شعار الموقع (Our Logo)

 

 

في ظل ترهل و ضعف واقع سينمانا العربية بفعل غياب صناعة سينمائية حقيقية من جهة، و انعدام استراتيجية واضحة و فعالة متعلقة بهذا القطاع لدى الدوائر الرسمية العربية من جهة اخرى، يصبح تمويل مشاريع الافلام عائقا امام مخرجينا او من بقوا منهم صامدين امام تحديات و افرازات الوضع العربي العام و موقع الفن السابع داخل دائرة اهتماماته.

ولأن العين السينمائية العربية بصيرة واليد قصيرة، كان الانتاج المشترك مع الدول الاوربية تحديدا السبيل الاوحد في غياب انتاج قطري مشترك ودائم يخرج عن الصبغة المناسباتية/الشعاراتية التي سجن نفسه داخلها. وهو ما افرز التهافث المحموم على المنظمات و الشركات والحكومات الاوربية لدعم الفيلم العربي وفق منطق (الشاطر هو الذي يفوز بتمويل لمشروعه). لكن منطق الاشياء يفرض علينا طرح مجموعة من التساؤلات حول هذه القابلية الغريبة لدى (الاخر) لتمويل افلامنا، وهو الذي عهدناه يشترط ويفرض المعايير والقيود امام كل مساعدة يقدمها للمشاريع الاقتصادية المنجزة بما يسمى ببلدان الجنوب عموما. فهل وصفة الانتاج السينمائي المشترك تسعى حقا لتشجيع هذا الفن باقطارنا و دعم الابداع بها، ام انه يخفي اهدافا معينة وراء هذا الكرم الحاتمي الغريب؟ الا يحق لنا والحالة هذه ان نتسائل عن الثمن السياسي والابداعي الذي يدفعه مخرجونا مقابل ما يحصلون عليه من تمويل او مساعدات على المشاركة في مهرجانات معينة؟ لكن الا يحق لهؤلاء، بالمقابل، التعامل مع الاخر ما دامت بلدانهم لا توفر لهم ادنى مستلزمات و شروط العمل السينمائي ماديا على الاقل ؟

عن هذه الاشكالية يدور موضوع هذه الدراسة التي سنقوم خلالها بتحليل الخطاب الفيلمي لاشرطة عربية انتجت وفق هذه الصيغة في كل من تونس (صيف حلق الوادي)، المغرب (بيضاوة) و مصر (الابواب المغلقة).

صيف حلق الوادي : فيلم تونسي.. هل قلت فيلما تونسيا ؟؟؟

حظيت الافلام التونسية في السنوات الاخيرة بمكانة خاصة بل رفيعة داخل ما يمكن ان نسميه بفضاء الانتاج السينمائي العربي حيث ما فتئت تتلقى التنويه تلو الاخر و تحصد الجوائز تلو الاخرى بعدد من المهرجانات الجهوية و الدولية بدءا بقرطاج مرورا بواغادوغو و انتهاءا بكان (فيلم ليلى عقلي لطيب بوعيشي الذي اختير ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان كان في دورته لسنة 1989 مثلا). و يرجع المتتبعون هذا (النجاح) الى ظهور جيل جديد من السينمائيين يقولون بمحاولتهم (القطع مع التفاهة و المنطق التجاري في السينما المصرية التي ما تزال سائدة في العالم العربي ) امثال ابراهيم باباي، رشيد فرشيو، ناصر قطاري، رضا الباهي، محمود بنمحمود، ناصر لخمير، فريد بوغدير، نوري بوزيد، مفيدة تلاتلي....

 و الغريب في الامر ان معظم الاقلام العربية المهتمة بالميدان السينمائي تكاد تجمع على تفرد و تميز محاولات هؤلاء المخرجين سواءا عن قناعة تامة تتأتى بعد المشاهدة الفعلية لأفلامهم، او عن طريق التقليد و مجاراة تيار فكري بدا سائدا لفترة ما دون ان تكون لدى الكاتب ادنى فكرة او معلومات قد تسمح له باصدار الاحكام سلبا او ايجابا. و لعمري ان الاجماع المشوه و اللامسؤول يبقى واحدا من المزالق التي تجعل العالم الثالث –و نحن ضمنه طبعا- رازحا تحت وطأة التخلف و التردي سياسيا و اجتماعيا وثقافيا ايضا. و لا اخفي و انا اؤكد على هذا الامر انني على جهل تام باسماء و اعمال بعض المخرجين الذين ذكرتهم آنفا لكنني على كل حال لا اصدر احكاما لحد الآن.

ان ما سمي بالطفرة السينمائية الكبرى التي شهدتها تونس في العقد الاخير يظل مرتبطا -شاء التونسيون او ابوا –بظاهرة الانتاج المشترك. و لان الافلام تكون نتاجا لمخرجين درسوا بالخارج و نهلوا من ثقافة فرنكفونية بالاساس، او ذوو تكوين تغريبي منفصل عن الواقع المحلي من جهة، و باموال في معظمها خارجية من جهة اخرى، فان النتيجة لن تكون بالطبع و تبعا لمنطق الاشياء الا مجموعة من صور تستهدف دغدغة العين الغربية و مغازلتها قبل أي شيء اخر. و لن نجانب الصواب ان استشهدنا ب(افلام) من قبيل حلفاوين لفريد بوغدير الذي لم يفعل الا تجريد التونسيات من ملابسهن و تقديمهن عاريات بحمامات تونس، او صمت القصور لمفيدة تلاتلي الذي، و ان تميز بنوع من الجودة، فانه يبقى مجرد عرض بسيط للازياء التقليدية التونسية و المعمار التونسي التراثي بهدف الابقاء على الطابع الاسطوري لحكاية الف ليلة و ليلة كما الفت العين الغربية تقديمها، تصورها و مشاهدتها، و هو ما سعت المخرجة المغربية فريدة بنليزيد الى تقليده بشكل ممسوخ في شريطها (كيد النساء) حتى انها استعانت بمنتج و تقنيين و ممثلين تونسيين لانجاز شريطها هذا... و اخيرا شريط (صيف حلق الوادي) للمخرج فريد بوغدير –مرة اخرى- و هو موضوع هذا المقال. و لن يفوتنا التذكير بامتناع نفس الجهات الممولة عن دعم شريط (كسوة) للتونسية كلثوم برناز باعتباره يقدم صورة مشرفة عن المرأة العربية عكس ما كان ينتظره الممولون طبعا.

يمكن اعتبار تجربة فريد بوغدير من خلال شريطي( حلفاوين او عصفور السطح ) و(صيف حلق الوادي) تمثلا صادقا و نموذجا مصغرا للانتاجات المشتركة ما بين الاقطار العربية (المغرب الكبير و مصر و سوريا تحديدا) و اوربا سواء من حيث التيمة الاساسية التي تتعرض لها او من ناحية مصادر تمويلها و ما يصاحب ذلك من تدخل اجنبي في كل مراحل الانتاج من فكرته المحورية الى عرضه النهائي. ففي فيلمه الاخير (صيف حلق الوادي)، الذي انتج سنة 1996 ليمثل بذلك امتدادا طبيعيا لافلام مغاربية ظهرت دفعة واحدة بعد توقيع اتفاقيات اوسلو و ما تلاه من فتح قنوات اتصال بين البلدان المغاربية والكيان الصهيوني ان على المستوى الرسمي او على مستوى بعض مكونات ما يسمى بالمجتمع المدني، تتكرس كل مظاهر التبعية السينمائية للجهات الممولة. و قد يستغرب القارىء الكريم ان علم ان مجمل الشركات الانتاجية و المنظمات و الوزارات التي تكاثفت جهودها لدعم هذا الشريط تعدت العشرين متدخلا من تونس، فرنسا، سويسرا، هولندا، المانيا و بلجيكا بالاضافة الى مشاركة رمزية لنجوم عالمية معروفة –من اصل تونسي- كميشيل بوجناح (فرنسا) و كلوديا كاردينال(ايطاليا) و ان كانت هذه المشاركة مقحمة ليس الا. لكن استغرابه ينجلي حتما بمجرد مشاهدته احداثه و من تم استيعابه لخطابه الفيلمي و تعرفه على الفاعلين تقنيا و تمثيلا الذين كانوا وراء انجازه من خلال جينريك الفيلم الذي يكفي لوحده لوضع المشاهد في الصورة و جعله في حيرة من امره و هو يحاول انتقاء جنسية له لغلبة الاسماء الاوربية على معظم المهام الرئيسية منها و الثانوية.

ولتفكيك بعض مدلولات الخطاب الفيلمي الذي حاول اصحاب صيف حلق الوادي تمريره عبر قصة تدعي و تزعم انها تحاول اعادة تصوير مرحلة من تاريخ تونس لما قبل الخامس من يونيو 1967 بواقعية و حياد، سنحاول تقسيم هذا الخطاب على اساس الثلاثية المشهورة (الدين، السياسة و الجنس او الجسد) بالرغم من تكوينها لوحدة كلية يصعب مفصلتها كل على حدة خصوصا ما تعلق بتداخلات الديني بالسياسي طوال احداث الشريط.

