منذ سنوات، كان لنا حديث عن
فيلم جديد، آنذاك، وكان أول أفلام مخرجه. الفيلم كان (زمن حاتم رهران
1986) للمخرج محمد النجار، وكان فيلماً ناجحاً كفيلم أول. وذكرنا وقتها
بأن محمد النجار كمخرج جديد كان موفقاً، إلا أن أفلامه القادمة هي المرشحة
أكثر لتوضيح منهاجه وأسلوبه السينمائي.
وها نحن، في مقالنا هذا، نتناول فيلمه الثالث (الصرخة ـ 1992)، وهو من
بطولة نور الشريف ومعالي زايد ونهلة سلامة.
بعد فيلمه الأول، قدم المخرج محمد النجار فيلمه الثاني (الذل ـ 1990)
وكان فيلماً مخيباً بالنسبة لفيلمه الأول. وبعد فيلمه (الصرخة) قدم فيلم
(الهجامة ـ 1993). وبشكل عام، فإن المخرج محمد النجار لا يقصد أو لا
يطمح أساساً في تقديم أفلام ذاتية، بل أعمالاً ذات صبغة جادة ومواضيع
مختلفة عن السائد، وهو ما نستنتجه من مجموعة أفلامه. وبالطبع فإن غياب
مثل هذا الطموح لدى المخرج، يترك أعماله بلا أسلوب خاص خالياً ولو من قدر
بسيط من الذاتية.
أما في فيلم (الصرخة)، فقد إختار كرم النجار (المؤلف) عالماً شديد
الخصوصية يتحدث فيه عن هؤلاء العاجزين عن الكلام والنطق، رغم إرادتهم.
عالم كل من فيه أخرس.. أبكم.. أصم، وإن إمتلك القدرة على الفهم
والمتابعة، وتحلى بالفطنة والذكاء الفطري. فالمؤلف هنا يقدم تجربة
إنسانية صادقة، لولا بعض السلبيات التي عطلت رسالة الفيلم الأساسية في
المشاهد الأخيرة.
يتحدث الفيلم عن عمر الفرماوي (نور الشريف)، ذلك الشاب الذي فقد حاستي
السمع والنطق منذ طفولته. يموت والده بعد أن ترك له مبلغاً من المال، ذلك
الذي يعتبر ثروة بالنسبة للفتاة (معزوزة)، والتي تقبل به زوجاً طمعاً في
الثروة. وهناك أيضاً ـ في نفس الحي ـ فتاة أخرى، كان قد شاهدها عمر وهي
في وضع عاطفي مع شاب، لاحقاً ما تخلى عنها بعد أن حملت منه، وهي تعيش في
إنتظار المولود/الفضيحة.
يهرب عمر من الشرطة، معتقداً أنه قتل أحدهم، أثتاء دفاعه عن بيته الذي
تود مصلحة الضرائب الحجز عليه. وينتهي به المطاف في معهد للخرس والبكم،
بعد أن أرشده اليه صديق له أخرس أيضاً. في هذا المعهد تستغله وتستخدمه
لأغراضها العلمية الدكتورة تيسير (معالي زايد)، التي تعد رسالة دكتوراة عن
أسلوب الإشارات عند الصم والبكم. في المعهد يبدأ رحلة جديدة مع الوعي
والأحاسيس الفطرية، يستشعر الحب يتسلل الى قلبه في هدوء، تجاه فتاة صماء
بكماء من فتياة المعهد (أمل الصاوي).
في الجزء الأخير، يقدم السيناريو حبكة درامية أبطالها ثلاث نساء، يحاولون
النيل من الأخرس عمر بطريقة أو بأخرى. الأولى تطمع في ماله، ولأنها لا
تحصل عليه تتفق مع الثانية على الإدعاء بأن الأخرس هو الذي ضحك عليها
وعاشرها ثم تخلى عنها، والثالثة تعرض عليه نفسها إلا أنه لا يستجيب لها
خوفاً من المعصية، ومع ذلك تساعد في إدانته عندما تتم محاكمته في قضية
رفعتها المرأة الحامل. لذا يعترف الأخرس بما لم يرتكب فيطلق سراحه. لكنه
يعمد ، مع باقي مجموعة الخرسى، الى إختطاف النساء الثلاث ونقلهن الى
مختبرات الصم في المعهد، حيث يحاكمهن ويصدر مع الآخرون الحكم عليهم. يتم
ربط أيديهن وكم أفواههن وإدخالهن غرفة التعذيب، والتعذيب عبارة عن مكبرات
صوت تصدر صريراً متواصلاً وعالياً يؤدي بالتدريج الى إفقادهن السمع،
لينتهي الفيلم بصرخة يطلقها الأخرس تعبيراً عن إنتصاره عليهن.
فيلم (الصرخة) إستمر يشد إهتمام المتفرج حتى منتصفه، حيث إثارة
الشفقة والتعاطف مع هذا الإنسان الأصم الأبكم الذي يعيش في غابة من الأشخاص
الطبيعيين، حيث يحاول كل من يلتقي به إستغلاله والإستفادة من عاهته. إلا
أن هذا التعاطف، خاصة في المشهد الأخير، لا يلبث أن يتحول الى الشعور
بالنفور من هذا المعوق الذي يملك كل هذا العنف وكل هذه القسوة التي تجعله
ينتقم هذا الإنتقام المخيف والمروع. ولم يكتف الفيلم بأن يجعل الإنتقام
فردياً، بل إنه جعل مجموعة المعوقين في المعهد يشتركون جميعاً في الجريمة. وبذلك تحول الفيلم الى نوع من العداء بين المعوقين والآخرين، مما قد
يدفع المتفرج من الخوف من المعوقين بدلاً من الإحساس بمشكلتهم. ثم أن هذه
النهاية البشعة قد أضرت كثيراً بالفيلم فنياً، وأثرت على رهافة التناول
التي سادت تنفيذ أحداث الفيلم، وأفسدت المتعة الفنية والبهجة التي إستطاع
تجسيدها المخرج، لتتحول صرخة المرارة والألم التي يطلقها عمر الأخرس في
النهاية الى تعبير أجوف عن إنتصار زائف وتتويج لنهاية دموية، تلحق الفيلم
ـ عنوة ـ بتيار سينما الدم والعنف، وهو على العكس من ذلك، يفيض رقة
وعذوبة، ساهم فيها الفنان نور الشريف بأدائه الواعي والمتفهم للشخصية. |