إيقاعها الصارم. على أي حال كان البحتري «ينحت في حجر» أما صاحب «سأخون وطني» فإنه يقف على الضفة الأخرى، متسكعاً في أرصفة المدن، أعزل إلا من قصائده الجارحة والمدهشة.

البوصلة الثانية للشريط جاءت فجأة من عنوان ديوانه الثاني «غرفة بملايين الجدران»، ومسرحيته «العصفور الأحدب»، فهو خلال مطاردته من «المكتب الثاني» في أواخر الخمسينات، كان يلجأ الى غرفة ضيقة، في أحد أحياء دمشق، وكان عليه أن يحني رأسه كي لا يرتطم بسقف الغرفة الواطئ، وهنا يمكنني أن أستند الى ما كتبته رفيقة دربه سنية صالح في تقديمها لأعماله الشعرية الكاملة، فهي تصف الغرفة بقولها: «غرفة صغيرة ذات سقف واطئ، حشرت حشراً في خاصرة أحد المباني، بحيث كان على من يعبر عتبتها أن ينحني وكأنه يعبر بوابة ذلك الزمن. سرير قديم، ملاءات صفراء، كنبة زرقاء طويلة سرعان ما هبط مقعدها، ستارة حمراء من مخلفات مسرح قديم. في هذا المناخ عاش محمد الماغوط».

أخيراً وجدنا غرفة بالمواصفات ذاتها في إحدى حارات «باب توما»، وكان المشهد المقترح أن توجه عدسة الكاميرا إلى الرصيف لالتقاط صور أحذية وأقدام متلاطمة، انطلاقاً من جملة شعرية للماغوط يقول فيها: «لا شيء يربطني بهذه الأرض سوى الحذاء»، إلى أن تصل عدسة الكاميرا إلى الغرفة، ثم تتحول إلى المقاهي التي كان يرتادها الشاعر، وخصوصاً «مقهى أبو شفيق»، و«مقهى الشام».

كان صاحب «الفرح ليس مهنتي» قبل أن يستقر في سنواته الأخيرة في مقهى «الشام»، يرتاد مقهى «أبو شفيق» في الربوة على كتف نهر بردى، حيث كان يذهب مشياً على القدمين، ليقطع مسافة خمسة كيلو مترات يومياً، ذهاباً وإياباً، وحين قررت إدارة المقهى إغلاق المكان، بعد جفاف بردى، ظل الماغوط يتردد إليه، إذ كان يفتح خصيصاً من أجله، بعد أن تبرع نادل قديم في الحضور يومياً لخدمة الشاعر، ولكن جفاف النهر وموت النادل، أصابا محمد الماغوط بصدمة حقيقية، فهو لطالما كتب معظم أعماله على طاولة في ركن من هذا المقهى العريق.

بعد محاولات، أقنعنا (ورشة الفيلم) ورثة المقهى بافتتاحه مجدداً من أجل تصوير مشهد فيه، وكانت فكرة المشهد تتعلق بتصوير طاولة الشاعر وكرسيه وهما فارغان، فيما تملأ الكادر صورة بردى الموحل ومقطع من قصيدة للشاعر عن النهر بعنوان «أمير من المطر وحاشية من الغبار»، يقول فيها: «لقد وهبه الله كل ما يحلم به نهر صغير من الطبقة المتوسطة، الوحل والبعوض والربيع، ولكنه أتى على كل شيء في حقبة واحدة. أروع مطر في التاريخ/ أجمل سحب الشرق العالية/ بددها على الغرغرة وغسل الموتى».

يقترح السيناريو أيضاً زيارة مصورة صحافية لمنزل الشاعر لتعزيز مجموعتها الفوتوغرافية بصور خاصة للشاعر، ومقتنياته، بقصد تأسيس موقع على شبكة الانترنت، يشتمل على آثار الشاعر وقصائده وصوراً تؤرخ مسيرته الطويلة. أما اللقطة الشخصية للشاعر فستكون في الصالون حيث يجلس على أريكته الزرقاء، وأمامه طاولته التي تشبه سفينة نوح: أدوية، سجائر، كحول، مبيد حشرات، أقلام، دفاتر، ولاعات، كتب، وإلى يمينه جهاز الهاتف، وآلة تسجيل، يستمع إليها ليلاً نهاراً، وهي تبث موسيقى وأغاني يحبها، تمتد من باخ وموزارت إلى فهد بلان، وعتابا ريفية على الربابة، وفيروز، فيما تتجول الكاميرا على الجدار المقابل لالتقاط رسوم وتخطيطات ولوحات لفاتح المدرس ونذير نبعة وشلبية ابراهيم، وفي ركن آخر من المكتبة، تطل بحياء صورة لرفيقة دربه الراحلة سنية صالح.

