انطلقت اول من امس الدورة الخامسة والثلاثون لمهرجان روتردام السينمائي الدولي المصنف من بين المهرجانات السينمائية الاولى في العالم. يمتلك هذا المهرجان ميزة خاصة تتمثل في تركيزه على الافلام المستقلة حيث تغيب الافلام الضخمة والتجارية تماماً، لتحل في مكانها افلام الشباب في المسابقة والافلام التجديدية في فئة خاصة بينما تُقدم افلام السينمائيين الكبار في فئة "ملوك ومايسترو" خارج المسابقة لتتاح الاخيرة للافلام الاولى والثانية. وتلك خطوة بدأت مهرجانات كثيرة باتخاذها وان بشكل غير معلن حيث أصبح السينمائيون الكبار يفضلون عرض افلامهم خارج المسابقة حتى لا ينافسوا التجارب الجديدة التي تحتاج الدعم والتشجيع. كذلك يتميز مهرجان روتردام ببرنامجه "هيوبرت بالز فاند" الداعم للمشاريع السينمائية في مراحلها التحضيرية او الانتاجية وقد افاد مخرجون مستقلون كثر من العالم من ذلك البرنامج لانجاز افلامهم من بينهم مخرجون عرب مثل اسامة محمد بفيلمه "صندوق الدنيا". يفتتح المهرجان الفيلم الياباني Heart Beating in the Dark للمخرج المخضرم ناغازاكي شونيتشي. اللافت ان هذا الفيلم هو اقرب الى اعادة لفيلم آخر لناغازاكي بالعنوان نفسه وكأن المخرج يقوم من خلال ذلك بنقد فنه. يترافق حضور المخرج مع تكريم له بعرض مجموعة من افلامه. اما فيلم الختام في الخامس من شباط/فبراير فهو شريط جورج كلوني Good Night and Good Luck الذي اثار ردود فعل ايجابية في العالم بمضمونه السياسي الناقد لحقبة المكارثية وتأثيرها على السينمائيين والكتاب. تقدم الدورة الحالية لمهرجان روتردام 92 فيلماً تتوزع على الشكل التالي: 53 فيلماً تقدم في عرضها العالمي الاول، 19 في عرضها الدولي الاول و20 فيلماً في عرضها الاوروبي الاول. يحتوي البونامج على مزيج من الافلام الجديدة والاعمال غير المقدرة والأخرى التي برزت خلال العام الفائت. في جولة اولية على برنامج الدورة، يطل الاميركي مايكل هوفمن الذي اشتهر قبل ثلاث سنوات بفيلمه SOPHIIIE! بفيلمه الجديد Eden عن القدر والحب والمطبخ! من بريطانيا The Living and the Dead لسايمن روملي عن العلاقات العائلية في أجواء سوداء. من اسكندينافيا، يقدم المهرجان The Gambler عن التحديات التي تواجه السينمائي اليوم في عمله. في الغرب الاميركي تدور احداث A Little Trip To Heaven للايسلندي بالتازار كورماكور معع فوريست ويتايكر في دور البطولة. ومن السويد الكوميديا Every Other Week عن العلاقات الانسانية. الفرنسي المخضرم راوول رويز يعود بنسخة المخرج من Klimt عن الفنان النمسوي غوستاف كليمت يجسده جون مالكوفيتش ومن المخرج التشيكي المايسترو جان سفانكماجر Lunacy فيلمه الاول منذ خمس سنوات. من ايران فيلمان الاول لابي الفضل جليلي Full or Empty والثاني The Fish Fall in Love لعلي رافي. من السينما العربية، يختار المهرجان الفيلم العراقي "أحلام" الاول لمخرجه محمد الدرادجي الذي تدور احداثه في بغداد الحرب الطاحنة. من تركيا The Nightly Song of the Travellers لشابور حجيجات. المخرج الهندي الممثل في الاصل راجات كابور يقدم فيلمه الجريء عن الزواج والجني في مومباي بعد ان اثار جدلاً بفيلمه السابق Raghu Romeo الذي قدمه في لوكارنو. من السينما اليابانية، يختار المهرجان فيلم الافتتاح Heart Beating in the Dark لناغازاكي