الدين

انطلاقا من المشهد الافتتاحي للشريط يتبدى لنا جليا ان التيمة المحورية التي يسعى فريد بوغدير لمعالجتها تتعلق بما اصطلح على تسميته ب التسامح الديني او بشكل اصح مسألة التعايش بين اناس ينتمون لبلد واحد و يعتنقون اديانا مختلفة ان لم تكن متصارعة في بعض الاحيان، ليس في لبها و جوهرها و لكن لتناقض تفسيرات و تأويلات معتنقيها و تراكم خلفيات تاريخية يصعب تجاوزها بسهولة و يسر، حيث يقدم لنا المخرج من خلال هذا المشهد منظرا عاما لمدينة حلق الوادي حيث تتجاور المساجد بالكنائس والاديرة مصاحبا بموسيقى تتغنى بالتسامح و التعايش بلغة فرنسية فصيحة (!).

بعد هذا العرض الافتتاحي ينتقل بنا المخرج الى داخل المدينة و شاطئها الجميل حيث نتعرف شيئا فشيئا على شخصيات الشريط التي غلب عليها التقابل. فمن جهة تتواجد عائلة مسلمة (اب، ام، بنت و فتى) تقابلها عائلتين احداهما مسيحية و الاخرى يهودية الديانة بنفس التكوين الاسري تقريبا، بالاضافة الى ثلاثة شبان بنفس التقسيم الديني و شخصيات اخرى اهمها شخصية الحاج العائد حديثا من المشرق. و طوال احداث الفيلم يستثمر بوغدير وقتا طويلا في اظهار اوجه الحياة المجتمعية لهذه الشخصيات حيث تنتفي اية محددات دينية و يحضر الانتماء الى الوطن كضامن للوحدة و التعايش. فالفتيات وامهاتهن يؤدين الصلاة (!) داخل الكنيسة دون ادنى اعتبار لخصوصية الطقوس الدينية التي تحكم كل ديانة على حدة، كما يشارك الجميع في الاحتفال الديني المسيحي ويهبون عن بكرة ابيهم لاستقبال كلوديا كاردينال و كأنها عادت الى تونس فاتحة ظافرة في الوقت الذي لا يهتم فيه احد بالتوتر السياسي الذي تشهده منطقة الشرق الاوسط باستثناء شخص بدا مجنونا من اول الشريط الى نهايته، و في جانب اخر يحتسي الاباء الخمر على ظهر احدى المراكب دون رادع ديني.... و على هامش هذا الاندماج الذي يطبع علاقة السكان يبدو الحاج (جميل راتب) كاستثناء اوحد للقاعدة بسبب تشبعه بافكار دخيلة (!) قادمة من المشرق العربي حيث تحول الى انسان غريب عن مجتمعه الاصلي تنسج حوله الاساطير و الخرافات كما يتبين من حوار الاطفال و هم يتلصصون عليه داخل فيلته. و من هذا المنطلق اصبغ عليه المخرج كل صفات المكر و الخديعة و الاستغلال. فهو الذي يقايض بين زواجه بمريم (الفتاة المسلمة) و بقاء عائلتها في المنزل الذي تكتريه منه، و هو الذي يحلل الربا على نفسه و يحلل الشراء وفق شروط استغلالية لا يقبلها العقل و المنطق، و هو الذي يفسد العلاقة الحميمية بين العائلات الثلاثة بعد وشايته بالفتيات رغبة منه في جسد مريم و ليس بدافع الدفاع عن الشرف كما حاول ان يوهم الاخرين، كما انه يقف وراء مطالبة مريم بوضع الحجاب و كأنه مستورد من الشرق و لا علاقة له بتعاليم الديانة الاسلامية بالاضافة الى كرهه الشديد لليهود و تحامله عليهم.

وتأسيسا على ما سبق نجد ان الخطاب الفيلمي يريد ان يعلن صراحة ان الشر مصدره الاساسي هو الشرق، فهو الذي ادى الى زعزعة التعايش السلمي بين مختلف مكونات المجتمع التونسي باختلاف دياناتهم او لا دياناتهم. و لان المشرق كان مصدر انبعاث الدين الاسلامي، فاننا لا نستبعد ان يكون المعنى المراد تمريره اعمق و اخطر من مسألة التعايش الديني بل قد يتعدى ذلك الى الاسلام ذاته خصوصا اذا اخذنا بعين الاعتبار المد العلماني المتطرف الذي يتزعمه البعض داخل تونس الذي ما فتىء يشكك في تعاليم الدين الاسلامي من اساسها تحت غطاءات متعددة. فالصورة كيفما كانت تبقى في نظر الكثيرين صورة موجهة، غير بريئة، تقوم على لعبة التباس حادة بين ما تقدمه و ما تخفيه، مما يستدعي الحذر منها لانها لا تفصح عن شيء الا لتخفي اشياء اخرى. و خلاصة القول ان فريد بوغدير يود على ما يبدو ان يقول بصريح العبارة ان كانت الاديان سبيلا و وسيلة للتفرقة بين الناس فلتذهب الاديان الى الجحيم و ليبق الانسان. و هو في ذلك لا يختلف كثيرا عن المدافعين عن عالمية الثقافة و انسانية الحضارة (يوسف شاهين مثلا و هو نتاج تجربته مع الانتاج المشترك اتي حولته مؤخرا الى مجرد مخرج لكليبات غنائية مبتذلة ومشاهد رقص مجانية) ثم نأتي بعد كل هذا لنبكي و نشكو ظهور تطرف ديني هدفه اغتيال الحداثة و الابداع و... و...

السياسة

يتأطر المعطى السياسي الذي يحاول المخرج و من معه او وراءه التطرق اليه عبر شريط صيف حلق الوادي بمحددين اثنين:

الاول، يتعلق بالمرحلة الزمنية التي تدور خلالها الاحداث، فاختيار مرحلة ما قبل الخامس من يونيو 1967 لاتخفى مراميه و اهدافه على احد.

والثاني، في الاصرار على الاشارة منذ اللقطة الاولى الى مكان الاحداث بعبارة (تونس-شمال افريقيا) مما يعني التفريق بين الدول المغاربية و بقية البلدان العربية علما ان مصر- جمال عبد الناصر ارتبطت اكثر بفكرة القومية العربية على حساب انتمائها الافريقي و هو ما يضعها خارج التصنيف الجغرافي الذي حدده الشريط.

اما الخطاب السياسي الذي سعى المخرج الى تمريره فقد ارتكز على ثلاث نقاط اساسية :اولاها الصراع العربي الصهيوني و تأثيره على الاوضاع الداخلية لتونس، و ثانيها الدفاع عن دور المكون اليهودي داخل المجتمع التونسي ماضيا و حاضرا، و ثالثها التأكيد على البعد الفرنكفوني لنفس المجتمع.

يركز فريد بوغدير اهتمامه على شخصية الحاج باعتباره سفيرا للفكر المشرقي بتونس حيث لا يترك فرصة تفوته دون اظهار كرهه الشديد لليهود بفعل تأثره بما يحدث بالشرق الاوسط (مصر تحديدا) حيث يقدمه في احدى المشاهد و هو يستمع لاحدى خطب الزعيم الراحل جمال عبد الناصر في مشهد مظلم (لا شيء يترك للصدفة في العمل السينمائي)يصرح فيه مباشرة بنواياه و دسائسه الرامية الى اقتناء ممتلكات اليهود الذين سيضطرون حتما لمغادرة البلاد ان قعت الحرب الوشيكة، مصدرا اوامره لخادمته بالتحري وجمع المعطيات المتعلقة بكل المغادرين المحتملين حتى يكون على بينة من امره.

وللتاكيد على الارتباط الوثيق بين احداث المشرق و الوضعية الداخلية لمجتمع حلق الوادي فان موت الحاج ( الجسم المزروع في كيان هذا المجتمع كممثل لفكر دخيل) يتبعه انفراج في التوتر السائد هناك. هذا الانفراج الذي لا يستمر طويلا حيث اندلعت (الحرب) في وقت يظهر فيه الاباء الثلاثة متعانقين متلاحمين و نحن نقرأ على الشاشة ما مفاده ان يهود تونس اضطروا لمغادرة بلدهم الاصلي رغما عن ارادتهم لكنهم ابدا لن ينسوا حلق الوادي و شاطئها. و بجانب شخصية الحاج ارتبط الخطر القادم من الشرق بما يبثه مذياع التصقت به احدى شخصيات الشريط من بدايته الى نهايته متنقلا بين اذاعتي بيروت والقاهرة حتى اصابه ذلك باختلال عقلي (!).

