لقد شهد موسم 1995 السينمائي حدثاً مهماً على صعيد الإخراج، وهو
ميلاد
مخرج جديد وجاد. وذلك عندما قدم فيلمه الأول (يادنيا ياغرامي)،
الذي أذهل به
الجميع، وحصد الجوائز الكثيرة والتقدير النقدي والجماهيري الكبير.
وميلاد مخرج
جديد في السينما المصرية، ليس حدثاً عادياً كما يعتقد البعض،
خصوصاً إذا كان هذا
القادم الجديد على السينما المصرية يملك رؤية سينمائية جادة
ومتميزة، يبعث بها
روحاً جديدة لهذه السينما العجوز
.
والفيلم من إخراج المخرج مجدي محمد
علي، وسيناريو محمد حلمي هلال، وتمثيل ليلى علوي وهشام سليم وإلهام
شاهين وهالة
صدقي، وإنتاج فنان قدير هو رأفت الميهي، الذي قال: (... لم أكن
مغامراً بإنتاج
هذا الفيلم ، رغم أنني استدنت تكاليف إنتاجه من البنوك .. لقد
وضعت ثقتي كاملة في
المخرج وأعطيته الفرصة للإجادة والظهور).
ومجدي محمد علي فنان طموح،
تخرج من المعهد العالي للسينما، وعمل بعدها كمساعد مخرج لأكثر من
عشر سنوات. وبالطبع استفاد هذا الفنان الشاب كثيراً من خبرة كل
مخرج عمل معه، حتى كون شخصيته
المتميزة كمخرج.. شخصية قادرة على الخلق والإبداع. حيث قدم في
باكورة أعماله الروائية فيلماً جديراً بالمشاهدة والثناء قادراً
على الإقناع، وذلك نتيجة اختياره
الموفق للسيناريو المذهل الذي حرص على تقديمه .
والفرحة، هو أول شعور
ينتابني بعد مشاهدة فيلم (يادنيا ياغرامي ـ 1995).. وبالطبع لم
يأتي هذا الشعور من
لاشيء، فقد كان الفيلم بارعاً وصادقاً لدرجة انتزاع كل الإعجاب.
فالصدق الفني والاجتماعي هما أبرز ما قدمه الفيلم، حيث قدم شخصياته
صادقة انتقاها بعناية من
الأحياء الفقيرة وصاغها في قالب منطقي مدروس، بل ونجح في
الدخول إلى تفاصيل الحياة
اليومية البسيطة لهذه الشخصيات. إضافة إلى ذلك النسيج الدرامي
الأخاذ في وصف
الحياة البسيطة بالرغم من إحباطات الحياة الكثيرة. وذلك الأسلوب
الشاعري الذي يتخذ
من الواقعية أساسا له، في الإمساك بالروح المصرية والتعبير
عنها من خلال ثلاث
شخصيات رئيسية .
ففي فيلم (يادينا ياغرامي) نحن أمام ثلاث فتيات عاملات تجاوزن
سن الزواج الاعتيادي. هذا بالرغم من تحليهن بقدر من الجمال
وخفة الدم .
ومع تواضع المطلب وبساطته في تحقيق الطموحات والأحلام، لم تستطع أي
منهن أن تحقق حلمها البسيط المتمثل في الحب والزواج والحياة الآمنة
مع ابن الحلال
.
الشخصية
الأولى هي فاطمة (ليلى علوي) التي أحبت ابن خالتها الميكانيكي يوسف
(هشام سليم)
وتمت خطوبتها منذ أربع سنوات، دون أن يتمكن هو من الوفاء
بالتزاماته التقليدية
الضرورية والمتمثلة في الشبكة والمهر. لذلك يتجه للسرقة والنصب حتى
على أصدقائه
على أمل الاقتران بفتاة أحلامه، لذلك يدفع الثمن غالياً عندما يودع
السجن لمدة
ثلاث سنوات، ليفقد كل شيء إلا حبه لفاطمة.