شونيتشيو مجموعة من الافلام الرقمية من شرق وجنوب شرق آسيا. تحتل السينما الاسيوية هامشاً كبيراً في مهرجان روتردام فإلى فيلم الافتتاح الياباني وافلام الديجيتال. تحضر كوريا الجنوبية بفيلمين هما Inner Circle Line لتشو يونهي وA Great Actor لشين يونتشيك كلاهما يبحث في الهوية المعاصرة لكوريا اليوم. ومن الصين افلام فيديو معاصرةومن الفيليبين تقدم رايا مارتن A Short Film about the Indio Nacional. افلام المسابقة يتنافس في المسابقة اربعة عشر فيلماً هي الاولى او الثانية لمخرجيها والجائزة التقليدية للمهرجان هي "النمر" . اما الافلام المتنافسة والتي تشهد عودة المخرجين الاميركيين الشباب والمستقلين فهي: Song of Songs للانكليزي جوش ابيغنانيسي؛ Glue للارجنتيني الكسيس دوس سانتوس؛ Land of the Blind لروبرت ادواردز؛ The Gaze للايراني سبيدا فارسي؛ Early in the Morning للفرنسة غاهيتي فوفانا؛ A Summer Day للفرنسي فرانك غويرين؛ Walking on the Wild Side للصيني هان جي؛ Ode to Joy للبولندية آنا كازيجاك داويد؛ The Legend of Time للاسباني ايزاكي لاكويستا؛ Northern Light للهولندي دايفيد لامرز؛ MADEINUSA لكلاوديا لوسا؛ The Dog Pound لمانويل نيتو زاس؛ Old Joy للاميركية كيلي ريشارد؛ Taking Father Home للصيني يينغ ليانغ. الى افلام المسابقة، تتوزع الافلام الاخرى على فئات عدة مثل: الافلام التجريبية، افلام من تاريخ السينما المستقلة، افلام المخضرمين، الوثائقي الاجتماعي والسياسي، افلام السيرة الذاتية وسواها... المستقبل اللبنانية في 27 يناير 2006
كمال حميدة أحيا المهرجان المصري والآخر الأوروبي في 18 كانون الثاني طيلة أسبوع كامل في مناخ شتوي ساخن بأسطع نجوم السينما العربية والأجنبية. فإلى جانب حضور الأفلام الأوروبية كتنوع ثقافي عربي وأوروبي استمتع الجمهور الجزائري بالعروض المتنوعة على خشبة المسرح وانتعش بنكهة إبداعات ما أنتجه أشهر المخرجين في تظاهرة خاصة يعرض فيها 140 فيلماً تمثل 48 دولة من بينها تونس، لبنان، سوريا، مصر الامارات العربية المتحدة الغرب والعراق. وتنافس في المسابقة الرسمية للمهرجان 15 فيلماً تمثل اليونان والهند واليابان وألمانيا وفرنسا وفنلندا والمجر وألبانيا وإيطاليا وفرنسا وإيران واليمن، مع العلم أن الصين كانت ضيفة شرف المهرجان. تنوعت الأنشطة في الغناء، السينما، مسرح، شعر وفنون تشكيلية، إذ والى جانب الفنان علي الحجار الذي دشن الأسبوع بإحيائه حفل الأمسية. كذلك شهدت التظاهرة إقامة الأيام السينمائية، وعرض عدد من الأفلام على غرار فيلم "العاصفة" للمخرج خالد يوسف والذي تؤدي بطولته يسرا وهاني سلامة. كما التفتت التظاهرة لنمر السينما العربية الراحل أحمد زكي من خلال عرض فيلم "أرض الخوف" للمخرج داود عبد السيد، ين نجد المرحوم رفقة حمدي غيث وعبد الرحمن أبو زهرة في البطولة. واستمتع عشاق الفن السابع المصري بعروض أخرى لأفلام "الإرهاب والكباب" لشريف عرفة وبطولة عادل إمام و"أنت عمري" لخالد يوسف وبطولة هاني سلامة ومنة شلبي، فضلاً عن "مواطن مخبر حرامي" لداوود عبد السيد، بطولة هند صبري وخالد أبو النجا و"سهر الليالي" لهاني خليفة، بطولة حنان ترك، كما نجد ذات الممثلة في فيلم "زواج بقرار جمهوري" لخالد يوسف، بطولة رفقة هاني رمزي وحسن حسني، و"عايز حقي" لأحمد جلال، بطولة