معرفتنا بسيئات الغرب لا تكفي لجعلنا أفضل منه (أُنسي الحـاج "خواتم") اليهود شعب الله المختار، والعرب خير امة اخرجت للناس 1 من يتفحص الاعلام العربي بكل اشكاله، ويقرأ الأدبيات السياسية العربية، اليمينية منها أو اليسارية، ويتابع التحليلات الفكرية ل(نجوم) الثقافة والفكر العربي، سواء في المنتديات الثقافية او زواياهم اليومية او الاسبوعية في الصحف والمجلات أو في لقائاتهم التلفزيونية، وينظر الى المزاج الشعبي العام، يخلص الى نتيجة مفادها أننا نعيش في مرحلة انحطاط ثقافي هائل، يحلو للبعض بان يسميها صحوة ثقافية وعودة للجذور. فهذا الركام من التلفيق السياسي، والترقيع الفكري، والتسطيح في التحليل، والهذيانات اللغوية، والخطب الحماسية، واستغفال القاريء او المشاهد، واطلاق التهم بالعمالة جزافا، واستسهال الاحكام ،واستعجال النتائج، وتشويه الآخر بتعمد او عن جهل به، هي الصورة الابرز في المشهد الاجتماعي والسياسي والفكري في عالمنا العربي اليوم. الثقافة العربية اليوم غارقة في ذاتها، تقافة نرجسية، عنصرية، تعتمد على تفسير مسطح للنص المقدس،ثقافة تدعي بانها ثقافة خير امة اخرجت للناس،ثقافة لا تبتعد كثيرا عن الثقافة الأخرى المعادية لها، فهي لا تبتعد عن الطروحات الصهيونية التي تعتمد على النص العبري، المقدس ايضا، في ان اليهود هم شعب الله المختار، وان العرب هم خير امة أخرجت للناس. ثقافة ممسوسة بهاجس المؤامرة، فالكل يتآمر على العرب، اوروبا واميركا، والسوفيت سابقا، والفرس، والبربر، وقبائل أفريقيا، والاكراد، دعاة حقوق الانسان والمجتمع المدني، دعاة الدفاع عن حقوق المرأة والأقليات الدينية، بل كل من يدعو للاحتكام الى العقل. ثقافة مصابة بعمى الألوان، فهي لا ترى سوى الأبيض والأسود، بل انها لا ترى سوى الأسود، فليلنا ليل فيه كل البقرات سوداوات. ثقافة لغوية، لا موقع للعلم، والبحث العلمي فيها، ثقافة سياسية تافهة، لا تنظر ابعد من انفها، ثقافة مريضة، صماء، لا تسمع من يحاورها، بل لا تدرك سوى ما تقوله هي، ثقافة مصابة بحمى العداء لأميركا، رغم ان جميع اموال قادتها محفوظة في أميركا، بل وتوظف في أميركا، بل وان قادتها يتوسلون رضى اميركا، بل واذا مرض أحد من وزرائها او زعمائها، او احد من أبنائهم فليس هناك سوى أميركا، بل ان طغاتها الذين خلعتهم أميركا لا يحلمون سوى بمحاكمة تقوم بها أميركا، فهي أرحم بهم من أبناء جلدتهم، ورغم ذلك نشتم أميركا ليل نهار.. وكأنها الشيطان الذي يرجمه الحجيج بالجمرات. ثقافة تدعي ان أميركا تسعى لتدميرها، وتدمير تراثها، وتقاليدها، واصالتها، بينما لا تعترف جامعاتها الا بالشهادات الصادرة من أميركا، والموقعة من أميركا. ثقافة تحافظ على لباسها، بينما معظم ادوات الزينة للمرأة العربية تأتي من أميركا، اقلامنا، طاولاتنا، وسياراتنا، دواءونا ، اثاث غرف نومنا ، بل وسلاحنا الذي نشتريه لنحارب به أميركا يأتي من أميركا. حلمنا أميركا، وكابوسنا أميركا. حياتنا أميركا، وموتنا أميركا. ورغم ذلك فاميركا ليست هي أميركا التي نهذي بها ليل نهار. فالثقافة العربية تجهل أميركا، وتجهل الثقافة الاميركية، فهي لا تعرف من أميركا سوى أفلام الكابوي، التي هي رغم ذلك جزء من تاريخ اميركا. وبالمناسبة، ان سينمانا تحلم بان تكون مثل سينما اميركا. فهل بعد هذا نحاول ان نعرف أميركا كما هي حقا؟ 