بالنسبة لفيلم كلينت إيستوود الأخير (غران تورينو)،
فيبدو منذ الوهلة الأولى بأنه فيلم عن العنصرية واختلاف الأجناس،
والاحتكاك والتلاحم فيما بينها.. إلا أنه في الباطن أكثر من ذلك،
فهو فيلم يقدم حواراً فلسفياً عميقاً، ويدخل إلى مناطق درامية
صعبة، حيث الكثير من مشاعر الخوف والرهبة، التي تصاحب شخصياته.
في
هذا الفيلم نحن أمام العجوز وولتر كوالسكي (كلينت إيستوود)، الذي
كان مقاتلاً سابقاً في الحرب الكورية مع بداية الخمسينات من القرن
الماضي، وكان أيضاً عاملاً في أحد مصانع سيارات فورد، حيث مازال
يحتفظ بسيارة الغران تورينو إنتاج عام 1972.
كوالسكي، أصبح الآن وحيداً ومعزولاً تماماً في هذه الحياة، بعد
وفاة زوجته، إضافة إلى أنه صعب المراس، ومن الصعب أن يجد من يفهمه
ويتواءم مع طباعة الصعبة، حتى أبناءه وأحفاده، بدؤوا يتحاشونه، بعد
محاولات متعددة للتقرب منه، وبالتالي لم يسعوا للوصول إلى قلبه
الطيب، وتفهم أسباب تجهمه وغضبه.
هذا
الرجل الثمانيني، رجل تعتمره مشاعر عنيفة، حيث لا يخفي عنصريته
تجاه جيرانه من الصين أو كوريا، الوافدون إلى هذا الجزء الهادئ من
أمريكا، وبالطبع فهذه النظرة الرافضة لهم تنبع من ماضيه، حيث قتل
الكثير منهم في الحرب الكورية، ولا يزال يحتفظ بأسلحته التي
استخدمها هناك (مسدس/ بندقية).. كوالسكي أيضاً، نراه يرفض الكنيسة
ومحاولات القس الكاثوليكي دفعه للعودة إليها والاعتراف بخطاياه..!!
تتمكن
جارته الفتاة الفقيرة (سوو) من كسر الجمود الذي يعيشه هذا العجوز،
وتنجح في الدخول إلى عالمه السري.. وتستطيع أن تغير الطريقة التي
اعتاد العيش عليها، وهي بالطبع تتحمل كلماته القاسية، مبدية حزنها
حيال حياته هذه وانعزاله عن المجتمع من حوله.. لذا تنجح في استخراج
كل تلك المشاعر الأبوية والعاطفة الجياشة التي يختزنها كوالسكي في
قلبه الحزين.. بعد أن أنقذها هي وأخيها (ثاو) أكثر من مرة من سيطرة
العصابات الأشرار.
ففي
محاولة فاشلة من الصغير (ثاو) لسرقة سيارة الغران تورينو الذي
يخزنها كوالسكي في الجراج، بإيعاز من أفراد العصابة، يقوم العجوز
كوالسكي بتأديب الصبي الذي تسيطر عليه مشاعر الخوف والخجل، بل
ويسهم بفاعلية في تغيير حياته، وبعده عن ابن عمه وأفراد العصابة
التي تحاصره وتحاول إجباره على أن يكون واحداً منهم. إلا أن هؤلاء
يعتدون على ثاو وعلى الفتاة سوو، ويغتصبونها. مما يجعل من كوالسكي
اتخاذ قرار مواجهتهم، في نهاية دامية، دون سلاح لكي يورطهم في قتله
بالرصاص، وبالتالي يتم تدمير حياتهم بطريقة قانونية تماماً، حيث
يقضون حياتهم خلف القضبان.. هذا بعد أن عرف بأن حياته منتهية لا
محالة، بعد إصابته بمرض السرطان، هنا يفوز الصبي ثاو بسيارة
الغران تورينو، بعد أن تعلم من كوالسكي العجوز كيف يصبح رجلاً
يواجه الحياة.