والشخصية الثانية سكينة (إلهام
شاهين) التي أحبت شقيق الأولى عبده (أحمد سلامة) وانزلقت في دهاليز
الحب إلى هوة
سحيقة تفقد على إثرها عذريتها، ويغيب فتى الأحلام سنوات الغربة في
الكويت ليعود
خاوي الوفاض وأكثر عجزاً عن الزواج متردياً في أجواء البطالة
والتطرف مما يحول دون إصلاح خطئه أو إتمام الزواج. وبعد عملية
لإعادة البكارة تتزوج في النهاية .
أما
الشخصية الثالثة فهي نوال (هالة صدقي) التي ارتبطت بشقيق الثانية
حسن (مجدي فكري)
خريج كلية الحقوق الذي يحبها بدوره، لكنه يصاب بما يشبه اللوثة
العقلية، ويظل
يرسل لها عبر الترانزستور أغنيتها المفضلة «يادنيا يا غرامي» لعبد
الوهاب. لتصبح
نوال لقمة سهلة يحاول صاحب محل الزهور التي تعمل به النيل منها،
وكذلك الثري رياض
(حسين الإمام) الذي يوافق بعد محاولته
الفاشلة للنيل منها على الزواج منها عرفياً،
لتصبح سعادتها ناقصة.
من خلال النظرة العامة للرؤية الفكرية والفنية التي
طرحها الفيلم، نلمس ذلك التحرر الكامل والانطلاق نحو تجسيد
العلاقات الحميمية التي
تعيشها المرأة، والفهم الكامل لأعماقها الإنسانية، وتأكيد إرادتها
كمخلوق له شخصيته المستقلة. فبالرغم من كل هذه الإحباطات والظروف
الاجتماعية والمعيشية
الصعبة احتفظت الفتيات الثلاث بالقدرة على المرح وانتزاع اللحظات
السعيدة وذلك
بالتحايل على الظروف والخروج إلى الحياة والاستمرار بالتمتع في
شرب القهوة
الإيطالية (الكابتشينو)، فهذا أقصى ما يستطعن تحقيقه من ترف
ورفاهية
.
فيلم (يا دنيا يا غرامي) ـ بشكل عام ـ يبعث على الأمل في حياة
أفضل، في كثير من مشاهده، مؤكداً على انتزاع
البسمة والضحكة من أفواه شخصياته، وتكرار المحاولة والتمسك بأهداب
الحياة. هذا
بالرغم من أن أحداث الفيلم تدور في غالبيتها في حواري متواضعة وسط
الفقر والجوع والحرمان إضافة إلى الفشل والعجز الذي صاحب بعض
شخصياته
.
يعالج السيناريو
(الذي كتبه محمد حلمي هلال) أفكار ومواقف حياتية يومية بسيطة، ليس بها
ذلك التعقيد
الدرامي المعتاد، أي بمعنى أننا ربما شاهدناها في الكثير من
الأفلام، إلا أنها
هنا جاءت بصياغة جديدة وصادقة بعيدة عن الفذلكات والمبالغات
الدرامية. فالشخصيات
التي قدمها الفيلم، تعيش حياتها اليومية ببساطة بالرغم من المنقصات
المحيطة حولهم. حيث نلاحظ بأن الشخصيات الثلاث يسرقن أنفسهن من كل
الإحباطات ليعشن لحظات الفرح
الجميل، والتي تساعدهن على الاستمرار في حياتهن الصعبة تلك .
والفكرة
الوحيدة المطروحة بشكل جديد، ربما تكون فكرة العذرية عند شخصية
سكينة. وهي فكرة
ناقشها الفيلم بوعي وحذر، بل واتخذ موقفاً جريئاً تجاهها. ففي
ظل مجتمع متخلف
كهذا، مجتمع تسوده قوانين الرجل، ترفض سكينة في البداية أن تعمل
عملية ترقيع
البكارة، بل أنها تصمم على ذلك، حيث تساءل نفسها وصديقاتها عن
الذنب الذي ارتكبته. لكننا نراها ترضخ في النهاية أمام ضغط المجتمع
وقوانينه، حيث تصبح عملية إعادة
البكارة هي الحل الوحيد للزواج من رجل شرفي .