2 سبيلبيرغ.. والحلم الأميركي في فيلم سيتفن سبيلبيرغ ( إنقاذ الجندي ريان) ثمة شخصيتان مهمتان، ومتناقضتان، لكنهما تكملان الواحدة الأخرى، انهما شخصية (الكابتن ميللر) الذي يقود مجموعة إنقاذ الجندي ( ريان) وشخصية (العريف أوبام) مترجم المجموعة الذي يجيد الفرنسية والألمانية. الكابتن ميللرن المثقف، مدرس اللغة الانكليزية، الغامض، الصامت، الرقيق، الانساني، الحالم بالعودة الى زوجته، محتفظا بذكراها وهي تنسق زهور المنزل، والعريف أوبام، المثقف، المرتبكن المتردد، الهلع، والطهراني. ورغم انهما يخوضان حربا بشعة، وترافقا في مهمة لاسبوع واحد فقط، إلا انهما لم يتواجها في شكل جاد إلا في مشهد واحد فقط، حينما تأخذ فرقة الانقاذ وقتا للراحة في رحاب كنيسة مهدمة. ولا أدري ان كان هذا الاختيار المكاني مقصودا لتقديم هذا المشهد ام لا، فهو من أصفى الأماكن في الفيلم وأكثرها هدوءا، حتى بدا الحوار فيه وكأنه إعتراف تطهيري من قبل الجميع. وما يهمني هنا هو ذاك الفاصل من حوارات هذا المشهد، حينما يقترب العريف أوبام من الكابتن ميللر ليحدثه عن الطبيعة البشرية، فيقاطعه الكابتن ميللر موضحا ان ما يقوله له يتطابق مع رؤية (إمرسون) للأشياء، ثم يواصل الكابتن ميللر الاستشهاد بنص لإمرسون مما يصيب العريف أوبام بالارتباك والدهشة فيسأله متعجبا: هـل تعرف إمرسـون؟، وهذا ما عمق من غموض شخصية الكابتن أمام أعضاء فريقه. رالف فالدف أمرسـون ( 1803 - 1882 ) شاعر، وكاتب، ومفكر رومانسي، وواحد من أهم المفكرين الأميركيين الذين ساهموا في صوغ ( العقل ) الأميركي. ومن هنا فان توقف المخرج ستيفن سبيلبيرغ عنده من خلال لحظات حاسمة في التاريخ الشخصي لأبطاله ليس أمرا عابرا ابدا. واعتقد ان هذا الحوار في هذا المشهد القصير الذي جرى بين هاتين الشخصيتين هو من المفاتيح المهمة لفهم الفيلم ولفهم عالم سبيلبيرغ الفني ايضا. أمرسون هو واحد من رواد المرحلة الثانية في تطور الفكر الفلسفي والاجتماعي والسياسي الاميركي، وهو ما يسمى ب( العصر الترنسندنتالي) ، وهو مصطلح مأخوذ من الفيلسوف الالماني كانت، والذي يمتد منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى العقد الأخير منهز وإذا كان (عصر التنوير) في القرن الثامن عشر هو المرحلة الأولى في تشكيل العقل الأميركي، حيث تألق شعار الحرية، الإخاء، المساواة، والذي وجد تجسيدا له في سلوك وطروحات رؤساء أميركا الأوائل امثال بنيامين فرانكلين وتوماس جيفرسون،الذي صاغ وثيقة الاستقلال، فان العصر الذي تلا العصر الذي عاشه أمرسون سمي بالعصر الذهبي في تطور الفكر الفلسفي الاميركي، والذي ابتدأ منذ العام 1890 وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى حيث انتصرت (البرغماتية) الأميركية. هذا الانتصارالذي أقلق الصورة الرومانسية عن أرض الحريات. ستيفن سبيلبيرغ، منذ افلامه : اللون القرمزي، أمستاد، وحتى قائمة شيلندر، واخيرا انقاذ الجندي ريان، يؤكد انه يقف على الضد من (العقل) الأميركي الدعائي_ البرغماتي، وانه ينحاز بلا تكلف أو إدعاء، وبدون ضجة وافتعال، الى هؤلاء المفكرين الاميركيين، الرومانسيين، الاخلاقيين، الذين مجدوا الحرية الفردية المطلقة بالمعنى الرومانسي، وركزوا على الطبيعة باعتبارها رمز الروح، وعلى التأمل والوجد والحدس كأفضل سبل للنفاذ الى جوهر الأشياء، كما اكدوا ان حرية الارادة هي أساس المسؤولية الأخلاقية. في فيلم (أمست) يتوقف سبيلبيرغ عند أحداث جرت في بداية القرن التاسع عشر، وهي الفترة التي سبقت الحرب الأهلية والغاء العبودية، حيث انتشرت طروحات أمرسـون وغيره من المفكرين امثال: ثورو، تيودور باركر وآخرين، منتصرين لحرية الانسان ولشعارات الثورة الفرنسية، ممجدين الارادة الفردية حيث ( المسؤولية الأخلاقية للفرد تكمن في الاختيار وليس في علة الاختيار) كما أكد جوناثان إدواردز. وبعيدا عن ملابسات الصراع الفكري في القرن التاسع عشر، ورغم الانتقادات الحادة التي تعرض لها أمرسون ومن شابهه في توجهاته، بأنهم حاولوا ان يحلقوا بالفكر بعيدا عن الواقع، فأن جوهر ( الحـلم الأميركي ) مرتبط بالمرحلتين الأولى والثانية من تطور الفـكر الفلسفي، الاجتماعي، السياسي الأميركي. حاول سبيلبيرغ ان يعيد طرح الأسئلة حول الحرية،والإخاء الانساني، والمساواة، نابذا أطاريح البرغماتية وفلسفتها الوضعية والسلوكية التي كانت أفكار بورهورس سكيز واجهتها الواضحة، حيث الحرية هراء وعبء نرزح تحت وطأته ولا طاقة لنا به، وحيث التفكير جناية، والحلم سذاجة، والناس قطيع. إن سبيلبيرغ، هو أحد أبناء الجيل الذي واجه الحرب الفيتنامية، الجيل الذي اعتبر الانسان أثمن قيمة، الجيل الذي أحيا مثُل الحب والعدالة. ولم يكن هو وحده في هذا الميدان ابدا، لكنه الى جانب كوبريك، واوليفر ستون، كوبولا، دي بالما، لوميت، كابرا،جاموش، سكورسيزي، بولاك، ألن، وغيرهم، هزوا نوم الواقع الاميركي ليوقظوا فيه ( الحلم ). إن المثقفين الميركيين، ومنذ بدايات القرن العشرين، ومع انتصار الروح البرغماتية، النفعية، إنتصارا حاسما، تنبهوا الى حقيقة ان أميركا بدأت تخسر (حلمها)، كما ادركوا ان ( الحلم الأميركي) و(المزاج الأميركي) و(المصير الأميركي) ليس إرثا شرعيا للبرغماتية الاميركية، رغم انها وظفتها لمنفعتها بشكل حاذق، وانما هي إرث أولئك المفكرين، والطهرانيين، الذين هاجروا من بلدانهم الأوربية خوفا من الاضطهاد والتعذيب، وجاؤوا الى الأرض الجديدة من أجل بناء عالم جديد يليق بالبشر والقيمة الانسانية. ومن هنا فان سبيلبيرغ توقف عند التاريخ الاميركي ليتأمله مليا، متوغلا في حقول صمت عنها التاريخ الاكاديمي الرسمي، أو التي إذا تحدث عنها فبصورة مفتعلة تعتمد على النظرة البرغماتية التي كانت تنظر الى أن ( أمركة العالم هو مصير وقدر الأمة ) كما اعلن تيودور روزفلت ذات مرة. السينما الاميركية ومنذ بدايتها، منذ غريفت وشابلن،كابرا، وبيكنباه، توقفت عند منعطفات التاريخ الميركي، وتناولته بالنقد والتحليل والقراءة الجريئة، فمن خلال السينما الميركية تعرفنا على (سيئاتهم) أكثر مما كان إستشرافا منا، ومن خلال أفلامهم عرفنا شعور أميركا بالنب في حرب فيتنام، ذلك الشعور المطهر والخلاقن كما اكتشفنا جراح الحلم الاميركي. واذا ما كانت السينما الاميركية قد ساهمت في (أمركة) العالم في طرق مباشرة او غير مباشرة، فان هذه السينما نفسها كانت هي السباقة في نقد السياسة الاميركية، وهي التي حرضت الناس ومنحتهم شجاعة النقد الأدبية، فالسينما الاميركية هي من اهم اهرامات الثقافة الاميركية المعاصرة، ومن هنا تحتاج السينما الاميركية الى قراءة جديدة، متأنية، بعيدة عن أي أحكام آيديولوجية مسبقة، أو اية حساسيات شكلية، أو شعارات تلفيقيةن، أو تعميمات متطرفة، وسوء نية مقصودة، فالسينما الاميركية، كأي حضور أميركي،عسكري أو إقتصادي، مطروحة للبحث كقوة مؤثرة تدخل في صوغ خبراتنا الثقافية والحياتية، وتوجيه ذائقتنا الجمالية، رغم عنا، فهل سنقدم على ذلك؟ ** لمزيد من المعلومات عن تطور الفكر الاميركي يفضل مراجعة كتاب (العقل الاميركي يفكر) للأستاذ شوقي جلال- منشورات الانتشار العربي وسيناء - 1997. موقع "إيلاف" في 29 فبراير 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
عن الإنحطاط الثقافي العربي، وأمريكا، وسبيلبيرغ د.برهان شاوي |
|