وبموازاة ما سبق، دافع الشريط عن الدور الذي لعبه اليهود ابان مرحلة ما يسمى بمقاومة الاستعمار الفرنسي و هو ما قد يكون صحيحا. ففي احدى مشاهده يتحدث احد رواد المقهى عن اليهود واصفا ايام بالخبث و المكر باعتبارهم سكينا ذو حدين يتقنون لعبة اللعب على الاوتار كلها مؤكدا على ضرورة عودتهم الى بلدهم (؟)، لينتفض الاب المسلم و صاحب المقهى مدافعين عن وطنية اليهود التونسيين و صدق انتمائهم للوطن عبر محاضرة بليدة و تقريرية عن مدى اهمية مشاركتهم في حرب التحرير(!) و دخولهم سجون المستعمر من اجل ذلك. و لم يسلم المشهد من التلميح مرة اخرى الى المشرق من خلال كلام وجهه صاحب المقهى الى احد روادها قائلا : اليس اسمك الطرابلسي؟ لماذا لا تعد انت ايضا الى بلادك؟لكن عليك اولا معرفة ان كنت من طرابلس ليبيا ام لبنان؟ قبل ان يختتم مرافعته بالتأكيد على ان الطيبين و الخبثاء يتواجدون بالجانبين و ان ممارسة السياسة ترتبط بالانتماء و الوطنية و ليس بالدين. لكن الغريب في الامر ان هذا الدفاع لم يشمل و لو باشارة بسيطة مسيحيي تونس باعتبارهم مكونا من مكونات المجتمع المحلي كما يوضح الشريط من بدايته الى نهايته. من هنا تتوضح بجلاء عدم براءة الخطاب السياسي المراد تمريره.

اما النقطة الثالثة المتعلقة بالبعد الفرنكفوني لمجتمع التونسي فقد املاها التمويل المشترك الذي كان مصدره الاساسي فرنكفونيا. و هو ما طبع حوار الشريط الذي غلبت عليه اللغة الفرنسية حتى في اغنية الجنريك التي غالبا ما تكون في السينما مفتاحا وتوطئة اولية لجذب اهتمام المتفرج و ادماجه في الفضاء العام الذي سيحكم احداثه. وقد نستسيغ استعمال الفرنسية بالنسبة لعائلات مترفة لا صلة لها بالواقع اللغوي و الحضاري لشريط كما هو متجسد في مجتمعاتنا المغاربية الى اليوم. لكننا لن نستسيغ بتاتا اقحام هذه اللغة في احاديث فئات اجتماعية تنتمي الى واقعها قلبا و قالبا و ربما رغما عنها ايضا.

فبائع الكاكاو لن يكون بتلك الفصاحة و البلاغة اللغوية التي قدم بها خصوصا اذا اخذنا بعين الاعتبار الفئة العمرية التي ينتمي اليها. و لعل استعانة المخرج بممثلين قاطنين خارج تونس او غير منتمين اليها اصلا اسقطه في فخ اعتماد لغة فرنسية يسهل معها التواصل بين هذا الهجين الغير متجانس من الممثلين بالاضافة طبعا الى ما اشرنا اليه من ضرورة ارضاء الممول الاجنبي الفرنكفوني.

تلك اذن كانت اهم المعالم المؤطرة للخطاب السياسي لفيلم صيف حلق الوادي الذي خلق ثلاثية جديدة قد تصبح متداولة لفترة معينة ممثلة في (الشرق/العربية، اليهود و الفرنكفونية).

الجنس

استكمالا للثلاثية المشهورة (الدين، السياسة، الجنس)، كان من الضروري البحث عن صيغة تسمح بدمج هذا المكون الثالث فكانت حكاية الفتيات الثلاث (مريم، جيجي وتينا) اللائي يقررن العزم على التحول من مرحلة بنت الى مرحلة امرأة، مما يقتضي فض بكارتهن قبل الزواج كثورة على التقاليد المحلية (البالية) التي لم تعد تساير طموحاتهن (؟) وانتظاراتهن. وعبر مشوار بحثهن عن المرشحين للقيام بهذه المهمة المقدسة يتحفنا المخرج بمشاهد عري يقدمها قرابين لاولياء نعمته من الممولين سواء قبل الانتاج او بعده. وقد توزعت هذه المشاهد بين ما اهتم بالجسد الانثوي او الكلام و الايحاءات الجنسية.

فعلى المستوى الاول، كان الاهتمام منصبا حول ابراز مفاتن الفتيات الثلاث مع تأثيث ذلك بمشهد عرس راقص اخذ وقتا طويلا من مدة عرض الشريط و رفض اثناءه المدعوون الاستماع للموسيقى الكلاسيكية التي اقترحها عليهم اليهودي على شرف ضيفته كلوديا كاردينال و نالت استلطاف زوجته في وقت انتفض فيه الاخرون مطالبين بموسيقى تتوافق و مصطلح (هز البطن) تأكيدا و تغذية للنظرة الغربية لمجتمع الف ليلة وليلة. وعودة الى مشاهد العري التي احتواها الشريط لابد من ابداء ملاحظة تبدو اساسية وتتعلق بنصيب الفتاة المسلمة (مريم) من هذه المشاهد الذي فاق الستة (تظهر مرتين نائمة بلباس خفيف لا يستر من جسدها الا القليل، القبلات الساخنة اثناء الحفلة التي نظمها الشبان الثلاثة على هامش حفل العرس، تلاعب الحاج و تتدلل عليه بابراز انوثتها ومفاتن جسدها، تظهر مرتين عارية تماما حين يتلصص عليها الحاج وهي تستحم واخرى في نهاية الشريط حين تقف امامه عارية داخل فيلته مسببة بذلك وفاته في الحين )، في وقت كان نصيب الفتاة المسيحية (جيجي) مشهدين اثنين، اما الفتاة اليهودية (تينا) فلم تظهر بشكل فاضح و عار طوال الشريط بل اصر المخرج على تبرير تقبيلها لاحد الشبان بوقوف و الحاح الفتاتين الاخريين عليها من اجل القيام بذلك. كما كان الشأن بالنسبة لقرارهن بفض بكارتهن حيث كانت اكثرهن استعدادا للتراجع و العدول عن هذه الفكرة.

اما على المستوى الثاني، فقد بالغ المخرج الذي كتب السيناريو ايضا في حواراته البذيئة التي اتخذت من الجنس و الخيانة الزوجية محورا اساسيا و دائما لها. و هي احاديث نشك في انها قد تتم بتلك المباشرة و الوقاحة في مجتمع يقال انه عربي و مسلم خصوصا اذا اخذنا بعين الاعتبار الحقبة التاريخية التي يتناولها الشريط، رغم كل ما تتمتع به المرأة التونسية من من حرية (لا علاقة لها بالحرية السياسية) يذهب البعض الى تصنيفها في دائرة الانحلال و الدعوة اليه. كما ان الشريط اختصر اهتمامات شباب حلق الوادي في معاكسة و ملاحقة الفتيات و التلصص عليهن اثناء استحمامهن. ، قبل ان يحولهم الى عاجزين جنسيا حين فشلوا في القيام بمهمة فض البكارة على احسن وجه. و لا نعرف ان كان ذلك جزءا من السيرة الذاتية للمخرج و هو ما لا يجوز تعميمه على الكل حيث لم نصادف طوال احداث الشريط نموذجا ايجابيا واحدا لشباب تونس/ الزيتونة مسايرة للصورة التي تقدمها، عادة، الافلام الاجنبية التي تتخذ من العرب موضوعا لها منذ ما سمي بالسينما الاستعمارية او الكولونيالية الى اليوم.

 

بيضاوة او عندما تتحول السينما الى دعارة

تعتبر التجربة السينمائية للمخرج المغربي عبد القادر لقطع من اكثر التجارب اثارة للجدل بالمغرب ليس لغناها على المستويين الكمي و الكيفي، و لكن للضجة التي التي غالبا ما تصاحب عرض افلامه التي لم تتعد لحد الان ثلاثة افلام روائية طويلة و الرابع قيد الانجاز حاليا. فقد شكل شريطه الاول (حب في الدار البيضاء)الحدث الابرز الذي ميز المهرجان الوطني الثالث للسينما المغربية المنعقد بمكناس سنة 1991 لطبيعة موضوعه، قبل ان يجسد ما سمي لحظتها بداية (المصالحة) بين الجمهور المحلي وافلامه الوطنية ممثلا في الاقبال الجماهيري الذي حظي به ابان عرضه بالقاعات المغربية. كما اثار فيلمه الثاني ( الباب المسدود 1995 ) الكثير من اللغط اولا بسبب المشاكل الانتاجية التي ميزت مساره بعد اعلان افلاس الشركة الفرنسية المساهمة في انتاجه، مما ادى الى حجزه بفرنسا حتى تدخل المركز السينمائي المغربي و اعاده لصاحبه علما انه انتاج مغربي-فرنسي-جزائري مشترك، و ثانيا بسبب موقف الرقابة من بعض مشاهده التي طولب الموزع بحذفها مقابل السماح بعرضه بالقاعات المغربية. و في الوقت الذي كان فيه الجميع (!) متابعا لفصول هذه الواقعة، كان لنا موعد مع العرض العمومي لشريطه الثالث (بيضاوة) الذي اثار بدوره ردود فعل متباينة تفاوثت بين الترحيب الاستنكار و اللامبالاة الناجمة عن عدم الرضا و عدم الرغبة في اثارة حفيظة المخرج الذي طالبه البعض باسقاط هذا الشريط من خزانته السينمائية الفقيرة اصلا.

