متعة مشاهدة شريط سينمائي من دون ان تكون لديك أدنى فكرة عما ستراه متعة لا تُضاهى. حتى تلك الكلمات القليلة التي تختصر الحكاية او تمهد لها تفسد شيئاً من لذة الابحار في المجهول ومتعة الكشف عن تفاصيل لا تهم سوى المشاهِد لأنها توجه الاحساس والفكر وتضيق افقهما بما تحمله من تحديد. بعض الافلام عصي على الاحتفاظ بغموضه وسريته بما يرشح عنه في الصحافة والمقابلات لاسيما اذا تحول محط أنظار الجوائز ولاسيما ايضاً اذا كان موضوعه اشكالياً بالنسبة الى البعض. ينتمي شريط آنغ لي الأخير "جبل بروكباك" Brokeback Mountain الى الافلام التي تسبقها سمعتها وتمهد لها الطريق بما لا يعمل دائماً لصالح الفيلم. "السمعة" هي ما يتسلل من الفيلم الى العلن في شكل "خط عريض" او "مانشيت". وغالباً ما يرتكز على محاور تداعب أحاسيس المشاهد وتغريه لمتابعة أخبار الفيلم وتالياً لمشاهدته عندما تحين الفرصة. أفلام كثيرة تُظلم وُتسقط فاقدة تفاصيل مهمة جراء انطباع صورة محددة في ذهن المشاهد عنها، تدفعه الى البحث عن انعكاسها في الفيلم متجاهلاً ما هو أقل بهرجة وأعمق تأثيراً. التوصيفات التي لاحقت "جبل بروكباك" من انه "ويسترن لواطي" (gay western) و"من أعظم قصص الحب في السينما" و..و... كلها متجذرة في واقعه ولكنها ليست كل شيء في الفيلم وليست القيمة الكبرى. فهناك في عمق "الجبل" حكاية رجل انطوائي عاجز عن التعبير عن أحاسيسه وعندما يأتيه الخلاص في هيئة العشق ويعده بالخروج من كبت الماضي، يتضح ان خلاصه كفر في نظر المجتمع وبوحه سيبقى مسكوتاً عنه.

ويسترن؟

يطالعنا آنغ لي في Brokeback Mountain بحقول "وايومينغ" الشاسعة الخضراء وبسمائها التي لا تشبه سماءً أخرى وببطليه "جاك" (جايك غيلينهال) و"اينيس" (هيث ليدجر) بلباس رعاة البقر ولكنة الغرب الاميركي المميزة. انها مقومات الويسترن الاساسية التي تعزز انتماء الفيلم الى النوع السينمائي الأكثر مقاومة للإندثار في تاريخ السينما الاميركية، الويسترن او افلام الغرب القديم. ففي كل مرة بدا الويسترن فيها على حافة الانقراض، آتاه مخلص من مكان ما ليشعل من جديد اواصر القربى بينه وبين الجمهور ويعلنه الروح الاميركية المتجذرة. ففي مطلع الستينات عندما بدأ نجومه الكبار من امثال جون واين وغاري كوبر وجايمس ستيوارت يشيخون والتلفزيون يسرق الجمهور بإنجازه سلسلات ويسترن، ظهر فيلم جون ستورجز THE MAGNIFICENT SEVEN ليقلب المعادلة محققاً نجاحاً كبيراً في اوروبا (بما جمعه من نجوم من امثال يول برينر وستيف ماكوين وجايمس كوبورن وتشارلز برونسون وروبرت فون وهورست بولتشولز وبراد دكستر). وعندما نعى سام بيكينباه الغرب الاميركي في فيلميه الأخيرين RIDE THE HIGH COUNTRY (1962) و THE WILD BUNCH (1969)، ظهر "سباغيتي ويسترن"او الويسترن الايطالي مع سيرجيو ليوني وكلينت ايستوود فأبقاه الاخير حياً حتى منتصف الثمانينات. ولما بدا انه غاب تماماً، جاءت التسعينات حاملة DANCES WITH WOLVES لكيفن كوسنر و UNFORGIVEN لإيستوود (كلاهما حاز اوسكار اًفضل فيلم) وOpen Range (لكوسنر ايضاً) في مطلع الألفية الثانية.