هند صبري "وصعيدي في الجامعة الأميركية" لسعيد أحمد بطولة منى زكي، و"سحر العيون" لفخر الدين نجيد، بطولة حسن حسني وسامي العدل. واختتمت الأيام السينمائية بعرض فيلمي "مافيا" لشريف عرفة و"همام في أمستردام" لخالد أحمد. مع الإحاطة قد صفق الحضور لصورة الفنان المصري الراحل أحمد زكي، وبنفس النمط لصورة العقاد وهي تهبط من سماء المسرح، والذي تسلمت عقيلته درع التكريم. وكرم المهرجان النجم العربي اللامع في السينما العالمية، ومنتجيين عرب عالميين. ولم تهمل الفعاليات الناحيةالأدبية، إذ برمجت عدة أمسيات شعرية بالمكتبة الوطنية، يحييها كل من محمد لطفي حسن جبيل، إضافة الى أمسية أخرى مشتركة بين شعراء مصريين وجزائريين. وكما، حضر الفنان نور الشريف بمسرحيته الأخيرة "الأميرة والصعلوك" في ثلاثة عروض بالمسرح الوطني محيي الدين باشطارزي ودار الثقافة هواري بومدين بسطيف، والى جانب الى ذلك، يحتضن قصر الثقافة معرضاً للفنون التشكيلية. في اتجاه آخر، احتضنت ا لجزائر لأول مرة مهرجان السينما الأوروبية لمدة عشرة أيام من 18 كانون الثاني، عرض فيه 12 فيلماً طويلاً و7 أفلام قصيرة، و7 أفلام أيضاً خاصة بالجمهور الصغير، وتم كشف أعمالاً ضخمة رائعة المخرج الإسباني الكبير "أليخندرو أمينابار" التي تحمل عنوان "مار أدينانترو" والتي تحصل عنها على أوسكار أحسن فيلم أجنبي لسنة 2005 وجائزة أحسن فيلم في مسابقة الأواردز للأفلام الأوروبية، وفيلم "كاترينا تذهب ا لى المدينة" للمخرج الإيطالي باولو فيزري. وفيلم المخرج الصربي الشهير إيمير كوستوريكا الذي يحمل عنوان "الحياة معجزة" والذي تحصل على جوائز التربية الوطنية في مهرجان كان لسنة 2004 وأحسن فيلم أوروبي وتكريم خاص في مهرجان القاهرة الدولي، وفيلم المخرج الفرنسي توني غالتيف الذي يحمل عنوان "المنفى" والمتحصل على جائزة الإخراج في دورة 2004 لمهرجان كان، والفيلم الفرنسي "نوال سعيد" للمخرج كريستيان كاريون المرشح هذه السنة لنيل جائزتي الأوسكار وسعفة "كان" الذهبية. ولم تقتصر مشاهدات الجمهور الجزائري على أفلام الدول الأوروبية ذات التقاليد الطويلة في المجال، ولكنه أمكن له أيضاً من اكتشاف السينما الدانماركية عبر فيلم "سترينغ" للمخرج أوندرس رونوف كلارلوند، والسينما البلجيكية عبر فيلم "زوجة جيل" للمخرج فريدريك فونتاين والمقتبس من الرواية الشهيرة التي تحمل نفس العنوان للكاتبة مادلين بوردوكس، والسينما اليونانية من خلال فيلم "على دروب الحياة" للمخرج بونتاليس فولغاريس، والسينما الأنجلو ألمانية عبر فيلم "ياسمين" للمخرج كينيث غلينيان، والسينما البرتغغالية من خلال فيلم المخرج فيرناندو لوبيز الحامل لعنوان "الدلفين". فأيام أيام المهرجان العشرة كللت بعرض مجموعة من الأفلام القصيرة كفيلم "الصخرة" للمخرج المغربي فوزي بن سعيد، وفيلم "ابنة العم" للمخرج الجزائري لياس سالم. ومجموعة من الأفلام الموجهة للأطفال كـ السويدي "في البداي كان على شيء أسود"، والنرويجي "فلوريان ومارينا"، والفنلندي "كنز مول". للإشارة، فإن المهرجان الأول للفيلم الأوروبي يأتي ضمن برنامج ثقافي مكثف سطره ا لاتحاد الأوروبية للجزائر ومنه تأتي مبادرات من قبيل مهرجاني الثقافتين الإيطالية والأوروبية ومهرجان السينما الفرنسية. وفي هذا السياق، منحت الكاتبة السينمائية الجزائرية آسيا جبار يوم 19 من هذا الشهر على الجائزة الدولية "غرينزان كافور" للأدب بمدينة توران (إيطاليا) بمناسبةالاحتفال بالدورة لـ 225 لهذه الجائزة التي تنظمها مؤسسة غريزنزان كافور تحت رعاية منطقة بيمون ومدينة توران، والتي اختيرت في حزيران الماضي عضوا في الأكاديمية الفرنسية، ونالت العديد من الجوائز الدولية منها الجائزة الأدبية عام 2000 بمدينة فرانكفورت الألمانية والمرشحة لنيل جائز نويل. المستقبل اللبنانية في 27 يناير 2006
