رغم جبروت تيار سينما العنف والقتل والدمار، الذي اغرق شاشات السينما في العالم، فقد ظلت الفرصة متاحة بين حين وآخر امام المشاهد ان يرى قلة من الافلام المعاكسة بحيث تعيد للانسان اهميته ومكانته على الشاشة، في افلام لا تنطلق فيها رصاصة واحدة، ولا تسيل فيها الدماء، ولا لخيال مصطنع جامح يتأسس عى العاب كمبيوترية وتقنيات تكنولوجية يتصارع داخلها اشباه من البشر، في خليط من رجال العصابات انها افلام شديدة العذوبة، تجلو الصدأ عن المشاعر الانسانية، وتعيد للحياة معانيها النبيلة المفتقدة. ان مثل هذا التيار السينمائي المغيب على شاشات العرض بحكم اطماع المنتج الشره والقائمين على توزيع الاعمال التجارية المبتذلة لم يمنع من يرون بين الحين والآخر في الكثير من سينما العالم ومن خلال سينمائيين يؤمنون بوظيفة الفن ومادته الرئيسية الانسان وان يعود اليه المزيد من لحظات الحب والأمل لمستقبل اكثر نبلا وانسانية. وفي محاولة للخوض في واحة تلك الاعمال نقع على كتاب «سينما الحب» لمؤلفه الناقد السينمائي والصحفي المصري المعروف رؤوف توفيق في طبعة جديدة صادرة عن المكتبة السينمائية/مهرجان القراءة للجميع ضمن سلسلة مكتبة الاسرة التي تصدرها الهيئة العامة للكتاب بالقاهرة. حيث يجرفنا الكاتب في خياراته الفنية التي شاهدها ابان تواجده في مهرجانات عالمية عديدة بحكم عمله في مؤسسة روز اليوسف الصحفية، ويتأمل سبعة عشر فيلما عالميا تكرس معظمها في ذاكرة السينما الى يومنا هذا كقامات رفيعة في الفن السابع وصارت كلاسيكيات شهيرة في دنيا الاطياف والاحلام. يستعرضها جميعا باسلوب راو مدهش ومحكم وملم بتفاصيلها ويبسطها امام القارىء العادي في مسعى لاثباتها بذاكرته حتى وان لم يقدر له ان يشاهدها ببلده بحكم عوامل العرض والتوزيع السائدة كل ذلك يتم باسلوب جذاب وممتع بين ثنايا مفردات الحياة اليومية لابطال تلك الافلام.. حياة ليس فيها جريمة قتل او اغتصاب او مخدرات او عنف او شذوذ لكنها بالتأكيد تحمل بعض المتاعب والمعاناة وفيها ايضا لحظات الصفاء والسعادة وفيها ما هو اهم: المشاعر الانسانية الحميمة من شوق وحنين وحب وألم وانتظار، انها باختصار حياة بسيطة كحياة مثل اولئك الملايين من الناس في شتى اركان المعمورة وكانت المفاجأة ان تقود مثل تلك الاعمال والرؤى سينمات غير مكرسة قادمة من بلدان اوروبية صغيرة كنوع من التمرد على المفهوم الهوليوودي للسينما وانتشرت مثل تلك الاعمال في بلدان اخرى من اميركا اللاتينية وشرق اسيا وخرج من الصين شباب موهوب يغزو السينما العالمية بكل قوة ويحصد الجوائز والانتباه النقدي. واخذت كثير من سينمات العالم خصوصا تلك التي تسير في ركب هوليوود ونظامها الكاسح والطاغي على اذواق المشاهدين تراجع مواقفها وتبدأ في وضع الخطط اللازمة لادراج موضوعات انسانية في قوائم اعمالها القادمة وتعيد النظر حديثا في افلام: «سقوط الحب»، «ابتسامة المونوليزا» ورغم قلة عدد هذه النوعية من الافلام بالنسبة لمجمل انتاج السينما الاميركية الا ان مؤشرات المستقبل تميل الى التوسع في تقديم الافلام الانسانية التي تخاطب العقل والمشاعر وتتوقف امام الحب. وتحليل اللحظة عند انسان هذا العصر اللاهث بين الالات والحروب في مواجهة الحب الحقيقي. واغلبية قصص الحب التي تناولتها السينما العالمية ليست مواضعيها صعبة ومعقدة بل هي