ما كان النقاش حول انتماء فيلم لي الى "الويسترن" ليحتل هامشاً كبيراً لولا قصة الحب التي يقدمها بين بطليه. فهذا الحب "الشاذ" بالوصف السائد و"المثلي" في التعبير الاجتماعي والنفسي و"الحب وكفى" بالمعنى الانساني هو في نظر كثيرين بصمة المخرج في الويسترن. هو الجانب "المُفسِد" لقداسة النوع السينمائي اياً كان ولكنه يكتسب بعداً اضافياً مع الويسترن الذي اعتبر دائماً الأكثر قدسية بين الانواع السينمائية الاميركية كونه النوع الاول والاساسي (هناك إجماع على ان شريط ادوين س. بورتر "سرقة القطار الكبرى" THE GREAT TRAIN ROBBERY المنجز عام 1903 هو الويسترن الاول في تاريخ السينما وهو ايضاً اول شريط سينمائي قام على سرد أحداث)، يقوم على مديح يشوبه حنين الى الايام الخوالي لاميركا الشاسعة الشرسة. ولكن ثمة تعريف اشمل للغرب الاميركي يفسر مكانة سينما الويسترن في وصفها انعكاساً لمزيج الواقع والاسطورة للمنطقة الاميركية الممتدة غربي نهري الميسيسيبي وميزوري ابان القرن التاسع عشر وكل ما اتصل بها في الماضي والحاضر. انه­ اي الغرب الاميركي­ ليس مكاناً او زماناً محدداً بل حالة ذهنية عامة. اكتسب الويسترن قدسيته من اكتنازه الاسطورة لا سيما ان بداياته تقاطعت مع نهايات الغرب الاميركي. بمعنى آخر، توفرت عناصر الاسطورة منذ البداية حيث اصبحت السينما شاهدة في شكل ما على ذاكرة تتهاوى ومسؤولة عن تسجيلها وحفظها. بهذا المعنى، تبرز سينما الويسترن كنوع سينمائي فريد شهده القرن العشرون لاقترابه الزمني والجغرافي من التاريخ الذي يتحدث عنه. الحديث اذاً على شريط آنغ لي من هذه الزاوية ليس سوى رغبة في تكسير النوع وما نعته بـ "الويسترن اللواطي" او Gay Western إلا إمعان في كسر هالة الويسترن لاسيما من قبل راصدي­بين النقاد وغيرهم­ معالم "السينما الشاذة" منذ التسعينات وحتى يومنا هذا. ووصف الشاذة هنا لا يشير الى تناولها الموضوع الجنسي فقط وانما ايضاً بث لأفكار لا تتطابق مع مفاهيم المجتمع السائدة (افلام تود سولونز وتود هاينز على سبيل المثال لا الحصر). لقد أثار اولئك الباحثون والراصدون ان تكون حكاية الحب بين رجلين انما تُطرح للمرة الاولى بهذه المباشرة والرومنسية والبساطة في فيلم ينتمي أكثر الى التعبير الكلاسيكي منه الى السينما الجديدة او الشاذة او السفلية او المستقلة التي تتقاطع عند نقاط كثيرة وفوق ذلك بتطويع النوع السينمائي الأكثر كلاسيكية. لقد شهد الويسترن عبر تاريخه الطويل تغييرات كثيرة حتى في بنيته الأصلية. لذلك فإن نفي انتماء brokeback الى النوع لأنه يكسر بعض قوانينه ليس دقيقاً تماماً. أفلم يقلب كيفن كوسنر في Dances with Wolves المقاييس عندما جعل الشخصية الهندية النمطية التي حملت دائماً مواصفات الشرير في الويسترن الى بطل خيّر؟ كذلك لا مفر من ملاحظة النص المتواري في الويسترن الذي يقدم العناصر الكافية لنسج حكاية حب بين رجلين. أفليس الويسترن قائماً على العلاقات بين الرجال بالدرجة الأولى؟ إن نظرة سريعة على تاريخ الويسترن كفيلة بأن تذكرنا بأنها افلام قامت بالدرجة الاولى على علاقة حميمة ومتوترة بين رجلين دائماً وان النساء كن دائماً ديكوراً غير اساسي. بمعنى آخر، ان المثلية او الحميمية الذكرية اذا جاز التعبير كانت دائماً ملمحاً دفيناً للويسترن الذي هو تعبير خالص عن سينما الذكورية والدليل ان المرأة فيها كانت في الغالب مشكلة فهي اما مومس او الابنة التي تحتاج الى الانضباط او الام التي يخشاها البطل... ولكن آنغ لي يمنح بطلاته (ميشيل ويليامز وآن هاثواي) أبعاداً أخرى ويقدمهن في شخصيات مشغولة.