يندرج شريط (بيضاوة)-لفظ يعني سكان مدينة الدار البيضاء المغربية- ضمن ما يسميه لقطع محاولة التشويش على ما يبدو انه امكنة و مواضيع محرمة (طابوهات) في حياتنا الاجتماعية، و هو انتاج مغربي –كندي –فرنسي مشترك (1998-1999) حصل على دعم مالي من المركز السينمائي المغربي بقيمة 2. 300. 000 درهم. لكن عرضه اعاد طرح مجموعة من التساؤلات حول توجه و مسار لقطع السينمائي باعتبار انه لم يخرج طوال اشرطته الثلاثة و ربما الرابع اضافه لشريطه القصير (نهاية سعيدة-1996) عن تيمة العلاقات الجنسية (جسد-قبلات-عري-كلام بذيء…. الى ان بلغ ذروته في الباب المسدود حين تحول الى الشذوذ الجنسي) مما حتم على كاميراه ان تبقى حبيسة غرف النوم و الحانات و كانه يريد ان يختصر لنا مغربنا في هذين الفضاءين اللذان يشكلان ربما مغربه الخاص. و على شاكلة تحليلنا(!) لشريط (صيف حلق الوادي) سنتبع نفس التقسيم في محاولتنا تفكيك الخطاب الفيلمي لشريط (بيضاوة) المغربي(؟).

الدين

اقتصرت معالجة شريط بيضاوة للدين على تسليط الضوء على ظاهرة الاصولية او التطرف الديني (ليسمها كل واحد كما شاء) وفق منظور عبد القادر لقطع و من معه لهذه الظاهرة و مدى تغلغلها في النسيج المجتمعي المغربي ملحا على طرق عملها و استقطابها لاطفال المدارس بالاساس.

هكذا نتتبع حكاية الطفل كمال ابن الموظف البنكي البسيط عمر (محمد بنبراهيم) و هو يتحول من براءة الاطفال الى الة مبرمجة قابلة لتنفيذ اية اوامر تصدر اليه من طرف معلمه الاصولي/المتطرف الذي يستعين في تجنيده بزميل له تحول الى ببغاء يردد اقوال معلمه باستمرار مما يعني قتل ملكة الابداع و الخلق لديه اثر عملية غسل ذماغ مكثفة ومنهجية. تتسلل الى عقل كمال اذن افكار سوداوية جعلته يتهرب من صديقته الصغيرة –التي لم تكن تجد حرجا من امطاره بالقبلات امام الملأ- نتيجة المواعظ التي كان زميله يلقنها اياه عن تحريم الحديث الى الفتيات و تقبيلهن او الاختلاء بهن. كما نعلم انه اهدى والدته (سعيدة باعدي) حجابا نعتته في حوارها مع والده بلباس الايرانيات (انظر الاستعارة التي لا تختلف كثيرا عن معطيات شريط حلق الوادي) في وقت اهدى فيه والده جعة اسلامية(!) بدل قنينات الخمر التي كان يكلفه هذا الاخير باقتنائها من احد الباعة السريين.

ثم نراه يواظب على قراءة بعض الكتب التي الفنا مصادفتها و هي تباع على الارصفة و المكتبات عن عذاب جهنم و عذاب القبور و اهوال يوم القيامة و غيرها’ في مشاهد يصر المخرج على تبيان الرعب و الكوابيس التي تتملكه عند قراءتها عربونا على الارهاب النفسي و الذهني الذي يتعرض له عكس الحبور و البهجة اللذان يتملكانه و هو يمارس هوايته في الغزف على الغيتارة التي هجرها فيما بعد انسجاما مع تغيراته السلوكية.

كما يصر المخرج على اثارة بعض المغريات التي يوظفها اعضاء هذه الجماعات لاستقطاب هؤلاء الاطفال من قبيل الدروس الخصوصية المجانية و ما يليه من تعليم لفنون القتال للاطفال المميزين، و كذا تنظيم مخيمات صيفية خاصة بهم يتلقون خلالها تدريبا عسكريا في افق تأسيس جيش (اسلامي) لمحاربة اعداء الله كما ينوه اليه مدرب الكراطي في احدى المشاهد لاقناع الطفل كمال باختلاف ما يعنيه عن التجنيد في الجيش النظامي الذي يخشاه. و المعروف ان هذه مجموعة كلشيهات مستهلكة تسعى للتقليل من شأن بعض المجموعات التي تنشط فعليا على الساحة وفق قناعات دينية قد نختلف او نتناقض كليا معها، لكننا لا نملك حق تسطيحها و تبسيطها الى حد افراغها من محتوى حصيلة عملها الميداني الذي لن يستطيع احد انكاره.

ويصل الشريط ذروته حين يعقد الطفل كمال العزم على قتل والديه اللذان اصبحا في نظره فاسقين ضالعين في الكفر و الفسق، حتى انه اعتبر الجنين في بطن امه ابن حرام رغم شرعية العلاقة التي تجمع والديه. وفي ظل التيه الذي يعيشه كمال نتيجة ما تلقاه من تعاليم على يد معلمه و من معه وعدم قدرته على مجابهة التناقضات التي ولدها ذلك في مخيلته الصغيرة و احساسه بالضياع، لم يجد امامه الا الارتماء في احضان امواج البحر في محاولة يائسة للانتحار و لولا تدخل الكتبي و معلمته المتحررة و صديقته و زميله (الذي لا نفهم الانقلاب السريع في شخصيته و هو الذي خضع حسب منطق المخرج لعملية تملك فكري همجي مخرب) في وقت توارى فيه معلمه/سبب معاناته القهقرى ملقيا بالمسؤولية على عاتق الطفل الذي ساعدهم على استقطابه و تجنيده.

وموازاة مع تلاحق احداث الشريط، اصر عبد القادر لقطع على تقديم مشهد منفصل تماما عن التسلسل الطبيعي للبناء الدرامي للفيلم حين صور امرأة منقبة ارادها ان تسير وراء زوجها، و ان تظهر عداء غير مفهوم و غير مبرر اتجاه الطفل كمال دون ان تكون بينهما سابق معرفة او ان يكون هذا الاخير في وضع قد يثير حفيظتها. و ليزيد المخرج الطين بلة امعن في اظهار عيني المرأة تغليان و تتحولان الى نيران ملتهبة تثير ذعر الطفل و هلعه (!). و هي نفس الصورة التي استثمرها في ملصق الشريط في محاولة مكشوفة لاستقطاب انظار المتفرج خصوصا العين الغربية التي تكونت لديها تخيلات معينة لظاهرة (التطرف الديني) غذتها ديكتاتورية الاعلام الغربي في تعامله مع مثل هذه الظواهر دون التعمق في جوهرها و اسبابها و طموحات اصحابها و الفلسفة التي قد تكون منبنية عليها.

بالاضافة الى ذلك امعن المخرج في الربط بين الدين الاسلامي و الممنوع ففي بداية الشريط يمنع رجل الشرطة الكتبي مصطفى من المرور عبر احدى الشوارع بدعوى انطلاق شعائر صلاة الجمعة، و في جانب اخر يدور نقاش بين ابنيه حول منع ممارسة الجنس و الاكل خلال ايام الصيام و كلها اشارات لا يخفى مغزاها رغم ان البعض قد يعتبرها مجرد مشاهد عادية لا يجب ان تثير ادنى اهتمام او توقف نقدي.

السياسة

ينطلق التناول السياسي في فيلم (بيضاوة) من ظاهرة الخوف المرضي الذي تربى عليه المواطن المغربي في علاقته مع السلطة الامنية بمختلف تفرعاتها، مؤسساتها ورجالها. فمع بداية الشريط و بعد تعرفنا على شخصياته الرئيسية داخل مكتبة يملكها السيد مصطفى (سعدالله عزيز)، نتتبع عودة هذا الاخير الى بيته. و عند مدخل العمارة يفاجأ بوجود استدعاء من مركز الشرطة في صندوق الرسائل الخاص به فتتسارع دقات قلبه من هول الصدمة (!) حتى انه لم يتمعن في الاستدعاء لمعرفة انه غير معني به.

فتتسرب الى عقله – و هو المناضل السابق ذو الميولات اليسارية و المتأثر بالفكر الماركسي- تصورات ذهنية ظلت مخيلته تختزنها عن مرحلة سوداء من تاريخ المغرب الحديث عرفت اعتقالات و اختطافات بالجملة نتيجة الغليان السياسي الذي شهدته بلادنا خلال عقدي الستينات و السبعينات من القرن الماضي على الخصوص، و ما ميزها من صراع مرير لامتلاك السلطة و اكتساب الشرعية و المواقع بين مختلف اطراف اللعبة السياسية و الايديولوجية وقتها. و يستمد الهلع الذي يتملك الكتبي مصداقيته(!) من كونه ما يزال رافضا للتحولات التي حدثت مع مرور السنوات في موازين القوى ممثلة في ولادة ما يسمى باستراتيجية النضال الديموقراطي او النضال من داخل المؤسسات و ليس خارجها عبر مسلسل انتخابي ثبت للجميع انه مزور و مغشوش، كما نفهم من حوار له مع زوجته حورية (خديجة اسد) المتعلق بتوزيعه لمنشورات تدعو لمقاطعة هذا المسلسل الانتخابي.