هذا إضافة إلى أفكار أخرى، مثل
فكرة الإحباط والعجز وعدم القدرة على الفعل عند الشباب وذلك نتيجة
القهر الاجتماعي
المحيط. فشخصيات (يوسف وعبده وحسن) جميعها تجسد ذلك العجز، ومثلما
شاهدنا يوسف وهو
يتحايل على الظروف بالنصب والسرقة، شاهدنا عبده وهو يبتعد عن
حبيبته ويتركها
لوحدها تواجه المستقبل بقلب مكسور وعذرية ضائعة. كذلك حسن الذي فشل
في مواجهة الواقع فضاع في الأوهام .
أما شخصية زهيرة هانم (ماجدة الخطيب) فهي المنحدرة
من أسرة ثرية بل رأسمالية متعجرفة، إلا أنها تصبح شخصية باهتة
في مجتمع الفقراء
بعد ضياع كل شيء منها. كما ينجح الفيلم في تجسيد ذلك الكم الرهيب
من التناقض داخل
هذه الشخصية بشكل كاريكاتوري خفيف وذلك عندما تتمنى سندوتش الفول
ولكنها تخاف
الفضيحة
.
ثم هناك الهوس الخاص بالإعلانات وجنون الجوائز المالية، الذي نجح
السيناريست بتقديمه في الفيلم بشكل سلس ومقبول. ونجح في كشف
ذلك الزيف الذي يحيط
بهذه الجوائز .
أما أغنية (يادنيا ياغرامي) والتي هي عنوان الفيلم، فقد كانت
محركة في الفيلم وباعثة للأمل، باعتبارها تمثل واقع أبطال
الفيلم، بما تحمله من
دلالات عن دنيا الحب والغرام .
لقد نجح السيناريو كثيراً في تفهم دوافع
شخصياته، وتبرير تصرفاتهم بشكل منطقي ومدروس. ثم أن التفاصيل
الصغيرة والكثيرة
التي أحاطت بالشخصيات قد ساهمت في تألق هذه الشخصيات وانتزاع
التعاطف معها من قبل
المتفرج. أضف إلى ذلك تلك الأحداث والمواقف الحميمية التي لم
تخرج بتاتاً عن منطق الشخصيات ومصداقيتها.. أحداث صاغها السيناريست
بشكل يتناسب وأعماق الشخصيات
ودواخلها. مبتعداً بذلك عن المباشرة، ومتحاشياً قدر الإمكان
بالابتعاد عن إعطاء
مواعظ وخطب رنانة عن الشرف والأمانة. وبذلك قدم سيناريو مركز يبتعد
عن الثرثرة
الحوارية
.
ومن حسن حظ الفيلم أن يكون مخرجه هو الفنان مجدي محمد علي.. مخرج
استطاع أن يصل بهذا السيناريو الجيد إلى آفاق فنية رحبة. فقد ابتعد
عن
المبالغة في إبراز المهارات، واعتمد أسلوباً سهلاً في توصيل ما
أراده السيناريو .هذا
إضافة إلى أن الإخراج تميز بإيقاع سريع وحيوي، معتمداً على مونتاج
أخاذ يتناسب
والحدث ومعبراً عن تصرفات الشخصيات.
أما التصوير، فقد كانت الكاميرا تتميز بحركة
موفقة وزوايا تصوير منتقاة بعناية إضافة إلى الاختيار الموفق
للإضاءة الدرامية
المعبرة التي ساهمت في إعطاء تكوينات جمالية قوية للكادر. وقد ساهم
المونتاج
والتصوير إضافة إلى الموسيقى التصويرية التي تتميز بالشاعرية،
في إيصال الفيلم إلى
مستوى راق من الإبداع. حيث نجح المخرج في إدارة فريقه الفني من
فنيين وفنانين،
خصوصاً إدارته للممثلين رئيسيين وكومبارس، فكانوا في أفضل حالاتهم
الأدائية. وتميز منهم على سبيل المثال ليلى علوي وإلهام شاهين
وهالة صدقي.
وختاماً.. لابد من
التأكيد على أن فيلم (يادنيا ياغرامي) يعد من الأفلام المتميزة
القليلة التي أنتجتها السينما المصرية في العقدين الأخيرين. كما
أنه بشر بميلاد مخرج موهوب
ينتظره مستقبل زاهر في دنيا الإخراج السينمائي .