يشترك الفيلمان (آخر الرجال المحترمين)، و(بيت القاصرات)، وهما
إنتاج عام 1984، في خصوصية هامة واحدة، وهي المعالجة الدرامية
السينمائية للنقد الاجتماعي الجريء لبعض القوانين الحكومية
الروتينية الجامدة. وقد تحدثنا في مقال سابق عن الفيلم الأول،
وذكرنا بأن الفيلمين قد تناصفا الجائزة الأولى لمهرجان الإسكندرية
السينمائي في ذلك العام.
أما فيلم (بيت القاصرات)، فقد كان بالفعل مفاجأة سارة للوسط الفني
وللمتفرج على حد سواء. فقد توقعنا من خلال عنوان الفيلم بأننا
سنشاهد فيلماً مشابهاً لعشرات الأفلام التي تدور حول الإصلاحيات
وما
يدور فيها.، وهو موضوع سبق للسينما المصرية أن عالجته مراراً
وبأشكال تقليدية تغلب عليها الميلودراما الفجة مع نهاية سعيدة فيها
الموعظة والإرشاد والتوجيه المباشر. إلا أن فيلم (بيت القاصرات)
يخيب توقعاتنا، وينحرف بالموضوع انحرافا إيجابياً خطيراً، ليصبح
وثيقة اتهام مدهشة عوضاً عن أن يكون درساً أخلاقياً ميلودرامياً.
فنعيمة (سماح أنور) بنت فقيرة تبيع الفول السوداني في محطة الباصات
وتربطها علاقة بريئة بسائق التاكسي الشاب أمين (محمود عبد العزيز).
ولكن شبان المحطة يطمعون بنعيمة ويحاولون الاعتداء عليها، فيقبض
عليهم جميعاً من قبل شرطة الآداب، وتتهم نعيمة بالخطأ ـ طبعاً ـ
وهي قاصر في حادث دعارة، توضع على إثره دار رعاية
الفتيات (بيت القاصرات ـ الإصلاحية).
هنا تبدأ محاولات حبيبها أمين، والذي ينوي الزواج منها، في إخراجها
من الإصلاحية، ولكنه يصطدم دائماً بالروتين الحكومي الجامد، وليكشف
أيضاً ذلك التنافر فيما بين الإجراءات القانونية والأشخاص الذين
يريدون
تنفيذه حرفياً باسم القانون. ولعل الحوار الذي دار بين مديرة
الإصلاحية (محسنة
توفيق) والمشرف الاجتماعي (أحمد راتب) بعد مشهد الانفجار النفسي
لنعيمة، لأقوى
تعبير عن الرفض الصارخ الذي يؤكده كاتب السيناريو (أحمد عبد
الوهاب) لجمود هذه
القوانين والسلبية التي يتحلى بها من يقوم بتنفيذها بحذافيرها.
يروي فيلم (بيت
القاصرات) قصة البنت الفقيرة التي دافعت عن عذريتها وشرفها وهي في
الشارع وفقدتهما عندما دخلت إصلاحية أحداث المنحرفات.. إنها حقاً
لمفارقة مؤلمة، يرجع سببها لتلك القوانين الجامدة وسوء الإدارة
العمياء، هذا إضافة إلى جو الإصلاحية
الفاسد.
والفيلم في كثير من الأحيان يأخذ طابع الكوميديا الخفيفة الهادفة،
وذلك
عندما قدم السيناريو للمتفرج هذه المأساة الناعمة من خلال
ابتسامات وضحكات لا تميت
القلب بالطبع، مع دموع نبيلة تطهر النفوس في وقت واحد. كما وفق
السيناريست أيضاً في تقديم مشاكل القاصرات بشكل معبر غير مبتذل، من
خلال نماذج إنسانية بائسة بعضها
ضائع وبعضها يائس والبعض الآخر مستسلم. كما لا ننسى الإشارة إلى
أنه استطاع ـ بشكل
مقنع وغير مقحم ـ أن يعرض للمتفرج أزمة سيارات الأجرة في مشاهد
سريعة تلقائية
وخفيفة الظل، مستغلاً كون بطله سائق أجرة.
أما المخرج (أحمد فؤاد) فبلا شك من أن هذا الفيلم يشكل تطوراً
ملحوظاً في أسلوبه واتجاهه السينمائي. فبعد العديد من أفلامه
الكوميدية التجارية، والتي بدأها بفيلم (رجب فوق صفيح ساخن)، يخرج
للمتفرج
بحلة جديدة وجادة ليناقش موضوعاً إنسانياً ويطلق صرخة جريئة ضد
القانون والمجتمع، من خلال قصة واقعية جداً. فهو في هذا الفيلم لا
يساوم ولا يتنازل ولا يبحث عن متعة
الجمهور البليد الذي لا يفكر.. فهو هنا يعطي للجزئيات أهمية تعادل
الأساسيات من
خلال الإحساس بأعماق المواقف وحنان متدفق يجعله يصل إلى قلب
وعقل المتفرج.
ولا
خلاف على أن الكوميديا فن عظيم ومطلوب، ولكن في المقابل لا بد أن
تحمل فكرة أو قضية تهم المتفرج وتقول له ما يفيده. وتجدر الإشارة
هنا إلى أن المخرج أحمد فؤاد
يملك حساً فكاهياً كبيراً كشخص، وفهماً أكيداً للكوميديا، وهي
بالنسبة لمخرج
الكوميديا خاصية هامة بل ضرورة مهنية مرتبطة بعمله، لأن فاقد الشيء
لا يعطيه.
مستوى التمثيل جيد، بل ممتاز أحياناً. فإذا كان متوقعاً من محمود
عبدالعزيز
أن يؤدي دوره بإتقان (في أول أدواره الكوميدية)، ومن محسنة توفيق
أن تقدم نفس المستوى في الأداء الطبيعي المتقن، فإن المفاجأة هي
سماح أنور التي أدت دورها بثقة
وتوازن وبدون أدنى افتعال، استحقت عليه جائزة تقديرية في
مهرجان الإسكندرية السابق
الذكر.
كما يبرز لنا في الفيلم عنصراً المونتاج والتصوير بشكل ملحوظ، فقد
أضفى المونتير (عادل منير) إيقاعاً سريعاً على الأحداث لم يسمح
للمتفرج بفرصة لالتقاط
أنفاسه. أما التصوير، فيكفي أن يكون مديره (سعيد شيمي) الذي
قدم أعمالاً كبيرة
وهامة مثل (سواق الأتوبيس ـ الحريف ـ المجهول). أما في هذا الفيلم
فقد استطاع شيمي أن يضيف إلى رصيده الفني والى الفيلم مستوى
عالي من التقنية وسرعة الحركة بكل وسائل
التصوير المتاحة له.