دينامية العلاقة

هذا هو اذاً عنصر الاثارة الاول والخارجي في تجربة آنغ لي: طرقها موضوع المثلية في سينما الماينستريم ومن خلال الويسترن.

ولكن خلف تلك الواجهة البراقة اللافتة، تكمن التفاصيل المصقولة والمعالجة الماهرة التي تنتزع الحكاية من زمانها ومكانها لتصبح رذاذاً كونياً متحرراً من ثقل الهوية والتوصيفات. فالحب الذي يجمع بين "جاك" و"اينيس" يحمل سؤال الحب الجوهري ذلك المتعلق بالبحث في الآخر عن ملاذ ليس فقط جسدياً انما روحي. يغلق الفيلم نفسه طواعية على تلك العلاقة متناسياً المكان والزمان. فلا يعنيه من التعريف الزماني والمكاني، "وايومينغ، 1963"، الذي يظهر على الشاشة بداية الا تأريخ قصة الحب ولاحقاً التدليل على استمراريتها. كل ما عدا ذلك من أحداث وأمكنة مرتبطة بتلك السنة لا يشير الفيلم اليها لا من قريب ولا من بعيد. حتى مرور الوقت لا نستشعره الا من خلال تبدل طراز الشاحنات التي يقودها الاثنان او من خلال بعض التغييرات الذي يطرأ على الاثاث المنزلي ودخول الالات الميكانيكية. يحفل الفيلم بالاشارات الصغيرة الى التبدلات الطارئة على الحياة والمدنية الآخذة في التمدد فقط ليمعن في عزل الحبيبين أكثر. فكل ما في الحياة الزوجية اللاحقة لكل منهما يتنافر بشكل واضح مع علاقتهما الاولى ولقاءاتهما اللاحقة في تلك البراري الهادئة والخضراء الخالية من اي أثر للمدنية او التكنولوجيا. صراخ الأطفال وأصوات الغسالة والتلفزيون والتراكتورات والآلة الكاتبة والبيوت الضيقة والسكين الكهربائي الذي يقطع به أحدهم "الديك الرومي" الخاص بعيد الشكر.. كلها إشارات الى الحصار المضروب حول "جاك" و"اينيس"، لا يتحرران منه الا بضع مرات في السنة حينما يتحججان برحلات الصيد ليلتقيا ويشعلا من جديد حبهما.