وبالعودة الى مصطفى الكتبي نجده يمتنع عن ولوج منزله بعد اكتشافه الاستدعاء المذكور مفضلا الخروج من العمارة و الجلوس باحدى المقاهي لترتيب افكاره و البحث عن سبب ممكن قد يكون وراء توصله به، لكنه يفاجأ (!) ان المقهى ذاتها لم تعد مكانا امنا كما هو حال الشارع ايضا حيث دوريات الشرطة في كل الاركان. يلتفث مصطفى يمينا ويسارا وهو عائد الى بيته حيث يقرر الاحتماء بجدران غرفته التي حولها الى سجن حقيقي يعكس مدى الهلوسة التي يعيشها، اذ نراه يتلصص على الشارع من نافذة الغرفة للتأكد من عدم وجود مخبرين امام العمارة، او يقفز من مكانه لمجرد سماعه طرقا على الباب ظنا منه انها الشرطة جاءت لاعتقاله، ثم يمتنع عن تناول وجبة الغذاء مع ابنائه و يسارع باغلاق باب الغرفة حين تهم الزوجة بالدخول اليها، مستعيدا بين الفينة و الاخرى ذكرياته النضالية (؟) عبر فلاش باك يتلقى فيه صفعة من ابيه و هما يتجادلان حول ماركس او الملتحي كما يسميه الاب. و كلها مشاهد و ان بدت طويلة فاننا نعترف ان لقطع قد توفق بامتياز في تنفيذها مستفيدا من الاداء المتميز للممثل (سعد الله عزيز) الذي نجح في نقل احاسيس القهر و الرعب بشكل جعل المتفرج يتماهى معه باعتبار مشكلته مشكلتنا ايضا بدرجات متفاوثة طبعا.

وفي ظل هذا التوتر يعقد مصطفى العزم –بعد التشاور مع زوجته- على عدم التوجه الى مركز الشرطة و السفر بعيدا حتى حين. و بينما هو منهمك في اعداد حقيبته يستنجد به جاره الامي المعني اصلا بالاستدعاء لنعلم ان ساعي البريد اخطأ صندوق الرسائل المطلوب لتتغير ملامحه كليا بعد تخلصه من هذا العبء الذي انتقل الى جاره، بل تحول الى تحفيز هذا الاخير على الذهاب الى مركز الشرطة معتبرا ان استدعاء مثل هذا ليس نهاية العالم في تفاخر مضحك و مبك في الان ذاته.

ومع توالي الاحداث ننتقل الى حكاية مقدم الحارة الشعبية (صلاح الدين بنموسى) الذي كلفه رئيسه بالتحري حول المعلمة سلوى (كرين عتكوف) على اثر طلبها الحصول على جواز السفر. هذا التحري، الذي يتخذ مسارين اثنين اختلط فيهما الرسمي بالشخصي بتقاطع الهاجس الاستعلاماتي بالجنسي، جعل المقدم (شيخ الحارة) يستنفر كل زبانيته و و سائل ترغيبه و تهديده لابناء حارته ابتداء بالحارس الليلي (نور الدين بكر)، مرورا بالجزار (عمر السيد) و بعض شبان الحي الذين الفوا التلصص عليها، و انتهاء بالمومس فيفي (سعيدة جواد) التي تمارس عملها بمباركة منه، بل استعان ايضا بفقيه الحي الذي قرر لقطع جعله فاسدا اخلاقيا و راغبا في جسد المعلمة كغيره من ابناء الحي.

من هذا المنطلق يبدو واضحا ان المخرج اراد ابراز مدى الهيمنة التي يتمتع بها رجل السلطة في مجتمعنا، لكنه سقط بعمد او دونه –و هذا ما يعاب عليه- في اظهار المغاربة مجرد تابعين طيعين و مخبرين يسارعون في تقديم قرابين الولاء لاضعف تراتبية سلطوية (المقدم) في سلم الجهاز الامني المغربي، فكيف يا ترى سيكون حالهم مع من هم في اعلى الهرم السلطوي؟ سؤال نطرحه على لقطع الذي لا نعتقد انه على جهل بتطور العلاقة بين السلطة و المواطن او بالاحرى المواطن و السلطة خصوصا في مدينة كالدار البيضاء التي اتخذها فضاء لشريطه و هي المعروفة بكونها شهدت اكبر و اعمق التحولات المجتمعية بالنظر الى بقية مناطق البلاد.

ان الذي يعاب اذن على المخرج عبد القادر لقطع هو اصراره الغريب على اغفال كل تلك التطورات و الابقاء على الصورة التي تروجها اجهزة الاعلام الخارجية حول ما تعتقده واقعنا ليس حبا في جمال اعيننا بل ترسيخا لمفاهيم الرجعية و التخلف التي غذتها حول مجتمعاتنا بما يضمن استمرار وصايتهم على مصائرنا و مستقبلنا. اذ كيف يمكن لشعب ينبطح صاغرا امام رجال السلطة ببلاده ان يزعم احقيته باستقلالية قراره (قرار دولته) وبالتالي تحرره من القيود التي ما فتئت دول الاستعمار القديم و الجديد تضعها حجر عثرة امام انبعاثه و صحوته.

خلاصة القول في هذا الباب ان استخدام كلمات سياسية رنانة من قبيل البوليزاريو او تازمامارت و بالتالي استغلال معاناة اولئك الذين اصابهم الاذى ابان فترة مظلمة من تاريخ المغرب التي نحاول الان تجاوزها بثبات، لن يجعل من البعض مناضلين سياسيين في وقت اصبح فيه النضال يباع و يشترى في مزاد حتى اعتد الاحزاب المغربية و اكثرها تمسكا بالحركة النضالية سابقا، و في وقت اصبحت فيه المعارضة ترفا و فخفخة و مزايدة. و لا نظن ان بهذا او ذاك يمكننا اقناع المتفرج المغربي بجدوى ارتياد القاعات السينمائية لمشاهدة انتاجه الوطني مما قد يسمح بوضع السينما في موقعها المستحق ضمن اطار ما قد يصطلح على تسميته يوما بالثقافة الوطنية المغربية.

الجنس

في ثالث تجاربه السينمائية الروائية المطولة، يصر عبد القادر لقطع ان يبصق علينا من داخل شاشات العرض و ان يكيلنا من السب و الشتم ما استطاع اليه سبيلا بعد ان يحولنا الى اصحاب عقد نفسية و مكبوتات جنسية و سياسية لا لشيء غير اختيارنا مشاهدة شريطه بيضاوة اعتقادا منا انه انتاج وطني. و الادهى من كل ما سبق ان ما لحقنا تم و ما يزال تحت غطاء الجرأة و الحديث عن المسكوت عنه و ما شابههما من الفاظ لم تعد تنطلي على احد.

وتزداد حيرتي في تفسير هذه الغارة اللاأخلاقية التي شنها علينا المخرج المذكور وانا اقرأ مقتطفات من حوار كان قد خص به اسبوعية( الصحيفة) المغربية في عددها الثامن و الثلاثون على اثر قرار لجنة الرقابة حذف بعض مشاهد فيلمه ( الباب المسدود) حيث يجيب على سؤال متعلق بعزمه عدم عرض الشريط احتجاجا على قرار تلك اللجنة ( عرض الشريط رغم الحذف الذي طاله) بقوله : انه كذلك (يعني قراره) مرتبط بالاحترام (هكذا) الذي اكنه للمتفرج كشريك و فاعل ثقافي اساسي، و بحق هذا المتفرج في رؤية الافلام كاملة. و هو حق لا تؤديه اية لجنة رقابة عوضا عنه. و في جانب اخر يصرح بقوله : اذا كنا حقيقة نؤمن بالديموقراطية و حرية التعبير و نطمح الى التطور و العصرنة، فانه من الضروري ان نكف عن النفاق و عن اعتبار المواطن غبيا و قاصرا و انه في حاجة دائمة الى من ينوب عنه حتى في اختياراته الثقافية. ان المواطن واع باحتياجاته اكثر من غيره و اكثر ذكاءا مما يظن البعض. ثم ان الاقتصاد الليبرالي الذي يطبع سياستنا يسمح له بالاختيار فهو مستهلك (لم يعد شريكا و لا فاعلا ثقافيا) له الحق في اختيار الافلام التي يريد مشاهدتها..... ثم ماذا حصل من جديد منذ ان اصبح ممكنا مشاهدة هذه القنوات (يقصد القنوات التلفزية الاباحية) التي يمكن (هكذا ) ان تنعت بالخليعة.