السينما في زمن العولمة صدر العدد الجديد (82) من مجلة "فكر وفن" نصف السنوية التي يصدرها معهد غوته الألماني بثلاث لغات: العربية والفارسية والإنكليزية. فتحت عنوان: "السينما: لغة العالم" يتناول ملف العدد الفيلم في زمن العولمة. وكما هو معروف فإن السينما تبقى، من بين كل الأشكال الفنية والتعبيرات الثقافية، الأكثر وصولاً الى المتلقي بغض النظر عن ثقافته أو أصوله القومية. وقد أثبت نجاح الأفلام الإيرانية، وكذلك الأفلام التايوانية والصينية في الغرب، صحة هذه المقولة. كما أن هناك نجاحات حققتها بعض الأفلام في مناطق أخرى من العالم من دون أن تتأثر بما يحدث في الغرب أو تأخذ مصداقيتها من السوق الغربية. وخير مثال على ذلك الفيلم المصري، الذي، وكما تبرهن على ذلك مقالة الصحافية الألمانية المقيمة في القاهرة كريستينا بيرغمان، يعد من أكثر الأفلام نجاحاً في العالم العربي. والأمر نفسه ينطبق على الفيلم الهندي كما أن السينما الأفغانية أخذت طريقها الى الانتشار أخيراً وأخذت تنال الاعتراف بها شيئاً فشيئاً. ولا بد هنا من القول أيضاً أن تطوراً كبيراً حصل في السينما الألمانية، في السنوات القليلة الماضية، يذكر بعهدها الذهبي في السبعينات على يد المخرج المعروف راينر فيرنر فاسبيندر. فقد لقيت الأفلام الألمانية الحديثة صدى عالمياً كبيراً كالفيلم الساخر "وداعاً لينين"، الذي يتناول الصعوبات التي واجهها الألمان الشرقيون في التأقلم مع إعادة توحيد ألمانيا، أو فيلم "السقوط" الذي يرصد الأيام الأخيرة لهتلر. كما أن جانباً جديداً في السينما الألمانية أخذ يفرض نفسه بوضوح في ألمانيا والسوق العالمية على السواء، أي الأفلام التي يخرجها أبناء المهاجرين، خصوصاً من الجالية التركية. هذه الأفلام التي تعد من أفضل الأفلام الألمانية وتحصل على جوائز في مهرجانات مرموقة ليس آخرها مهرجان برلين السينمائي "البرليناله". وهذا الجانب يعد حقلاً مهماً لمجلة ثقافية كـ"فكر وفن" تسعى الى الحوار والتبادل بين الثقافات. لذلك قمنا بترجمة مقال لأمين فارزانفار الذي يعد من أفضل النقاد السينمائيين في ألمانيا المتابعين لهذه الأفلام كما قمنا بنشر حوار أجراه مع المخرج الألماني من أصل تركي فاتح أكين الذي نال فيلمه جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين. ويتضمن العدد الجديد، بالإضافة الى ملف السينما، دراسة مطولة عن الفيزيائي أينشتاين، بمناسبة مرور مئة سنة على اكتشاف النظرية النسبية، تتطرق الى جوانب غير معروفة في حياة هذا العبقري. ويختم العدد بمقالات قصيرة عن أهم النشاطات الثقافية والكتب الصادرة حديثاً. ويمكن لأي قارئ أن يطلب العدد الجديد من "فكر وفن" مجاناً، أو يشترك فيها، عبر الكتابة مباشرة على العنوان الإلكتروني fikwafann@aol.com أو عن طريق الموقع على شبكة الإنترنت www.goethe.de/fikrun، كما يمكن الحصول على المجلة من معاهد غوته مباشرة. المستقبل اللبنانية في 27 يناير 2006 |