أما الختام فيكون بلقطة في «مقهى الشام»، آخر مقهى كان يتردد إليه الشاعر قبل عزلته الاضطرارية، إذ تقترب الكاميرا من طاولته الأثيرة، لتلتقط صورة لقبعته وعكازه، ثم تنسحب خارج المكان، وتختلط شيئاً فشيئاً بحشود البشر فوق الأرصفة، على خلفية صوته بقصيدة مسجلة:

«تشبث بموتك أيها المغفل

دافع عنه بالحجارة والأسنان والمخالب

فما الذي تريد أن تراه؟

كتبك تباع على الأرصفة

وعكازك أصبح بيد الوطن

أيها التعس في حياته وفي موته

قبرك البطيء كالسلحفاة

لن يبلغ الجنة أبداً

الجنة للعدائين وراكبي الدراجات»

الحياة اللبنانية في 14 أبريل 2006

"الواجهة المثقوبة: رحلة شخصية في المهرجانات العربية" لنديم جرجورة

ريما المسمار 

إذا كان نديم جرجورة في كتابه الأخير"الواجهة المثقوبة: رحلة شخصية في المهرجانات العربية" (صادر عن مسابقة أفلام من الإمارات­سلسلة كراسات السينما) يختار ذلك العنوان على وجه التحديد فلأن علاقة الناقد بالمهرجانات السينمائية يتطلب ذلك الفصل بين واقعها وبين ما تشرع من أبواب وتقدم من فرص وهوامش تواصل ولقاء واكتشافات. لذلك ترى الكاتب في سياق فصول كتابه لا يني يبحث عن الوجه المشرق للمهرجانات العربية وهو ما يكتشفه عبر معايناته الشخصية من دون ان يتغاضى عن مآسي تلك اللمهرجانات التي تجعلها "واجهة مثقوبة" لواقع سينمائي قد لا يقل مأسوية، ترشح منها تجاوزات القيمين على المهرجانات وقصور نظرهم وشح إمكاناتهم (أحياناً) وتشوش رؤيتهم... يدرك جرجورة في قرارة نفسه أهمية حضور المهرجانات السينمائية العربية في وصفها هامشاً ولو ضيقاً لتقديم بعض الاختلاف وللخروج عن السائد. لذلك لا يبخل بملاحظة ايجابية وان صغيرة على مهرجان هنا او آخر هناك، يقول ما له وما عليه كأنه "يصفي" حساباته معها بعد نحو من ثماني سنوات على بداية تلك الرحلة. لا تُخفى آراء الكاتب في السينما العربية ومهرجاناتها لمتابعي مقالاته النقدية الاسبوعية في صحيفة "السفير" ولاسيما في زاويته "كلاكيت". وما يستعرضه هنا من تقويم ونقد ورصد للمهرجانات هو تعبير عن موقفه منها وامتداد لمقالاته وكتاباته. في "الواجهة المثقوبة"، تتسع زاوية "كلاكيت" لتحتوي على قراءة شاملة لأبرز المهرجانات العربية، يصوغها الكاتب بالكثير من التأني في عدم اصدار الاحكام جذافاً وفي الاحاطة بالتفاصيل حتى الصغرى منها. فلا يتوانى عن تسليط الضوء على مهرجانات أُجهضت او تأجلت بعد انعقاد دورة او اثنتين او عن الإشادة بمبادرة صغيرة في دورة ما لمهرجان ما. ليس القصد من ذلك تضمين قراءته درجة عالية من الدقة والأمانة وحسب بل ايضاً رغبته في البحث عن الايجابي والمضيء والواعد مهما صغر او قل في مسيرة المهرجانات العربية عله يكون بارقة أمل تشير الى صحوة ما لدى القيمين على هذا القطاع.

ينطلق جرجورة في مقدمة كتابه ليس من تحديد او تأطير لكتابه وانما من نفي "ليس هذا الكتاب تأريخاً توثيقياً للمهرجانات العربية..." ومن تعريف واسع "...الرحلة التي أردتها تبقى مجرد حكاية مصوغة بحب للسينما اولاً وللمدن ثانياً وللناس الذين تعرفت اليهم في هذه المهرجانات ثالثاً ولبعض المهرجانات رابعاً...". في الفصول الثمانية اللاحقة، يتناول الكاتب عناوين أساسية في مقاربة المهرجانات السينمائية العربية الابرز التي رافق الكاتب سنواتها الأخيرة كمهرجان القاهرة ودمشق وقرطاج وايام بيروت السينمائية ومهرجان الفيلم الوثائقي في بيروت وسواها. يتحدث في الفصل الأول عن مجموعة مشكلات تطاول البناء والتوجه: "فخ البهرجة الاعلامية" الذي تنساق اليه مهرجانات كثيرة والعلاقات الاجتماعية والمصالح الضيقة التي تتحكم في بعضها الآخر وكيفية إختيار الأفلام الذي يجده الطامة الكبرى في انه يراعي اموراً كثيرة (التوزيع الجغرافي، العلاقات الشخصية وسواها) على حساب الجودة والمستوى الفني والجمالي للأفلام. ويربط بين ذلك الخلل وبين فشل الكثير من المهرجانات في تحديد هوية وتوجهاً وأحياناً وجود. إذ يبدو الأمر أحياناً بالنسبة الى بعضها أشبه بمنازعة: ما معنى انعقاد مهرجان سينمائي "في مقابل تراجع خطر تعيشه صناعة الفيلم العربي... وانحدار بائس للوعي الثقافي والمعرفي والعلمي...".

في الفصل الثاني يتطرق الى موضوع إصدار الكتب المرافقة للمهرجانات مفصلاً مجموعة أمور. فالنشاط غائب عن مهرجانات كثيرة وحاضر في بعضها انما بخلل واضح في الترجمات وتكرار الموضوعات واقتصار بعضها على تجميع المقالات مع الغياب الواضح لأعمال السيرة للسينمائيين العرب الضرورية لتقديم خلاصة تجاربهم الابداعية. ويغمز الكاتب من قناة التبذير الفاحش لتلك المهرجانات على امور لا علاقة لها بالسينما كالحفلات والدعوات العشوائية لأناس لا علاقة لهم بالسينما في اشارة الى انه الأجدر بها ان تخصص تلك الميزانيات لاثراء السينما العربية ومكتبتها البائسة. اذا كان اصصدار الكتب من النشاطات الموازية­الضرورية للمهرجانات العربية، فإن بعضها يقدم أنشطة أخرى كاستضافة سينمائيين أجانب او انتاج افلام قصيرة او المساعدة على نشر الافلام خارج اطار المهرجان... يدفع ذلك بالكاتب الى المقارنة بين طموحات المهرجانات وواقعها وبين ما تعلنه وما تحققه فيسوق مثالاً على ذلك مهرجان سينما الشرق الاوسط في بيروت الذي أعلن في دورته الأولى والأخيرة عام 2003 مجموعة أهداف لم يحقق منها شيئاً ومهرجان ايام بيروت السينمائية الذي تنظمه جمعية بيروت دي سي الذي يجد الكاتب ان أهدافه جيدة ولكن يكتنفها الغموض وليس بعيداً من سياسة التوازن "لإثبات انفتاح على السينما العربية.". وفي الفصل الرابع، يناقش الكتاب جمهور المهرجانات العربية المنقسم بين باحث فيها عن المختلف وغير المتاح خارج إطار المهرجانات وبين ساعٍ الى التمتع بجرأة (جنسية في معظم الأحيان) تطاولها الرقابة خارج المهرجان رابطاً بين النوع الأخير وبين غياب التربية الاجتماعية والثقافية في المجتمعات العربية. ينتقل الكاتب بعد ذلك الى الشق الشخصي او "الرحلة الشخصية" التي تتخطى المهرجان بعروضه وطقوسه الى بناء علاقة مع المدينة المقام فيها وبعض الناس الذي يستضيفه لافتاً الى ان الكتابة النقدية منفصلة تماماً عن تلك الاعتبارات بما يجعلها في معظم الأحيان نقطة صدامية بين النقاد وبين ادارات المهرجانات. فالمعلوم ان قلة من مدراء المهرجانات العربية يتقبل النقد بينما السواد الأعظم يعتبر الدعوة بمثابة ثمن غير معلن للاشادة بالمهرجان. ومن حرص جرجورة على تغطية الموضوع بتفاصيله كافة، يوجه الاتهام لبعض الصحافيين الذي يتواطؤ مع تلك الاعتبارات والبعض الآخر الذي لا يتعاطى مع الكتابة النقدية بالجدية والعمق الضروريين. ولا يغيب عن الكاتب بحث الصفة "الدولية" التي يطلقها بعض المهرجانات على نفسه وتبعات ذلك من التوجه الى النجوم والمشاهير لافتاً في المقابل الى المهرجانات القليلة المتخصصة بنوع سينمائي معين. في الفصل الأخير، يمر الكتاب على مجموعة تفاصيل ت،اجه المهرجانات السينمائية كشروط العرض التقنية واوضاع الصالات السينمائية وسواها قبل ان يختم بترك النص مفتوحاً بما يتناسب مع طبيعته التي تمزج بين المقاربة النقدية والمزاج الشخصي والنظرة الذاتية.

المستقبل اللبنانية في 14 أبريل 2006

 

سينماتك

 

فيلمها الأول أثار ضجة واستياء لتطرقه الى مواضيع شائكة...

«ماروك» لليلى المراكشي ... إمكانات كبيرة لسينما صغيرة

الدار البيضاء - مبارك حسني

 

 

 

 

سينماتك

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك