يعقوبيان.. العمارة والفيلم
عمارة يعقوبيان..
الفيلم، جاء مصحوباً بضجة إعلامية ضخمة، صحبته منذ الحديث عن إنتاجه..
حيث أنه يضم مجموعة من النجوم، قل أن يتوفر في عمل سينمائي واحد.. هذا
أولاً، وثانياً شهرة كاتب السيناريو وصاحب الرصيد السينمائي المتميز..
وحيد حامد.. الذي يثق به المتفرج والناقد على السواء وذلك لنجاح
باختياراته الدرامية.. ثم يأتي العنصر الثالث الذي أعطى للفيلم طعم
آخر.. فالفيلم مأخوذ عن رواية بنفس الاسم كان لها صيت وشهرة سبقت شهرة
الفيلم بأربع أو خمس سنوات.. وتصدرت أغلى المبيعات في المكتبات العربية
أجمع.. لتميزها في الطرح الجريء لذلك الثالوث المحرم (السياسة / الدين
/ الجنس)، وبشكل لافت أيضاً. وأمام كل هذا.. لابد لنا أن نتوقع فيلماً
هاماً.. على أكثر من صعيد.. فهل نجح صناع الفيلم في إضفاء صفة
المصداقية على كل ما سبق من مقدمات..؟!
مما لا يدع مجالاً
للشك، القول بأن فيلم "عمارة يعقوبيان" يعد عملاً استثنائيا بالنسبة
للسينما المصرية.. بل حدثاً هاماً سيظل تأثيره واضحاً لسنوات مقبلة.
فهو إضافة إلى ضمه لخيرة نجوم السينما المصرية، يعد أضخم إنتاج سينمائي
في تاريخ السينما المصرية، حيث تصل الميزانية التي وضعت له الستين
مليون جنية مصري.
ما قرأناه في رواية
الدكتور علاء الأسواني.. كان كثير الشبه بما جاء في الفيلم.. وهذا
بالطبع لا يمكن اعتباره مؤثراً على جودة الفيلم من عدمها.. شخصياً..
أرى بأن غالبية الأعمال السينمائية المأخوذة عن أعمال أدبية.. لم تنجح
في تقديم وجبة سينمائية خاصة بها.. فتجسيد أي عمل أدبي في السينما
يحتاج إلى أيدي خبيرة.. تفهم في السينما كما تفهم في الأدب.. وهذا
الأمر نادر التوفر.. خصوصاً في الوسط الثقافي والفني العربيين.. صحيح
بأن السيناريست وحيد حامد من هؤلاء القلة النادرة.. إلا أن اختياره هذا
قد أوقعه في موقف حرج.. فكيف يتعامل مع رواية مليئة بالأحداث وغنية
بالشخصيات الدسمة درامياً والمتفاوتة اجتماعيا وطبقياً.. لذا كان لابد
له أن يتدارك الأمر ويختار الطريق الأسهل، ويحترم رغبة المتلقي في
إعطائه أكبر قدر مما جاء في الرواية، مكتفياً بتقديم ما قالته الرواية،
دون إحداث تغييرات واضحة لما جاء في الرواية، ودون إضفاء بعد آخر
للصورة يعادل النص الأدبي المكتوب، إلا أن ذلك جاء بأسلوب سينمائي مشوق
ومؤثر في نفس الوقت.. وهذا ما جعل طول الفيلم يقترب من الثلاث ساعات..
وهو زمن طويل جداً نسبة إلى المساحة السينمائية الطبيعية.. وجمهورنا
السينمائي هذه الأيام لا يغفر لأي فيلم طوله غير الاعتيادي.. فما بالك
أن يكون الفيلم عربياً أيضاً.. فكان على وحيد حامد أن يستفيد من خبرته
ورؤيته وذوقه السينمائي المتميز، بالسيطرة على الرواية، وتقليص زمن
الفيلم.. بالسعي إلى تكثيف الأحداث والانتقاء من الشخصيات ما يعطي
للفيلم خاصية التركيز والتعليق بالصورة السينمائية.
في إيحاء واضح بأن
يعقوبيان كعمارة، تجمع شرائح مجتمعية مختلفة بل ومتناقضة، هي بمثابة
صورة مختصرة لمجتمع كامل.. مجتمع يحمل في جوانبه خلفيات اجتماعية وطباع
وثقافات متعددة.. في هذه العمارة يسكن المهندس زكي الدسوقي وهو
ارستقراطي ابن باشا ووزير سابق، أعزب وله علاقاته النسائية العديدة..
وهو يلجأ إلى كريستين صديقته في أصعب لحظاته.. وكشخصية رئيسية، فإن
بقية الشخصيات الرئيسية الأخرى تدور في فلكها.. منهم محمد عزام الذي
ارتقى طبقياً من ماسح أحذية في نفس العمارة إلى رجل أعمال كبير وعضو
مجلس الشعب.. وحاتم رشيد، الصحفي الشاذ جنسياً.. ابن رجل القانون الذي
يملك صحيفة بالفرنسية، ولا يتوانى للدوران في الشوارع باحثاً عن متعته
الجنسية، والتقاط من يعجب بهم.
ثلاث شخصيات، متناقضة
ولا يجمعها سوى السكن في العمارة، شخصيات مهزومة سقطت في بحر ملذاتها،
أو اضطرتها الظروف للسقوط.. ومع إدراكهم بالخطر المحيط بهم، فهم
يحاولون الخروج من أزماتهم بأقل الخسائر.. نراهم أيضاً، عندما أرادوا
البحث عن المتعة يتجهون إلى الطبقة الدنيا.. فبثينة كانت من نصيب زكي،
وعزام تزوج من سعاد، وحاتم استغل حاجة عبدربه وعوزه للمال.. الشخصيات
الثلاث الفقيرة يصاحبها آخرون يسكنون سطح العمارة التي كان ملاذاً
للحيوانات والخدم سابقاً.. وأصبح عالماً مستقلاً لوحده.. من تلك الطبقة
نرى بثينة التي توفى والدها وكان عليها أن تعيلهم مع والدتها.. فتتحمل
الإهانات والتحرشات الجنسية لسداد قوت يومهم.. لدرجة أنها تتخلى عن
حبها في سبيلهم.. والحبيب طبعاً لم يخرج عن هذه الدائرة، حيث أنه ابن
البواب الطالب المجتهد الذي يتمنى أن يكون ضابطاً يوما ما، إلا أن مهنة
والده تعوق ذلك.. لذلك يتجه لدراسة السياسة والاقتصاد، وينظم للجماعات
الإسلامية، للانتقام من معذبه وهاتك عرضه في المعتقل.. لنراه قتيلاً في
النهاية.
لم يحضرني أي فيلم مصري
أو حتى عربي، يتناول قضية اجتماعية ونفسية خطيرة.. مثل قضية الشذوذ
الجنسي.. تلك التي تناولها فيلم "عمارة يعقوبيان" بشكل جريء.. وكان
عنصراً هاماً لجذب قطاع كبير من الجمهور لحضور الفيلم.. والتعليق على
كل لقطة ومشهد يتناول هذا الجانب.. كانت الضحكات والتعليقات تدوي في
الصالة مع كل ظهور لشخصية حاتم رشيد على الشاشة.. كما أنه يحسب لصناع
الفيلم تلك الجرأة في طرح القضية وتناولها بشكل علمي والتطرق لأحد
أسبابها. هذا إضافة إلى أن الفيلم بشكل عام كان يزخر بالمشاهد الجنسية
الساخنة، والتي اقتطعها الرقيب بحذر شديد.. فمع تلك الدعاية المسبوقة
للفيلم.. بأنه سيعرض تحت لافتة (للكبار فقط).. قد جعلت المتلقي يسعى
لمشاهدة الفيلم، باعتبار أن كل ممنوع مرغوب. خصوصاً بعد معرفته بوجود
رموز للإثارة مثل "هند صبري" و"سمية الخشاب".
مروان
حامد.. في باكورة أعماله السينمائية الطويلة "عمارة يعقوبيان".. أثبت
بأنه مخرج متمكن من أدواته الفنية، وهو لم يتجاوز الثلاثين من عمره،
حيث نجح في خلق ذلك التناسق والانسجام بين الأحداث والشخصيات المتفاوتة
درامياً.. وبين أجواء اجتماعية متباينة ومتناقضة وإضفاء تلك اللمسة
السينمائية المؤثرة.. كما نجح في إدارة طاقم الممثلين من نجوم كبار
وصغار.. وإكسابهم أسلوباً منسجماً مع ما يقوله الفيلم، بالرغم من
اختلاف رؤاهم الأدائية.
مروان
حامد.. بعد تجربتين للفيلم القصير لقصتين قصيرتين من قصص يوسف إدريس..
يقدم نفسه في مجال الفيلم الروائي الطويل مع الرواية الأشهر للروائي
علاء الأسواني.. فهو هنا لم يتجه لتنفيذ سيناريو مكتوب خصيصاً للسينما.
ليتضح لنا بأن مخرجنا الشاب، باهتمامه بالاعتماد على الأدب في مشواره
السينمائي، يحاول طرح مضامين جديدة ورؤى سينمائية مغايرة، إلا أنه لا
ينوي الخروج على السينما السائدة ويعمل في نطاقها وتحسين مستواها..
تأثره بالمخرج شريف عرفة كان واضحاً، في تنفيذ الكثير من المشاهد، من
خلال استخدامه لحركة الكاميرا وحجم العدسات والمزج الآلي.. وهذا بالطبع
لا يمنع من أنه فنان أثبت مقدرته على الإمساك بجوهر الموضوع المطروح..
وليدخل في تحدي من نوع خاص.. وهو تحويل عمل أدبي إلى عمل سينمائي..
معتمداً على قدرات كاتب متميز كوحيد حامد.. وقدراته هو أيضاً في إضفاء
الحسي السينمائي، للخروج من التصوير الحرفي للرواية.. ذلك الحس الذي
افتقده السيناريو إلى حد ما.. فقد شاهدنا كيف أن مخرجاً لا يملك تجربة
سينمائية كبيرة.. مخرج شاب ولكنه يملك طموحاً هائلاً، ساعده لكي ينجح
في تقديم مشاهد سينمائية تثير الدهشة.. كمشهد التحقيق والتعذيب
والاغتصاب.. الذي جاء مكثفاً ومؤثراً ويوحي بالبساطة والصدق في نفس
الوقت.. كذلك مشهد مظاهرات الطلاب في الجامعة بذلك الإيقاع القوي من
خلال مونتاج لاهث يوحي بالتوتر والغضب.. أيضاً نجح مروان حامد في كسب
الرهان في تقديم تلك المشاهد الخاصة بالشذوذ الجنسي.. وكان بالطبع
حذراً عندما جعل المتفرج يقبل ويناقش ما رفضه السينمائيون تماماً طيلة
مشوار السينما المصرية عموماً.. ولكن تأثره بالسينما السائدة، قد جعله
يقدم مشاهد كان من الممكن الاستغناء عنها، مثل مشهد الفلاش باك التي
صاحبت مشهد اغتيال الضابط.. فقد جاءت محشورة ولا تفيد المشهد، بل أضرت
به كثيرا، عندما بدت وكأنها توضيح لما هو واضح.. وتفسير يشكك في قدرة
المتفرج وذكائه.
عادل
إمام في هذا الفيلم، يقدم خلاصة خبرته الطويلة في طبيعة الأداء الذكي..
فهو دون جدال قدم شخصية درامية مركبة، تعد من أهم ما قدمه في السينما،
وأكثر أدواره عمقاً وتأثيراً.. ذكرتني بدوره في فيلم محمد خان
"الحريف".. هنا في شخصية "زكي الدسوفي".. قد أعطي الكثير لتكوين
الشخصية وأضاف لها أبعاداً نفسية واجتماعية وحتى جنسية، ساهمت في خلق
ذلك التوازن الذكي من خلال تعبيرات الوجه وحركات الجسد ونبرة الصوت
المتغيرة حسب طبيعة المشهد الدرامي.
نور
الشريف، في شخصية "عزام"، يصل إلى مستوى مذهل من الأداء، يؤكد من خلاله
بأنه قادر على إعطاء كل شخصية من روحه وأداءه الشيء الكثير.. من خلال
الكثير من قدراته المتألقة في فهم الشخصية.
خالد
الصاوي.. كان مفاجأة الفيلم بحق.. فقبوله بقيامه بدور الصحفي الشاذ بعد
رفض الكثير من النجوم للدور، يعد جرأة فنية تحسب لصالحه.. ولعب الدور
ببراعة نثير الدهشة.. حيث أنه قهم أبعاد الشخصية وعبر عنها ببساطة
وعفوية من خلال حركات يده ونظراته الحارة ونبرات صوته الداخلية
العميقة.. لقد سجل الصاوي اسمه في قائمة الممثلين الكبار عندما قدم هذه
الشخصية، فهي بالطبع نقطة فاصلة في مسيرته الفنية.
هند
صبري.. تذهلنا بهذه التلقائية التي تقدمها وتتطور من خلالها من دور إلى
دور.. لتؤكد بأنها من أبرز نجوم جيلها قدرة على الأداء القوي والبسيط
في نفس الوقت.
محمد
إمام.. في دور أول له، يبرز لنا إمكانياته وقدرته على التوصيل الصحيح
لكل ما تحمله الشخصية من تناقضات.. ويؤكد بأنه سيكون له مكان بارز ليقف
في صفوف نجوم المستقبل القريب.
الأدوار الثانوية في فيلم "عمارة يعقوبيان" كثيرة.. وهي تؤكد إمكانيات
لمؤديها لم تظهر في الكثير من الأفلام.. هناك المتألقة يسرا في دور
جديد عليها كمغنية، صحيح الدور صغير عليها.. إلا أنها جسدته وأعطت
فيه.. أما إسعاد يونس، فكانت مفاجأة في دور ثانوي نجحت في تقديم قدرات
أدائية أخاذة لم يتعود عليها المتفرج العربي.. أحمد بدير وأحمد راتب،
قدما في دوريهما الثانويان، أداء يؤكد على خبراتهما في إعطاء الشخصية
ما تستحقه، بل أضافا لمفهوم الدور الثانوي كثيراً.
في
الحقيقة.. الفيلم يزخر بالعديد من الشخصيات الثانوية، وكان من أدوها
على قدر كبير من التمكن وتحمل المسئولية في توصيلها إلى المتفرج بالشكل
الصحيح.. نذكر منهم خالد صالح، سمية الخشاب، باسم سمرة، يوسف داود.
"عمارة يعقوبيان".. الذي شكل حدثاً فنياً متفرداً.. يعد فيلماً هاماً
باعتباره ظاهرة سينمائية استثنائية في الكثير من تفاصيله التي ذكرناها
سابقاً.. وهو كفيلم، سيظل طويلاً في ذاكرة المتفرج والسينما على
السواء.
|