ولكن فهم ذلك "الشد" في العلاقة يستلزم فهم كل شخصية بأبعادها الانسانية والدرامية التي تخلق دينامية العلاقة. لا بد هنا من الاشارة الى ان الفيلم مقتبس عن عمل ادبي هي القصة القصيرة بالعنوان نفسه لآني برولكس. ومما لا شك فيه ان الكاتبة أرادت لشخصية "اينيس" ان تكون جوانية بخلاف "جاك" المتحرر في بث مشاعره والتعبير عن رغباته. هنا يمكن سوق مجموعة نقاط ترسخ علاقة الاثنين وتمنحها تلك القوة الصامتة. على الرغم من المظهر الذكوري الخشن للممثل هيث ليدجر، فإن شخصية "اينيس" التي يجسدها هي الأرق والاكثر هشاشة في حين ان نعومة ملامه غيلينهال في دور "جاك" لا تمنعه من ان يكون المبادر. لا نتحدث هنا عن تبادل اداور المرأة والرجل بين الاثنين بقدر ما نشير الى حساسية الكاتبة ولاحقاً المخرج تجاه دينامية علاقة الحب. فثمة في اية علاقة سواء أمثلية أم لا قوة دافعة وأخرى تابعة. "جاك" هو القوة الدافعة في هذه العلاقة وهو في الوقت نفسه الطرف غير القادر على كتم مشاعره. بخلافه، يبدو "اينيس" المتلقي او الطرف الذي يحتاج الى من يدفعه والقادر على تسكين جرحه ليس لأنه يعشق اقل ولكن لطبيعته الانطوائية وحرمانه الطفولي من العاطفة كما يكشف بوحه ببعض ذكرياته. ولكن الملاحظة الاهم هي ان "جاك" برغم أحاسيسه الجارفة قادر على تسيير امور حياته العملية والزوجية بينما "اينيس" لا نراه يعمل قط. "جاك" اذاً قادر على الفصل بين حياتيه المتناقضتين بينما "اينيس" هو المشوّش باستمرار الذي تحركه عواطفه وتتحكم بحياته. انها كتابة عميقة للشخصيات واختيار متقن للممثلين من قبل آنغ لي. فهذا التناقض بين المظهر والشخصية لدى كل ليدجر وغيلينهال لا يضيف الا سحراً وغموضاً الى الشخصيتين وإحساساً بأنها عميقة ملموسة. يضيف ليدجر بدوره حساسية عالية في ادائه "اينيس"، يبدو بدايةً مستفزاً ومتكلفاً ولكن يتضح لاحقاً ان تقنيته الادائية تتماشى مع ميل "اينيس" الى بناء سد عازل يخفي حساسيته وهشاشته وذكريات طفولته التي اقل ما يقال فيها انها بعيدة من البهجة. تلك اللهجة الثقيلة والنطق غير السليم والقبعة التي تخفي معظم وجهه... كلها علامات ظاهرية لرجل عاجز عن التعبير والانطلاق بأحاسيسه.

المتوحد

بنفس التناقض الذي يسم العالم الخارجي والداخلي لكل شخصية، يأتي التحول الدرامي الثاني (الاول هو العلاقة بين الاثنين) على يد المتلقي "اينيس" وليس المبادر. "اينيس" هو الذي يضع حداً للعلاقة عندما يصطحب ابنتيه الى لقائه "جاك"، "مدنساً" على نحو ما تلك المساحة الروحية التي تخصهما. بعدها ينطلق "اينيس" الى حياة الوحدة­التي كان يحياها حتى قبل طلاقه من زوجته­ التي هي مصيره ليتحول بذلك بطلاً تراجيدياً مع اختلاف طفيف هو ان كل خياراته ستفضي به الى الهلاك. فابتعاده عن "جاك" ذهب به الى هلاك روحي ولكنه لو رافقه كان ربما سيلقى المصير نفسه الذي لقيه جاك: الذبح على يد مجهولين من دون ان نعرف السبب. ولكن غالب الظن انها ذروة درامية ارادت الكاتبة بها ان تعمق التراجيديا اللاحقة بـ"اينيس" من خلال ربطه بين موت حبيبه وتلك الصورة التي يحتفظ بها من طفولته لجثة رجل ذُبحت وشُوهت بسبب ميوله المثلية. "اينيس" هو الرجل الذي سيحيا دائماً بذنب ما ليس من منطلق ديني وانما بسبب طفولته ومشاعره المكبوتة التي لا يحسن التعبير عنها الا "قذفاً" وبسرعة وبدون لذة تأخذ مداها. انه ببساطة رجل لا يسعه الا ان يحيا مع بقايا أحبائه فيحتفظ بقميص "جاك" الملوث بدمه هو والذي يذكره بلقائهما الاول ولاحقاً يضم اليه كنزة ابنته التي على الرغم من حبه الكبير لها يبقى عاجزاً عن ان يكون جزءاً من حياتها او ان يجعلها جزءاً من حياته. انه الرجل المتوحد غير القادر على العيش على امتداد الحياة، فيسجن نفسه في "كارافان" مع أشياء أحبائه ويتأمل العالم الشاسع من كوة تفضي الى روحه.