وتستمد حيرتي اساسها من التناقض التام الذي يطبع اقوال و افعال عبد القادر لقطع، فبقدرما كانت اجزاء من تصريحاته جميلة كانت تجلياتها على المستوى العملي غاية في القبح و التردي و الميوعة. ففي فيلمه هذا يتجاوز صاحب (حب في الدار البيضاء) كل حدود الاحترام و اللباقة التي يفترض انها تجمع المبدع –على قلة من يستحقون هذا اللقب- بالمتفرج. هذا الرباط الذي يأخذ بعين الاعتبار خصوصيات المحيط المجتمعي العام الذي يعيش الطرفان و يتفاعلان داخل بوثقته إذ ان العملية الابداعية لا تنفصل بتاتا عن الهوية، مما يعني ان جزءا كبيرا من قيمة اي ابداع يكمن في خصوصية هويته كما تنعكس في اسلوبه و روحه. و هذا ما افتقدناه كليا في شريط بيضاوة/ لقطع الذي كرس عكس ذلك افرازات وصفة الانتاج المشترك على المستوى الابداعي حيث صور المغاربة منشغلين بهدف وحيد لا ثاني له متمثلا في البحث المضني عن اشباع رغباتهم الحسية و نزواتهم الجنسية لا فرق في ذلك بين صغيرهم و كبيرهم، غنيهم و فقيرهم.... و بقدر الارتياح الذي قد تحس به العين الغربية بتتبعها لاحداث الشريط ستكون الصدمة قاسية على العين و الاذن الوطنيتين لما حمله الخطاب الفيلمي من تحامل غير مستساغ علينا و ايذاء متوحش لأسماعنا من خلال مشاهد مقحمة لا طائل من ورائها غير اشباع نزوات من يقفون وراءها او من خلال كلمات نابية و تأوهات جنسية تتوالى علينا طوال مدة الشريط بلا معنى و لا هدف محدد يخدم تتابع الاحداث و تسلسلها.

يحاول عبد القادر لقطع في حواراته المتعددة اقناعنا على ان اشتغاله على الجسد الانثوي يستهدف بالاساس خدمة (مشروعه) السينمائي الذي ينعته بالجريء و الحداثي. لكن استعراض المشاهد الموظفة لخدمة هذا التوجه تسترعي الانتباه الى كونها مجرد مشاهد مقحمة يمكن الاستغناء عنها تماما دون ادنى اخلال بتسلسل احداث الشريط. و كمثال على ذلك لا نرى اية اهمية تكمن وراء اقحام مشاهد التأوهات الجنسية مرتين و الاستماع اليها من طرف الطفل كمال، التلصص من وراء الباب على المعلمة من طرف احد الشبان، التلصص عليها من طرف جميع رجال الحي، الحديث بين ابناء الكتبي حول شهر رمضان بلا مناسبة غير اظهار تحريم الممارسة الجنسية اثناء الصوم، تصوير مشهد اعتقال البوليس لشخصين لمجرد عدم توفرهما على عقد الزواج، محاولة الكتبي ممارسة الجنس مع زوجته في عز خوفه من ملاحقة البوليس له، حوار المقدم و الحارس الليلي الذي كان ساقطا الى اقصى الحدود و هو نفس ما راج بين المقدم و العاهرة بالاضافة الى حوارات الطفل كمال و زميلته في الدراسة عن الجنس و الجسد الانثوي و عن التأوهات الجنسية التي الف سماعها كل ليلة منبعثة من غرفة ابويه دون ابداء اي نوع من الحرج نرى انه يبقى طبيعيا اذا اعتبرنا الفترة العمرية للطفلين. و لعل الضجة التي احدثها خروج (حب في الدار البيضاء)الى القاعات في بداية التسعينيات من القرن الماضي اغرت مخرجه عبد القادر لقطع و اعمته عن حقيقة الاسس الاخلاقية التي ينبني عليها المجتمع المغربي رغم ظاهرة الانفتاح التي يتميز بها بشكل كبير. و لأن الشيء اذا زاد عن حده انقلب الى ضده كان رد الفعل الجماهيري باردا اتجاه (بيضاوة ) و (الباب المسدود) ايضا على عكس ما كان ينتظره الواقفون وراء انتاجهما بكل تأكيد.

الابواب المغلقة : الافق المغلق للسينما العربية

شكل الحضور الاجنبي واحدة من السمات الاساسية التي ميزت انطلاقة و تطور فن السينما بمصر بمختلف مستوياتها الابداعية و التجارية. هذا الحضور الطاغي الذي استطاعت الصناعة السينمائية المصرية الافلات منه لعقود عديدة عرفت دخول رؤوس الاموال المحلية (عامة و خاصة) لدائرة الانتاج و تكوين كوادر فنية بمستوى حرفي عال مكنها من تسيير دواليب البيت السينمائي المصري. لكن طموح البعض و تطلعه الى العالمية(!) من جهة و الازمة الانتاجية التي عرفها القطاع في السنوات الماضية من جهة اخرى دفعت بالعديد من (المبدعين) العاملين في الميدان الى البحث عن موارد مالية خارجية تسمح لهم بتحقيق مشاريعهم السينمائية المؤجلة لخروجها عن السائد والمألوف تارة و لضعف الامكانات المتاحة لهم مرارا.

ولعل المخرج يوسف شاهين يبقى واحدا من اعمدة و علامات هذا التوجه المنفتح على دوائر الانتاج المشترك مع اوربا (فرنسا على الخصوص) من خلال شركة مصر العالمية للانتاج التي فرخت عدده لا باس به من تلامذة المدرسة الشاهينية نجد من يينهم اسماء البكري(كونشرتو درب السعادة، احلام صغيرة... )، الراحل رضوان الكاشف (عرق البلح... )، يسري نصر الله (مرسيديس، المدينة...)، خالد يوسف ( العاصفة) واخرون انضاف اليهم المخرج الشاب عاطف حتاتة في باكورة اعماله الروائية المعنون (الابواب المغلقة) موضوع هذا المقال.

الابواب المغلقة شريط يستعرض قصة الفتى المراهق حمادة (احمد عزمي) الذي يعيش مع امه (سوسن بدر) في شقة متواضعة فوق سطح بيت في حي شعبي فقير بمدينة القاهرة. و في خلال متابعتنا لقصة الفتى و امه التي تشتغل خادمة ببيوت الاثرياء بعد انفصالها عن ابيه و انقطاع اخبار اخيه المهاجر الى العراق، نتعرف على مجموعة من الشخصيات الاخرى التي تتداخل حكاياها مع القصة المحورية للشريط _( الصديق المراهق، الاستاذ (محمود حميدة)، الثري و زوجته، المجموعة الاسلامية، الجارة فتاة الليل، الاب... ) و من خلالهم نتعرف على طبيعة الوضع الذي يعيشه المجتمع المصري بتناقضاته السياسية و فروقاته الطبقية و طموحات افراده... لفترة بداية التسعينيات على خلفية احداث حرب الخليج الثانية بتداعياتها المجتمعية، السياسية، الاقتصادية و الاخلاقية ايضا.

الى هنا يبدو كل شيء على ما يرام الا ان تحليل الشريط على قاعدة ( الدين، الجنس، السياسة ) يحيلبا على العديد من الاسئلة التي تصبح مشروعة و قابلة للطرح والتناول وهذا ما سنلحظه في الاسطر القادمة خصوصا وان عددا من الاحداث تلتقي بشكل غريب مع ما سجلناه من ملاحظات على شريط (بيضاوة) لعبد القادر لقطع.

الدين

كان طبيعيا ان يتمحور الجانب الديني في شريط الابواب المغلقة حول احدى التيميتين اللتان شغلتا و ما تزالان الشارع المصري متمثلتين في المسألة القبطية وظاهرة الجماعات الاسلامية خصوصا ان المرحلة التي يتناولها المخرج عاطف حتاتة في شريطه (بداية التسعينيات من القرن الماضي ) عرفت مدا اصوليا متناميا من جهة، و انبعاثا جديدا للمسألة القبطية كأقلية دينية بارض الكنانة من جهة اخرى. و كان ان وقع اختيار المخرج على الظاهرة الاولى ربما لارتباطها الوثيق بالخلفية التاريخية التي حملها شريطه (حرب الخليج) التي سمحت بتقوية صفوف الجماعات الاسلامية سواءا من حيث تضخم عدد المنضوين تحت لوائها عاملين او متعاطفين بفعل السخط الجماهيري على الحكام والانظمة العربية و هي مسألة لم تسلم منها مصر ايضا بعد مواقفها المتخاذلة المسايرة لطرح الامريكي و الممهدة لرد الفعل الهمجي العدواني على العراق وفق ما عرف وقتها بعاصفة الصحراء. كما ان الحدث ذاته ضخ دماءا جديدة في الطرح الفكري و الايديولوجي لهذه الحماعات و اضفى عليها نوعا من المصداقية و الشرعية كانت في امس الحاجة اليهما.

هكذا حاول عاطف حتاتة ( كما كان حال لقطع )رسم صورة كاريكاتورية مسيئة للجماعات الدينية الاسلامية مصرا على تبيان نقطتين اساسيتين :

الاولى، تتمثل في هذا الحضور الطاغي و الفعلي للاسلاميين او الاسلام على الساحة حيث امعن في اظهار طغيان الحجاب لدى النساء خصوصا فتيات المدارس و كأنه يندد بذلك و يدعو الى منعه كما تسعى اليه او فعلته الدول الغربية و تلك السائرة في ركبها حيث اقرار لائكية التدريس بشكل يمنع اية مظاهر تنم عن أي توجه عقائدي معين داخل اسوار مدارسها. كما اعطى اهمية كبرى لسيطرة اتباع هذه الجماعات على المساجد و تحويلها الى مراكز استقطاب و دعوة بل اصبحوا يتحكمون في تنظيم مناحي حياة الافراد و المجتمعات ( محاولة تزويج الام مخافة افتتانها، منع الجارة من ممارسة نشاطها كعاهرة... ) و كأنهم اصبحوا دولة داخل الدولة ان لم يكونوا الدولة ذاتها.

الثانية، تتعلق بوسائل الاستقطاب و التركيز الموجه نحو الاطفال و الشباب على الخصوص من خلال مسجد المدرسة، الولائم، تزويجهم من فتيات الجماعة لتسهيل السيطرة عليهم، منح الكتب و الاشرطة الدينية و كذا تنظيم دروس خصوصية مجانية يصاحبها تدريس لمذاهب الجماعة و توجهاتها (كما في بيضاوة مرة اخرى). هذا الضغط المتواصل على الاطفال يفضي في النهاية الى عملية غسل ادمغة ممنهجة و موجهة ايضا تكرس لتكفير المجتمع و الدولة و تغليب مبدا الجهاد عن طريق التحضير لتأسيس جيش اسلامي (تشابه اخر) يحرر البلد من الكفار محليين و اجانب : أ لم يطلب حمادة من امه حمل الحجاب و التزام البيت تطبيقا لاوامر شيخ الجماعة بل وصل به الامر الى قتلها حين ضبطها متلبسة مع استاذه؟ و هي احداث تعود بنا الى شريط (بيضاوة) رغم ان فعل القتل لم يتم مع وجود نية ذلك ربما لشرعية العلاقة التي تربط الام بالاب عكس حالة الابواب المغلقة.

يتم هذا التوجيه الممنهج باعتماد ايات قرانية و احاديث نبوية منتقاة تعد بحوريات الجنة و لذاتها وهي مغريات تجعل الشباب سهل الانصياع خصوصا مع ما يعانيه من حرمان مادي و كبت جنسي رهيب في حياته الدنيوية.

لقائل ان يقول ان عاطف حتاتة لم يقم الا بنقل الواقع بامانة يقتضيها عمله كسينمائي يسعى للتأريخ لظواهر اجتماعية وسياسية عاشها وعاصرها. لكن الذي يعاب عليه وعلى كثيرين هو هذا التحامل الكامل على الجماعات التي نسميها بالاسلامية، الموجودة فعليا رغم انوفنا جميعا، بالتركيز على تسطيح تحركاتها و افراغها من كل ما قد تحمله من سخط جماعي على الاوضاع التي تعيشها الامة و محاولة ابعادها او الدعوة الى تهميشها و اقصائها من كل فعل مستقبلي يسعى لتصحيح الاوضاع و معالجتها تحت طائلة افكار مسبقة معروفة بدل مناقشة مضامين ما قد تكون حاملة له و مواجة اقتراحاتها باخرى تبدو اكثر فاعلية و تأثيرا و اقناعا لمواطن العادي العاجز عن كل تحرك و الطامح الى قارب نجاة يتعلق به للوصول الى بر الامان باقل الخسائر الممكنة.

ولعل هذه الدعوات الى الاقصاء و ربما الاستئصال تلتقي في مسعاها مع ما اصبح العالم يعيشه اليوم من تكالب القوى الغربية ( المدعمة لهذه الافلام) على الاسلام والبلدان الاسلامية تحت غطاء محاربة الارهاب و الارهابيين في شخص جماعات اسلامية (!) متواجدة هنا و هناك. ولان تأثير وسائل الاعلام و السينما ضمنها لا يمكن ان ينكره الا جاهل، فاننا لا نخجل من طرح تساؤل قد يراه البعض غير عقلاني او متحامل، ان لم تكن مثل هذه الانتاجات المشتركة مجرد تدعيم من اهل البلد و الملة لما سعت و تسعى اليه الآلة الاعلامية الغربية من تكريس لتلك النظرة الدونية المتحاملة على الاسلام و المسلمين بتصويرهم كمجرد ارهابيين متوحشين لا يتوانون عن سفك الدماء و بث الرعب في كل ارجاء العالم المتحضر الآمن و المسالم بما يقتضيه ذلك من ردود فعل تردعهم و تضع حدا لمغامراتهم الهمجية و الامثلة كثيرة من ريبرتوار السينما الهوليودية مثلا.

السياسة

ارتكز الخطاب السياسي لشريط الابواب المغلقة على نقطتين اساسيتين مرتبطتين بمضمونه العام الذي يتخذ من حرب الخليج خلفية سياسية و تاريخية له و من التنديد بالجماعات الاسلامية حجر الزاوية في طرحه الديني الذي اسهبنا فيه في الفقرة السابقة.

فعلى المستوى الاول حاول الشريط تمرير وجهة النظر المصرية الرسمية المطابقة لما تسعى الدول الغربية الى تكريسه و جعله حقيقة ثابتة لا مجال للقفز عليها بما يخدم رؤيتها لما حدث قبل و اثناء و بعد الثاني من غشت 1990، اذ حفل الشريط بالهجوم على صدام حسين سواءا على لسان شخصياته (المرأة الثرية مثلا)او من خلال بث جزء من الخطاب الصباحي الذي تفتتح به الدراسة في المدارس المصرية حيث الاشارة الى رسالة للرئيس محمد حسني مبارك يصف فيها ما قام به الرئيس العراقي بالعمل الصبياني كدعم مباشر للاطروحة الرسمية. لكن الحدث الاكثر استفزازا هو جنوح مخرج الشريط الى ادماج تظاهرة منددة بالعراق و نحن نعلم ان مصر و العالم العربي ككل وقف صفا مساندا للعراق و منددا بتخادل الانظمة العربية على المستوى الشعبي. و هو ما تجاهله مخرج الشريط كليا باصراره الغريب على ابراز تواجد نوع من التطابق و التجانس بين الموقفين الشعبي و العربي و الحقيقة كانت غير ذلك على الاطلاق. و لنا في شريط اخر يعالج نفس الفترة الزمنية العزاء و الدليل ( يتعلق الامر بشريط العاصفة باكورة الاعمال الروائية الطويلة للمخرج خالد يوسف ابن المدرسة الشاهينية بامتياز).

وعلى المستوى الثاني ركز عاطف حتاتة على استغلال الجماعات الاسلامية للدين من اجل بلوغ اهداف سياسية غير بريئة على مستويي الخطاب و الفعل. اذ ينتقد توجه هذ ه الجماعات التي تدعي ان الاسلام وحده هو الكفيل بجمع كلمة الامة على لسان احد الجنود المصريين الذي قاتل الى جانب قوات الحلفاء في حين كان اخوه متواجدا على الجانب الاخر يقاتل بجانب العراق حيث اعتبر ان لم يعد له بلد بعد اليوم فبلده الوحيد هو الاسلام. انتقاد المخرج ربما ينطلق من فشل الاطروحة العروبية و القومية التي جعلت من اللغة اساسا ممكنا للوحدة و هو اختيار اظهر فشلا ذريعا بل زاد الفرقة اتساعا. و في جانب اخر حاول المخرج التحذير من التوجه القائل باقامة نظام اسلامي على انقاض الشيوعية و الرأسمالية اللتان اظهرتا محدودية افقهما و عجزهما عن ايجاد حلول تتناسب و خصوصية المجتمعات الاسلامية بل ظهر عجزهما حتى في البلدان التي انطلقتا منها. وعلى خلفية هذا التحذير ينتقد الشريط تحويل الشباب الى مجرد ببغاءات لا تملك حق المشاركة و التأثير الفعلي في مجريات الامور حولها مما يجعله مجرد ارقام في (الجيوش) التي يعدها القيمون على شؤون هذه الجماعات ليوم الحسم حيث يأخذ (الجهاد المسلح) ابعادا اكثر شمولية تجعل من الدعوة العقدية ذكرى من الذكريات التي استنفذت مهامها.