جنود يبحثون عن حرب ليخوضوها "كل حرب حرب مختلفة.. كل حرب هي نفسها." ريما المسمار غالباً ما نتناول افلام الحروب من منظارين: تمجيدها الحرب والبطولة او نبذها اياهما. افلام لا تحصى تنتمي الى الفئة الاولى "التمجيدية" وتلك، اي الافلام، غالباً ما عكست العلاقة بين "واشنطن" وهو ليوود او بين السياسة والسينما بمعنى اشمل. نذكر من تلك الافلام التي حفل بها تاريخ هوليوود سلسلة فرانك كابرا Why We Fight، Command (1955) وA Gathering of Eagles (1963) الى Pearl Harbor وWindtalkers وBlack Hawk Down من الأمثلة المعاصرة. في المعسكر الآخر "النابذ" للحرب، يتصدر Apocalypse Now لفرانسيس فورد كوبولا وينضم اليه Full Metal Jacket وMash وPlatoon وThin Red Line... وتلك افلام ركزت على بشاعة الحرب وحيوانيتها وتداعياتها القاسية على النفس البشرية. شريط سام منديس الجديد Jarhead لا ينتمي الى اي من تينك الفئتين. انه لا يمجد ولا ينبذ. لا يتحدث عن ابطال ولا عن ابطال مضادين (anti-hero). ولكن اختياره لحرب الخليج الاولى او لما عُرف بـ "عاصفة الصحراء" كفيل بأن يمهد الارض لسخرية داخلية مردها حرب قصيرة بدون خسائر تُذكر ولكن مع ذلك فإن تأثيراتها كبرى. بهذا المعنى يمتلك Jarhead خصوصيته وأصليته وكليشيهاته ايضاً التي تبدو موظفة تماماً لا عابرة من دون ادراك صاحب العمل. قد يكون اول ما يلفت الانتباه في الفيلم انه اول فيلم يصور حرباً من دون ان تطلق إحدى شخصياته الرئيسية رصاصة واحدة او يقتل أحدها على يد العدو. ربما في ذلك اشارة الى الخسائر البشرية القليلة التي تكبدها الجيش الاميركي في عملية عاصفة الصحراء(اقل من 500 جندي بحسب الاحصاءات من بينهم 147 فقط قتلوا في المعركة). هذه الصورة وحدها كفيلة بأن ترسم علامات استفهام كثيرة حول ما بدأ به الجيش الاميركي في عاصفة الصحراء وما وصل اليه في حربه الطاحنة والمستمرة على العراق. بمعنى آخر، هناك صورة من خارج الفيلم تتشكل في ذهن المتفرج بين حربي الخليج الاولى والثانية. انها صورة تخدم وجهتي النظر المضادتين: كيف يمكن تضخيم حرب الى مستوى البطولة في الحرب الاولى في مقابل القدرة على التعتيم على تجاوزات كبرى في الحرب الثانية؟ أليس مدهشاً موقف ذلك الجندي الاميركي مخيب الظن في الحرب الاولى بسبب انتظاره الطويل وانتهاء الحرب سريعاً والجندى الآخر في الحرب الثانية مخيّب الظن ايضاً لأنها لم تكن حرباً سريعة ومحققة للنصر كما الاولى؟ كلا الجنديين ربما يدركان بعد بعض الوقت ان الحرب في كافة اشكالها ليست سوى خدعة... الموقف في اختصار، يروي الفيلم وقائع عملية عاصفة الصحراء عام 1990 من وجهة نظر الجندي في المارينز "انتوني سووفورد" (جايك غيلينهال). لا نفهم تماماً اسباب التحاقه بقوات البحرية سوى ما يأتي على لسانه من انه "ضل طريقه الى الجامعة". وفي حوار تلفزيوني، يسر الى المذيعة بأن توقيعه العقد كان حماقة وبأن خائف من الحرب. ولكن شريط منديس هو شريط التفاصيل الصغرى التي تتكشف شيئاً فشيئاً لترسم صورة الواقع بالنسبة الى جندي شارك في تلك الحرب. ابداً لا يسائل "سووفورد" علناً أخلاقية الحرب او جدواها او دوره فيها. انه شاب ومتحمس ومن السهل سلب عقله بترداد عبارات من نوع "هذه البندقية