اختلف فيلم “المحادثة” عن فيلمي فرنسيس فورد كوبولا السابق واللاحق وهما “العرّاب” و”العرّاب الجزء الثاني”. وقوعه بينهما كان دلالة على القوّة التي أخذ كوبولا يتمتع بها. لكن اختلافه عنهما له دلالة أخرى. كوبولا اختار موضوعا ينتمي الى حس اجتماعي ذاتي. قضية ووترجيت التي أحاط بها فيلمان سابقان هما “كل رجال الرئيس” لألان ج. باكولا و”منظر مواز” (ألان ج. باكولا-) أفشت عن وجود حكومات داخل حكومات وأجهزة مخابرات وليدة أجهزة أخرى. “المحادثة” كان عبارة عن قصة خيالية من حيث إنها بنات أفكار كاتب السيناريو لكنها كانت ايضا من بنات الواقع كونها استندت الى ما شاع من وجود جهاز يعمل فوق القانون كاد يبقى مستورا لولا أشرطة ووترجيت التي هوت بالرئيس نيكسون. لكن “المحادثة” يبقى عملا ذاتيا من مخرج استاء من فكرة وجود قوّة داخل قوّة، دون أن يعني ذلك أن “العرّاب”، بجزأيه حينذاك ثم والى حد بجزئه الثالث في مطلع التسعينات لم يكن ذاتيا. سينما كوبولا، لمن رآها جميعا، ذاتية بأكملها لأن المخرج اعتاد إخراج الأفلام التي تعني له شيئا. و”المحادثة” عنى له الكثير كذلك “العرّاب” بصرف النظر عن حجم كل منهما الإنتاجي واختلافهما في النواحي الأخرى كاملة. يقدم “المحادثة” حالة خبير تجسس بالتنصت اسمه هاري كول (جين هاكمان) الذي يعيش حياة وحيدة لا تخلو من كبت المشاعر والعواطف. يهوى عزف الساكسفون ويحيط نفسه بسرية كبيرة تدفعه لأن يبقى حذرا وبعيد التناول. وهو شريك في جريمة إنسانية أولا، كونه يسخر مهارته لمصلحة وكالة تجسس تعمل لمصلحة أجهزة خفية او أشخاص غامضين. ثم يصبح شريكا في جريمة أخرى حيث يطلب منه رئيس الوكالة (روبرت دوفال) التجسس على رجل وامرأة بحكم أن المرأة زوجته التي تخونه مع ذلك الرجل. هذا قبل أن تقع جريمة قتل يدرك هاري معها بأن تجسسه كان الدليل الذي استند اليه القاتل (رئيس الوكالة) للإيعاز بقتل زوجته. هذا الإدراك يدفع هاري لحالة من الانطواء يزيدها وقعا شعوره بالذنب وسايكولوجيته المعقدة التي تدفعه للانجراف صوب الهاوية. المشهد الأخير من الفيلم يعكس حالة رجل يدعو للرثاء. لقد أخذ الشك يدهمه بقوّة ما يحوّله الى مهووس. يدخل شقته ويمزق جدرانها ويشوه بلاطها ويفرغ محتوياتها واثقا من أن أحدا يتنصت عليه بدوره. حين لا يجد ما يثبت شكه يجلس وفي فمه الساكسفون ويبدأ بالعزف. نوع من الاغتراب بعيدا عن الذات. هربا الى ملاذ جديد. مثل شخصية د. هاكمان (روبين ويليامز) في فيلم عمر نعيم الجديد “الطبعة الأخيرة”، يعتاش بطل “المحادثة” من خراب بيوت الآخرين. في فيلم عمر نعيم عن طريق تزوير تاريخ الشخص ما يضر بآخرين، وفي “المحادثة” عن طريق الاستماع الى ما يُفترض أن يكون سرا بين المتحدثين. شخصية هاري مبنية بدراية أفضل. الى جانب مهارته الكبيرة في التنصت، هناك مهارة كبيرة في المحافظة على حياته بعيدا عن الأنظار. ومنوال حياته هو خط دفاع ضد الآخرين فهو لا يثق بأحد ويخشى من ضعفه أمامهم لذلك يحمي عزلته ويخشى انهيارها (مشهد رفضه التجاوب مع امرأة رغبت به خلال حفلة راقصة صغيرة). ويخال له أن أفضل طريقة لحماية نفسه هو العيش من دون اي تواصل، فيزيائي او ميتافيزيائي، مع الآخرين (مثال الهاتف الذي يخبؤه في درجه مدعيا أن لا هاتف لديه). لاحقا حين يزور هاري امرأته يتصرّف بغرابة. بعدما تأكد من أنها لا تخونه، يختار أن يتصرّف كما لو أنه يتخيل خيانتها له او كما لو كان يريدها أن تخونه لكي يندمج أكثر في مهمته التجسسية. لكن حقيقة أنه يعلم أنها لا تخونه يجعل المشاهد محتارا في تصرّفه ذاك. التفسير الوحيد لهذا التصرّف هو أنه من الهوس بمهنته وإتقانه لها بحيث بات يريد أن يتجسس حتى على نفسه. فيلم فرنسيس فورد كوبولا، الذي بات من الممكن ايجاده على الأسطوانات المدمجة، يتحدث باقتصاد عن مواضيع نفسية فردية كبيرة، كما عن مواضيع اجتماعية أكبر. يترك في البال شعورا بأن الحياة أصبحت سلسلة من المواقف الغرائبية وأن الأخ الأكبر يراقبك من دون أن تدري. انه نموذج لسينما “البرانويا” لكن المشكلة فيه أن مثل هاري موجود فعلا، ومثل العين التي ترقب سكناته موجودة ايضا. الخليج الإماراتية في 29 فبراير 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
"المحادثة" رجل يصعد إلى الهاوية محمد رضا |
|