يحاول شريط (الابواب المغلقة) التشكيك في طموحات و توجهات الجماعات الاسلامية المصرية في سعي لنزع مشروعية العمل السياسي عنها و الدعوة الى مواجهتها بكل حزم و الحيلولة بينها و الفعل السياسي المحظور عليها اصلا في وقت تأكد فيه للجميع انها رقم هام في كل معادلة سياسية ممكنة لتخفيف درجات الاحتقان السياسي الذي تعرفه مجتمعاتنا. مما جعل الكثيرين يدعون لاحتوائها و السماح لها بالعمل القانوني وفق شروط تعاقد واضحة بدل تجاهلها و اقصائها اللذان يمنحانها من القوة الشيء الكثير و يفتحان لها ابواب التواصل الوجداني مع الطبقات الشعبية و هو توجه لا يتوافق مع ما يدعو اليه الشريط مما يجعله خارج دائرة ما يعرفه المجتمع من تطورات فكرية وسياسية متجددة.

وفي جانب اخر يحاول الشريط، ولو باحتشام شديد، انتقاد الدول الخليجية من خلال الشيخ الذي، و في عز ما شهدته و تشهده المنطقة من احداث، لا يتوانى عن تحقيق نزواته الجنسية في اجساد فتيات مصريات في عمر الزهور بما يحيلنا على ما عرفته السياحة الجنسية المرتبطة باموال البترودولار من ازدهار كبير في عدة دول عربية و اسيوية. و تلك نقطة تحسب للشريط رغم احتشامه في الاعلان عنها باعتبارها اشارة تتعدى الافراد لتشمل علاقات الدول بعضها ببعض.

الجنس

لم يسلم شريط الابواب المغلقة من اعتماد النظرة الغربية الى مجتمعاتنا العربية الاسلامية المرتكزة على اظهارنا في صورة مواطنين و مواطنات لا يحركهم الا الهاجس الجنسي المكبوت و الشاذ المسيطر على مخيلاتنا و تفكيرنا، و سعينا الدؤوب لتحقيق تلك الرغبات بكل الطرق الممكنة جائزة كانت ام ممنوعة مع التأكيد على العلاقات غير الشرعية المناقضة لتعاليم الدين الاسلامي و تحميل هذه التعاليم مسؤولية ما نعانيه من كبت جنسي مزمن يرافقنا من المهد الى اللحد.

فكل شخصيات الشريط لا تلهث الا وراء اشباع غرائزها. فالطفل حمادة يقع بين تناقضات لا قبل له على احتمالها فمن جهة تبدأ رغباته الجنسية في الالحاح عليه في اطار التغيرات السلوكية التي تطبع مرحلة المراهقة، و من جهة اخرى يصطدم بالرادع الديني و خصوصا عدم وجود منفذ طبيعي لها لتستيقظ رغباته الاوديبية تجاه والدته قبل ان تنحرف الى جارته بائعة الهوى التي لا ترى مانعا في ذلك بل تدعوه اليه باستمرار بنظراتها و اقوالها و تصرفاتها الاغرائية. كما ان الالتزام االديني الذي يحاول التطبع به لم يمنعه من ممارسة العادة السرية و البحث، بمعية صديق له، عن دار للدعارة لاطفاء جذوة الرغبة المشتعلة داخله و التوجه بعدها مباشرة الى المسجد مما اثار استنكار صديقه لتكون الاجابة المنتظرة ( و ما ملكت ايمانكم) و هو استشهاد يحيل على فكر الجماعة التي ينتمي اليها. هذا الصديق الذي لم يتوان عن انتهاك محارمه من اخواته البنات مستغلا تزاحمهم في غرفة واحدة مما دفع بزوج امه لطرده من البيت. و لم تسلم شخصية الثري من هذا الجنوح حين حاول ممارسة الجنس على الخادمة (ام حمادة) بعد مراقبته لجسدها برغبة جامحة و هو يشاهد الطائرات الامريكية تقصف العاصمة بغداد على شاشة التلفاز. كما ان الاب تخلى عن عائلته من اجل فتاة صغيرة حاول ان يستعيد معها شبابه متخليا عن زوجته السابقة التي لم تجد تعويضا لها الا في علاقة محرمة مع استاذ ابنها الذي استسلمت له بعد مقاومة شرسة لرغباتها المكبوتة لم تستطع الذهاب فيها بعيدا كما لم يفت الشريط الاشارة الى ان اشتغال الجارة بالدعارة يتم بمباركة زوجها الذي لا يرى مانعا في ذلك ما دام مصدر عيشهم الوحيد.

ان اصرار عاطف حتاتة كما المخرجون الاخرون على اظهار مجتمعاتنا على هذا النحو ما هو الا سعي مفضوح لمغازلة العين الغربية و استجداء عطفها بتأكيد الصورة التي رسمتها في مخيلتها عنا و عن تفاصيل شخصيتنا و نفسيتنا كما ارادتها ان تكون لا كما هي بالفعل. هذا القول لا يعني ان ليس فينا شيء من ذلك لكن التركيز عليه دون غيره من المكونات الايجابية لشخصيتنا و هويتنا ينم عن توجه ملؤه الاصرار و الترصد للنيل منا و السخرية من ذواتنا بما يقلل من ماضينا’حاضرنا و مستقبل طموحاتنا.

خاتمة

ان تناولنا بالتحليل لافلام (صيف حلق الوادي)، (بيضاوة) و (الابواب المغلقة) كنماذج متميزة لسلسلة الافلام المنتجة تشاركيا مع اوربا، يكشف عن عدة معطيات نستطيع اجمالها فيما يلي :

1- سعي هذه الافلام الى قولبة الواقع العربي في قالب فلكلوري، رجعي و متخلف عن الركب الحضاري وفق التصور السائد و المعروف عن حكايات الف ليلة و ليلة و بقية الاساطير التي يتندر بها العالم الخارجي عن ماضيها و حاضرنا و مستقبلنا بما يعني تغدية هذه الافكار و ترسيخها اكثر، لكن هذه المرة بايدي و عقول تنتمي لهذا الواقع مما يفضي عليها طابع المصداقية التي تفتقدها الجهات الخارجية.

2- اذا كان الانتاج المشترك قد سمح لافلامنا ان تصبح اكثر جودة من الناحية التقنية، فانه ادى ايضا الى اقبار اية امكانية للابداع على مستوى الموضوعات التي يمكن من تناولها بفعل جاهزية الوصفة او التيمة التي يصر على اثارتها، و يبذل من اجلها الكثير من الحوافز و الاغراءات التي اصبحت معها المشاركة في المهرجانات و (الفوز) ببعض الجوائز الهدف الاسمى لاغلبية من ساروا في فلكه من المخرجين العرب، مما يعني تبعية سينمائية و وصاية اخرى تنضاف لسلسلة الوصايات التي يرزح المواطن العربي تحت وطأتها.

3- غلبة منطق الصداقات على عمل المخرجين حيث نراهم يستعينون ببعض الوجوه دون ضرورة فنية بل ربما ارضاءا للخواطر و للبعد الفرنكفوني المتخفي وراء هذا الدعم المتواصل. و لا ادل على ذلك من حضور بعض الاسماء من قبيل : ميشيل بوجناح وكلوديا كاردينال (صيف حلق الوادي)، ميشيل بيكولي (المهاجر)، فاطمة المرنيسي والمهدي القطبي (البحث عن زوج امرأتي)، يسرا (المدينة).... الخ ان تكريس الانتاج المشترك لصيغة (نحن نختار لك، نحن نفكر نيابة عنك) التي تحولت سينمائيا الى صيغة (نحن ننتج سينما عنك و لك و نيابة عنك)، انما هو تمظهر جلي للتبعية الاعلامية التي تعانيها مجتمعاتنا بل من يفترض فيهم انهم (نخبتنا). فلسنا نعاني من التبعية لان معظم ما نأكله و نلبسه يأتينا من الخارج و معه كل ما نستعمله من ادوات و معدات و وسائل و اختراعات، بل لاننا نرزح تحت وطأة غزو اخطر يوجه فكرنا و عقلنا و رأينا و ذوقنا و تربيتنا و تكويننا الشخصي و مفاهيمنا و توجهاتنا، بل يرسم ايضا صورة نمطية لواقعنا و احلامنا مختصرا اياها في مسائل تافهة تعطي الانطباع اننا خارج التاريخ و الحضارة الانسانية، و تحاول تحويلنا، ان لم نتحول فعلا، الى كائنات مستهلكة مصابة بالكسل الذهني و مأخوذة بما ينتجه الغرب و يبدعه، فننقل و نقتبس و ننسخ حتى صار النقل عندنا هو القاعدة و الابداع هو الاستثناء. و لن اجانب الصواب ان اجزمت انها حالة من يدعون انهم يمارسون الفعل الثقافي في اقطارنا. لكن الاغرب اننا ما زلنا نصدقهم و نجد من يصفق لهم.... 

موقع "إيلاف" في  14 فبراير 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

بسام الذوادي ـ لقاء

      مهرجان البندقية.. يكرم عمر الشريف

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

آسيا جبّار عبّرت عن الهواجس الدفينة للمرأة

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

الدين.. السياسة.. الجنس:

الوصفة المشتركة لأفلام الإنتاج العربي/الأوروبي

أوشن طارق