قصص عادية ولكن ما يميز قصة عن اخرى هي مجموعة التفاصيل الصغيرة، والرؤى والاشارات والدلالات الفنية لدى صناعها. ثم اسلوبيتهم المدهشة والمتميزة. من هنا كانت براعة المخرج صاحب الرؤى الفكرية الذي يحلل ويتأمل ويعرف مصائر ابطاله ويعرف كيف يختار بعض تلك التفاصيل التي تخدم موضوعه ويترك للتفاصيل الاخرى ان تصنع فنيتها الخاصة وتنفرد بها. فما اكثر ما تناولته الاشكال الفنية لموضوع الحب عبر العصور ولكن الحب في قائمة افلام الكتاب السبعة عشر قادر على العطاء والتجدد والابتكار بلمساتها الشاعرية البالغة الرهافة التي يسبغها مخرجون امثال: الفرنسي كلود سويته بفيلم «اشياء للحياة»، روبرت موليغان «صيف 42»، فيلليني «اني اتذكر»، ميلوش فورمان «غراميات شقراء»، جاك كلايتون «غاتسبي العظيم»، فيتوريا دي سيكا «زهرة عباد الشمس»، كلود لولوش «الرجل الذي اتمناه»، ستانلي دونن «اثنان على الطريق»، فيسكونتي «البريء»، كين راسل «نساء عاشقات» ، ستانلي كرام «خمن من سيأتي للعشاء»، اندريه كايات «لا دخان دون نار»، سيدني بولاك «الخيط الرفيع»، ليليان كافاني «بواب الليل»، توني ريتشاردسون «مدموزيل»، ايليا كازان «تدبير الامور»، زيفيريللي «روميو وجولييت» وما هي سوى نماذج في قائمة طويلة من اعمال سعت الى اهدافها النبيلة لم يتناولها الناقد بحكم خياراته والمنطق الذي تسود فيه عمليات سوق العرض والتوزيع الذي تطفو فيه الاعمال الركيكة على السطح، بينما تقبع الاعمال القيمة في الظل. كتبت تلك المقالات سابقا في زوايا صحفية عديدة عقب حضور المؤلف/الناقد للعديد من المهرجانات السينمائية راعى فيها البساطة والوضوح وخاطب فيها جمهورا غير متخصص، آثر ان يساعده باكتشاف تلك الافلام بمضامينها الرفيعة دون ان يحصر اهتمامه بالبحث عنها بين نتاجات السينما العالمية على مدار العقود الفائتة وانما ظلت خيارات حقبة زمنية ثابتة تقع ما بين نهاية الستينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي. وهي كانت تشهد ذروة الحرب الباردة بين القطبين العالميين آنذاك، وسط عصر لاهث لا يضع في الاعتبار مشاعر الانسان واحاسيسه بقدر ما يحاسبه على معاركه الدنكشوتية وانتصاراته الصغيرة في سياق اثبات الوجود. وعلى هذا الاساس لم تكن منهجية الناقد تقديم استعراض لافلام الحب او الرومانسية في تاريخ السينما وانما كانت بغيته ان يضع المشاهد العربي والقارىء للكتاب تحديدا امام الرؤى الفكرية والفنية وهي تلتقط مفهوم الحب من بين خيوط كثيرة متشابكة تموج في حياة البشر. وما تحاوله السينما العالمية الآن من اعادة لتقديم بعض روائع الافلام الكلاسيكية المجبولة بعواطفها الجياشة او العودة الى المكتبات والروائيات الشهيرة لاستخلاص الاعمال الكلاسيكية والرومانسية الا عبارة عن محاولات تهدف لاستعادة عصر انتهى وايضا الى احياء المشاعر الانسانية التي فقدت رهافتها مع وحشية الظروف التي نعيشها الآن. يرسم كتاب «سينما الحب» المشاعر الصغيرة الحميمة وتموجات النفس في معالجة نقدية دافئة لمواضيع حساسة يمنعها صانعوها من الانزلاق في السهولة الميلودرامية والمليئة بالشفافية والعذوبة وغدت كالقصيد الشعري لرهافتها ورقتها. جريدة الرأي في 14 فبراير 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
سينما الحب: قصص أحاسيس ومشاعر منحوتة بالضوء والألوان ناجح حسن |
|