المستقبل اللبنانية في 7 أبريل 2006

"ذكريات رأس بيروت: ليتك كنت هنا" *

سيرة مدينة

ريما المسمار

ليس عبثاً تنقل محمود حجيج في "ذكريات رأس بيروت: ليتك كنت هنا" من الأستاذ الجامعي الى العامل في منارة بيروت في أخد ورد قبل ان يجد المنطلق لفيلمه الوثائقي­السيرة. فهو يبحث عن هوية هذه المنطقة من بيروت في كلام الجامعي الذي يعرف بها من خلال مواصفاتها الاجتماعية والتاريخية والجغرافية، بينما يقاربها تقني المنارة بحس انساني فطري. كلاهما يجعلانك تتساءل عن سبب ارتباطهما بها وعن تعلقهما بهذا الجزء من المدينة الذي كان يوماً مدينة في حد ذاته. تلك الحوارية البصرية التي ينسجها المخرج في البداية والتي ان حللناها بنظرة اليوم ستصبح تعبيراً عن الانفصال بين الروح والجسد في بيروت اليوم، أرادها حجيج التعبير الأبلغ عن منطقة تختزل­ او الأحرى اختزلت في مرحلة سابقة­ الاندماج والتعايش والتمازج الثقافي والاجتماعي والبعدين الانساني العفوي من جهة والتركيبي المعرفي من جهة ثانية. على أن الحوارية غير المباشرة بين عامل المنارة والأستاذ الجامعي هي اختزال لأوجه المدينة الأخرى على نحو ما قيل يوماً عن بيروت انها منارة الشرق وعلى نحو ما يمكن ان نتخلص في سياق الفيلم من ان الجامعة الأميركية هي منارة رأس بيروت او العنصر الجاذب والمحوري فيها. ربما لذلك شكلت الجامعة، بأساتذتها المشاركين في الفيلم بشهادات وتحليلات وبصورها الفوتوغرافية، شكلت المحور المفصلي الذي ما انفك حجيج يعود اليه لينطلق منه الى محاور أخرى. من رأس بيروت المنارة ورأس بيروت الجامعة الأميركية، يضيق المخرج على مادته ويدخل في التفاصيل الصغرى كأنه ينطلق من شارع الجامعة الأميركية او ما يُعرف بشارع بليس الى الشوارع الخلفية والأزقة الجانبية التي تختصر عبر أمكنة وأشخاص علامات المنطقة. هكذا يتحول محل الأزهار المعروف بـ"طقوش" معلماً من خلال معايشة صاحبه ابراهيم طقوش للمنطقة منذ الستينات. ويتحدث أحدهم عن مطعم فيصل الذي أزيلت معالمه ولكن أثره في تكوين المنطقة وربما في تكوين جزء من تاريخ بيروت الحديث مازال حاضراً.