لي.. انا لا اساوي شيئاً من دون بندقيتي.. وبندقيتي لا تساوي شيئاً بدوني". وفي مكان آخر، نسمعهم يرددون كالببغاوات "سنركل مؤخرة هؤلاء العراقيين" بحماسة تشابه تلك التي يشاهدونها في الافلام الدعائية. ان في تلك المشاهد لمن يقرأ خلفها اشارة واضحة الى أحادية فكرة البطولة والعدالة والديمقراطية في أذهان اولئك الجنود المأخوذين بسلطة المارينز على الارواح البشرية. نحمّل الفيلم ما لا يريد حمله اذا قلنا انه مسيّس او منحاز لوجهة نظر ما. اي انه لا يدخل في نقاش سياسي ولا يعلق على عدالة تلك الحرب. ولعل الاشارة السياسية الوحيدة المباشرة هي قول سووفورد قبيل النهاية "مازلنا في الصحراء" في اشارة الى ان الصحراء سكنت روحه او بمعنى مباشر في اشارة الى الاحتلال الاميركي الحالي للعراق. فجل ما يحاول المخرج الامساك به هو إحساس "الآن وهنا" اي زمن الحرب الاولى ومكانها، الصحراء. ربما لذلك لم ينل اعجاب الصحافة الاميركية التي تنتظر من افلام الحروب ان تكون سياسية بمعنى اعلانها موقفاً ما، مع او ضد. لا يخلو Jarhead من السياسة ولكنها ليست سياسة الموقف المباشر. الفيلم يعلن موقفه في تفاصيل صغرى، يستميت للامساك بها ولنقل ماهية الحياة في ذلك الجحيم حيث انتظار الحرب اسوأ من الحرب نفسها. بهذا المعنى، يصور الفيلم "اللاحدث". انه سلسلة من "اللاأحداث" او الأحداث المفترضة: الحرب التي لا تأتي، القتل الذي لا يقع، البطولة التي لا تتحقق على صعيد الافراد، الدوريات في صحراء مقفرة... معظم افلام الحرب التقليدية تتمحور حول مشاهد الحركة والتوتر والرعب والعنف. اما Jarhead فيركز على الضجر وخيبة الامل. جل ما يقتله هؤلاء الجنود البحريين (المارينز) هو الوقت. انهم كتيبة من الجنود تبحث عن الحرب.. ولكن ما ينقذ الفيلم من الوقوع في فخ التسطيح او المبالغة سخريته في اماكن كثيرة وفكاهته في بعضها. صوت "سووفورد" هو مزيج من التعاطف والسخرية. وهو إذ يروي تجربته كأنه يقرأ يومياته وبإحساسه في تلك اللحظة. السيناريو المقتبس عن مذكرات "انتوني سووفورد" الجندي في البحرية الاميركية ليس تحليلاً بقدر ما هو انطباعي، ينقل انفعالات اللحظة وكذا يفعل صوت غيلينهال المرافق للصورة. فعندما يصف يوميات الجنود بعد مرور بضعة اشهر على تمركزهم في الصحراء "لحماية نفط اصدقائهم" كما يشرح لهم قائدهم لدى وصولهم، يعدد سلسلة النشاطات المضادة للوحدة: شرب الماء مقاومة للجفاف، البكاء، الاستمناء، مناقشة الفرق بين نساء كوبا وبورتو ريكو، الاستمناء وشرب الماء ثانية لمقاومة الجفاف... في بداية الفيلم يظهر سووفورد قارئاً هاوياً لألبير كامو. ليس صدفة انه يقرأ له "الغريب" حيث يتجلى الشبه بين الراوي في الاخيرة وبين سووفورد في انهما يعرفان ما يحدث ولكن لا يدركان لماذا او كيف يؤثر عليهما. سواء اكان الهدف من الابتعاد من الاسنتاجات السياسية الولاء للكتاب الاصل او مغازلة الجمهور العريض، فإن Jarhead يفعل حسناً بابتعاده من حكاية "جحيم الحرب" المطروقة في افلام كثيرة بعضها يصعب منافسته (apocalypse now وThin Red Line مثلاً). ولكنه يفعل ما هو أذكى وما ينم عن انه ليس مسطحاً عندما يزج مشاهد من افلام الحروب الشهيرة ليقول كيف أسهمت في بناء عقلية الجنود وكيف فهموا رسالتها على طريقتهم. لا يهم اذاً ان يكون الفيلم تمجيدياً او نابذاً للحرب مادام الجندي