فيلم (غران
تورينو) محاولة لاحتواء الثقافات الأخرى، والدعوة للتعامل معها
بروح العصر الحديث، ويبدو ذلك جلياً في أكثر من مشهد، حيث يتم
الاعتراف بهم وبحضور ثقافتهم وليس فقط تواجدهم في المكان.. خصوصاً
عندما يقدم ايستوود نفسه كقربان من أجل سعادة الآخرين.. هؤلاء
الأجانب، الآتون من ثقافة أخرى، القابعون في زوايا أمريكا بعد أن
طردوا من بلادهم من أجل أمريكا المحاربة.
إيستوود صاحب الـ"غران تورينو"
حديثنا
عن فيلم (غران تورينو) للأمريكي كلينت إيستوود، يجرنا للحديث عن
تجربة هذا الفنان المتميز طوال مشواره السينمائي الطويل.. فيلمه
هذا هو الأخير ضمن قائمة طويلة بين تمثيل وإخراج.
فقد
برز المخرج العجوز كلينت إيستوود بشكل لافت في ما أنتجه في السنوات
العشر الأخيرة.. فمنذ أن فاز بالأوسكار الأول عام 1992 عن فيلمه
(غير المتسامح
The Unforgiven)،
أقام الدنيا ولم يقعدها حتى اليوم.. ففي عام 1994 حصل على أوسكار
آخر (شرفي) عن إنجازاته خلال مشواره السينمائي الطويل، وفي عام
2004 حصل على أوسكاره الثاني كمخرج عن فيلمه (فتاة بمليون دولار).
كان
ذلك مع بداية السبعينات، حيث يحظر إيستوود في الذاكرة، مع أول
مشاهدة متأملة لنا لفيلمه (من أجل حفنة دولارات)، الذي أنجزه
الإيطالي سيرجيو ليوني عام 1964، وكان هذا الفيلم بالنسبة لنا
بمثابة اكتشاف شخصي مزدوج، لمخرج عبقري وممثل موهوب. فالمخرج
سيرجيو ليوني بدأ بهذا الفيلم سلسلة من أشهر أفلام الكاوبوي سميت
بـ"الإسباغيتي" نسبة إلى إيطاليا.. منذ تلك اللحظة عشقت هذا المخرج
أيضاً، وبدأت أتابع أفلامه أولاً بأول.
كان
أحد أهم أبطال أفلام الإسباغيتي هذه، الممثل المغمور كلينت إيستوود،
والذي كان قد بدأ في هوليوود قبل عشر سنوات. وكان عمله مع ليوني
بمثابة اكتشاف حقيقي لهذا الممثل الموهوب إيستود، والذي أصبح يشكل
ظاهرة سينمائية بحق، حيث من النادر أن يحظى ممثل على هذا التميز في
الإخراج، فهو لم يحصل على الأوسكار كممثل في مشواره السينمائي
الطويل.. ولكنه وفي غضون عشر سنوات حصل على ثلاث أوسكارات.
بدأ
ايستوود الإخراج عام 1971، وبدأ يقدم أفلاما متنوعة، تحمل في
طياتها قوة تعبيرية مدهشة. فقد تعلم ايستوود الإخراج ـ كما يقول ـ
عبر مراقبة عمل المخرجين الآخرين
وبشكل
خاص، مكتشفه الإيطالي سيرجيو ليوني. فاخذ من ليوني إتقانه لشتى
أنواع اطر الصورة وكادراتها الجمالية، وركز اهتمامه على تصميم
الفضاء المصور وكأنه لوحة
راقصة.
ولد
ايستوود في مايو 1930 في سان فرنسيسكو بكاليفورنيا، وبدأ العمل
كممثل ثانوي لدى شركة "يونيفرسال" عام 1955، ولكنه أصبح فيما بعد
من أبرز أعلام
السينما الأميركية، فهو يعمل في السينما منذ خمسين عاما، قدم
خلالها ستين فيلماً، تولى شخصيا إخراج 25 منها، وأنتج 20 فيلماً
آخراً، في مسيرة فنية مبهرة كمخرج وممثل ومنتج. وبذلك فقد حاز على
نجاح جماهيري ونقدي كبير.
|