ينأى الفيلم بنفسه عن النوستالجيا بأساليب عدة. فهو يحاور شخصيات حية معظمها مازال مؤثراً اليوم. وهي في أحاديثها عن ذلك الزمن الجميل، لا تنبذ الحاضر تماماً. فهناك من بين المثقفين المشاركين بشهاداتهم من ينطلق من قاعدة ان الحاضر هو امتداد لذلك الماضي من دون ان يفقد خصوصيته. وهناك بين الشخصيات الأخرى من يبدو وكأنه مازال مقيماً في ذلك الماضي المحتفظ ببعض زوايا في الحاضر كبيت من طراز قديم مختبئ خلف بناية حديثة او شجرة معمرة او درب غير معبدة كانت في ما مضى الطريق الوحيدة التي يمكن عبورها... أحياناً تتفلت من أحدهم تنهيدة على الماضي الجميل الذي لن يعود وأحياناً كلمة تختزن الكثير من الحنين المشوب بالتهكم كقول أحدهم ان مطعم فيصل الذي شهد نشوء الحركات السياسية والقرارات المصيرية استُبدل اليوم بـ "ماكدونالدز". ولكنها ايضاً كاميرا المخرج هي التي تحمي الفيلم من التحول الى صورة عن مدينة آفلة. فهي، اي الكاميرا، تتحرك بنبض اليوم، تلتقط تفاصيل يومية معاصرة لمدينة متحولة تثير الاهتمام والاعجاب وربما الاشمئزاز. بين الرواة الشاهدين على التاريخ، وحده محمود حجيج هو محامي الشيطان او محامي الحاضر بمعنى ما. ولكنه لا يسلك الى ذلك سبيلاً مسطحاً بل يكب على رسم صورة معاصرة للمدينة هي مزيج من خزينها الماضي وتحولاتها وحاضرها، لا تخلو من اشارات نقدية تحملها جزءاً من ذنب ما حل بها. ولكن الأعجب من ذلك هي قدرتها على الوقوف مجدداً. فالصور تتوالى عن رأس بيروت التي تختزل أحياناً بيروت بما تمثله من نموذج كان الأمل كبيراً في ان يعمم على المدينة بأسرها. تتوالى اذاً صور الماضي والحاضر من خلال الوصف والذكريات وبعض الصور الفوتوغرافية وتقنيات الصورة المدمجة والمطابقة dissolve) super-impositionh) التي تسمح بالتعبير البصري عن مرحلتين ومعاينة التحول الحاصل عمرانياً. ولكن بين المرحلتين، يكمن الجرح الكبير. انها الحرب التي تشكل المسكوت عنه في هذا الفيلم ليس في محاولة لانكارها وانما لأنها لا تنسجم في السياق السردي. كل الكلام عن بيروت الماضي وكل التحليلات لا يمكن ان تفضي الى استنتاج حرب. ولكن الكل يتوقف عن الكلام عندها فنفهم انها نقطة التغيير من دون الدخول في التفاصيل. انها الانكسار اللاحق بالمرآة والذي يؤدي الى انعكاس غير مطابق للحقيقة. الحرب في شريط حجيج هي تلك المرآة المكسورة بين الماضي والحاضر ولكن أحداً لا يستطيع ان يقول ايهما الأكثر حقيقية او واقعية.

يستخدم حجيج أسلوباً سردياً يدلل على أسلوبه هو الخاص. فهو لا يكتفي بحكايات شخصياته وسردها لتاريخ منطقة رأس بيروت بل يقتطف من كتاب الكاتب والمؤرخ كمال صليبي مقاطع يتلوها الكاتب بنفسه أحياناً وتأتي أحياناً أخرى على لسان الراوية (غالية السعداوي)، يمتزج فيها الخاص بالعام، أو الأحرى يكتسب فيها العام نظرة تنطوي على الكثير من الذاتية والخصوصية لترتسم صورة المدينة­الشخصية بمحاذاة سيرة الكاتب، كأن تاريخ المدن لا يكتب الا بمعاينات الأدباء الذاتية. بالذاتية عينها، يتجول المخرج في بيروت، محولاً المشروع العام­ رصد تحولات منطقة رأس بيروت­ رحلة ذاتية عن أوجه بيروت الماضي والحاضر وأحلامها، باعثاً من كل زاوية حكاية وما لقاؤه بالسفيرة الفلسطينية ليلى شهيد في محل الأزهار الا مثالاً عن المفاجآت التي تخبئها هذه المدينة وعن قدرتها على ان تفاجئك باستمرار. والمفاجأة تقود الى أخرى إذ تكشف شهيد عن ان صاحب المحل انما هو اول ممثل لبناني ذهب الى مصر. انها تلك القدرة على ترك الفيلم يقود صاحبه ويقودنا معه داخل بورتريه مدينة هي التي تمنح الفيلم قوته الدافعة وتحوله شريط سيرة لمدينة لا تشبه غيرها.

 

* "ذكريات رأس بيروت: ليتك كنت هنا" لمحمود حجيج من انتاج الاتحاد الاوروبي بالتعاون مع مركز البحوث السلوكية بالجامعة الاميركية في بيروت.­متوفر بنسخة "دي.في.دي

المستقبل اللبنانية في 7 أبريل 2006

 

"يوم آخر" في بيروت اليوم 

بعد فيلم روائي طويل وآخر قصير وشريط وثائقي ومجموعة نشاطات فنية من محاضرات وتجهيزات ومعارض، يعود السينمائيان جوانا حاجي توما وخليل جريج الى السينما الروائية بفيلم جديد بعنوان "يوم آخر" A Perfect Day. يعودان الى بيروت التي زاراها في فيلمهما الروائي الأول "البيت الزهر" قبل نحو ثمانية أعوام عندما كانت خارجة لتوها من تجربة الحرب وعلى ابواب رسم مرحلة جديدة. كأن "يوم آخر" يتوقف عند نتائج المرحلة الجديدة بعد مرور عقد ونيف، لا ليحلل او ينتقد وانما ليرصد ويفهم الحاضر.