معداً سلفاً للابتهاج بكل حركة او هجوم على غرار ما يفعل مشاهد افلام البورنو المعد سلفاً لعملية الاستثارة. على هذا النحو، يهيص الجنود لمشاهد من Apocalypse Now على الرغم من موقف الأخير الواضح من الحرب. في مشهد آخر، يجلس افراد الكتيبة لمشاهدة فيلم حربي آخر هو The Deer Hunter لينقلب بعد دقائق شريط بورنو لزوجة احد الجنود... لعل هذه المشاهد التي تسكن مخيلات الجنود من عنف الحروب السابقة هي ايضاً السبب في خيبة الامل التي يُصابون بها جراء مكوثهم الطويل في الصحراء. حتى عندما يواجهون عشرات الجثث المتفحمة على ما سمي بـ"طريق الموت" فإنها لا تشبه تلك التي تسكن مخيلاتهم وليسوا هم من فعل بها ما حل بها. سوريالية في مقابل واقعية "الآن هنا" التي يطرح بها موضوعه وشخصياته، ثمة قدر كبير من السوريالية المتجسدة في مشاهد عادية احياناً وأخرى مركبة. فعندما يجبر قائد الكتيبة (جايمي فوكس) جنوده على ارتداء الاقنعة الواقية من الغازات السامة امام فريق تلفزيوني بينما هم يلعبون كرة اليد، فإن المشهد يستحيل لوحة سوريالية بامتياز: كتيبة جاهزة للهجوم ولكن لا عدو ولا حرب. في مكان آخر، تنقلب صورة الفيلم لتحتضن السوريالية جزءاً من تركيبتها. مع احتراق ابار النفط، تستحيل الرمال سوداء والسماء صفراء ومن ضبابها يخرج حصان اسود مغطى بالنفط يئن كأنه أُهين على نحو ما. صورة مؤثرة على الرغم من انها تتجاور مع صور الجثث المتفحمة لتطغى عليها تأثيراً ومعنىً. هل يمكن تزويل المشهد على نحو الربط بين ما يرمز اليه الحصان في الثقافة العربية من كبرياء وشموخ وبين ما آل اليه من قذارة وسط التكالب على النفط؟ ربما ولكنها في كل الاحوال صورة تنبض بالمعنى من دون اية اضافة كلامية. اذا كانت صورة الفيلم (مدير التصوير روجر ديكن) برمتها مميزة بملمسها (texture) الموحي بالبهتان فإنها تزداد تميزاً في مشاهد الآبار المحترقة التي تخلف غمامة لا تنقشع وتحول رمال الصحراء الناعمة سوداء لزجة. تتبدى السوريالية على صعيد آخر عندما يتحول المشهد الاوحد للحرب انهياراً نفسياً للجندي. فعندما يوشك سووفورد على اطلاق رصاصته الاولى في اتجاه ضابط عراقي في برج المراقبة داخل المطار، يمنعه ضابط في قوات الطيران لئلا يلفت انتباهه الى العملية الجوية المقبلة. عندها ينهار شريك سووفورد (بيتر سارسغارد) من هول الضغط النفسي للانتظار ومن هول انتظار لحظة القتل التي تقدمها افلام الحروب المعششة في رؤوسهم على انها مفصل في حياة المحارب. ولكن حيوات سووفورد ورفاقه تتغير على الرغم من انهم لم يطلقوا رصاصة واحدة الا ابتهاجاً ولم يقتلوا أحداً. هل التغيير هو حصيلة ذلك الانتظار والتفكر في ما تعنيه الحرب؟ قبيل نهاية الفيلم، يجتمع في الباص المارينز العائدون من عاصفة الصحراء "منتصرين" وجندى حارب في فيتنام. انه لمن المثير ان نكتشف ان الحرب غيرت حياتهم كما غيرت حياته مع فارق التجربة وهولها بين فيتنام وحرب الخليج الاولى. لعل مخرج الفيلم هو ايضاً يشبه راوي كامو الذي يتحسس حدوث الاشياء ولكنه لا يملك الادراك الكامل لتأثيراتها البعيدة. لذلك يكتفي منديس بجمع الأضداد والتناقضات بالصورة احياناً وبالمعنى في احيانٍ اخرى... المستقبل اللبنانية في 27 يناير 2006 |
إنطلاق الدورة 35 لمهرجان روتردام السينمائي الدولي منصة عالمية للسينما المستقلة والتجديدية |