لعل سؤال الحاضر في الصورة هو السؤال الجوهري. اية صورة هي التي تعبر عن هذا الحاضر؟ هل هي صور الأخبار والأحداث اليومية؟ ام هي الصور المتجردة من الآني؟ في اختصار، اية صورة تبقى عن هذا الحاضر للمستقبل واية صورة تختزل ما نعيشه؟ أسئلة لا تنتظر اجابات نظرية بقدر ما تحتاج بحثاً عملياً وتجارب بالصورة نفسها. ولكنها أسئلة كامنة في جوهر اي عمل. يلامس "يوم آخر" تلك التساؤلات، ينطلق من رغبة في المعاينة والرصد. تدور أحداث الفيلم خلال يوم كامل في بيروت اليوم. في ذلك اليوم البيروتي، أحداث وشخصيات ولكن الأخيرة هي المحور. "مالك" (زياد سعد) شاب في منتصف العشرينيات، يصحو على نهار آخر، ليكرر محاولة استرجاع صديقته (الكسندرا قهوجي) ومواجهة انتظار والدته (جوليا قصار) الطويل لوالده المخطوف. الشيء الوحيد المختلف في ذلك اليوم والباعث ربما على الامل­ الأمل بأن هناك حدثاً جديداً غير مكرر­ هو موافقة والدته على اعلان والده ميتاً بعد مضي خمس عشرة سنة على خطفه. كأن خلف قرار الام والابن ذاك رغبة في رمي حمل ما او التخلص من ضبابية الماضي المتحكمة في حاضرهم. انهما للمرة الاولى يتسلمان زمام الامور ويعلنان نفسيهما متحكمين بماضيهما.

يعاني "مالك"، الشخصية الاساسية في الفيلم، من حالة انقطاع التنفس خلال النوم وهي حالة شائعة، تتسبب في ان يغط في النوم سريعاً كلما توقف عن الحركة خلال النهار. تؤسس تلك الفكرة لايقاع الفيلم ولكنها ايضاً تشير الى ايقاع الحياة في بيروت بحسب حاجي توما "الذي يشير الى عدم انتظام طريقة عيشنا. فنحن مجتمع سريع التبدل، يفرض على افراده ضرورة التأقلم بالقفز عن مشكلاتهم. لكل شيء وقت محدد عندنا، اذا تخطيناه وُضعنا في خانة غير الطبيعيين. اهالي المخطوفين يجب ان ينسوا، الذين عاشوا تجربة حب فاشلة يجب ان يخرجوا منها، من فقد عزيزاً لا يجوز له الحداد طويلاً.. لائحة الطويلة من الاحكام تسلب الفرد ايقاعه الخاص في التعاطي مع الموت والفقدان والفشل واليأس. يجب ان نفهم ان بعضهم لا يستطيع النسيان وان بعضهم الآخر لا يريد ان ينسى. لعل هذا الانسجام بين ايقاعنا وايقاع المجتمع وايقاع الآخر هو ما نحتاج اليه." (من حوار مع المخرجين نشر في "المستقبل" بعيد انتهائهما من التصوير).

جال الفيلم على مهرجانات عدة ابرزها لوكارنو وروتردام وسيخرج في الصالات اللبنانية في السابع والعشرين من نيسان/ابريل الجاري.

المستقبل اللبنانية في 7 أبريل 2006

 

سينماتك

 

"جبل بروكباك" لآنغ لي يشعل السجال حول المثلية في الماينستريم ويكسر هالة الويسترن

عندما يكون العشق خلاصاً كافراً

ريما المسمار

 

 

 

 

سينماتك

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك